العربيّة هي بوابة تعلّم اللّغات الأخرى

المعلّم هو العرّاب الأخير للغة العربيّة

المعلّم هو من يقود العمليّة التّعليميّة لصالح التّراث ولغته وثقافته عبر خطّة مدروسة ممنهجة.

2022-12-27

د. سناء الشعلان/ الأستاذة والأديبة الأردنية

اللّغة العربيّة في محنة حقيقيّة تقرع طبول الخطر، وتوقد نيران التّحذير، وما نتشدّق به آملين أنّ اللّغة العربيّة لغة لا تموت ما هي إلاّ أقاويل الأوّلين، وأحلام الآخرين، وسذاجة المحدّثين؛ فاللّغة العربيّة في خطر حضاريّ عملاق، لعلّه يكون مأزقها الأكبر، وامتحانها الأصعب، وسؤالها الكبير، وغني عن الذّكر القول إنّ هذه الأزمة لا تنبع من خصوصيّة اللّغة العربيّة، أو من ذاتها، أو من خصائصها، أو من تقصير ما يسمها بالعجز، فاللّغة العربيّة تتوافر على خصائص توليديّة واشتقاقيّة وتركيبيّة قادرة على أن تتعهدها بالنّماء الأبديّ، والتّكاثر الطّبيعيّ الحضاريّ، والتّوالد الحرّ الإيجابيّ، وهي خصائص يندر أن تتوفّر في غيرها من اللّغات من جهة، وتفسّر من جهة أخرى سرّ عبقريتها ونمائها وطول عمرها، وسبب مراهنتنا على قدرتها على الحياة الأبديّة إذا ما توفّرت لها الأسباب لذلك، فضلاً عن أنّها تفسّر قدرتها الفائقة على الاضطلاع بدور النّاقل الحضاريّ التّاريخيّ والاستراتيجيّ في أهمّ حلقات التّواصل الإنسانيّ في العصور الوسطى، إبّان قام بنقل العرب والمسلمون حضارة الأمم السّابقة إلى العالم كلّه عبر مجهود منقطع النّظير والمثال في ترجمة علوم الإنسانيّة من شتى اللّغات القديمة إلى العربيّة، لتكون لغة الحضارة الجديدة ليس في نقلها حسب، بل وفي إنتاجها للجديد في شتّى حقول المعرفة الإنسانيّة بامتياز وإبداع.

إذن نحن أمام سؤال عملاق ملحّ، نلمح ملامحه الشّوهاء بوضوح كامل، إن لم نغضّ الطّرف عنها عامدين قاصدين، نحن في مواجهة سؤال كبير، وهو: لماذا تختنق العربيّة في هذا الوقت دون غيره؟ ولماذا تتراجع إلى الصّفوف الخلفيّة في مدارج الحضارة الإنسانيّة، في حين تعلوها لغات أخرى لتحمل صفات العالميّة والتّواصليّة والحواريّة والمعلوماتيّة والتّفاعليّة؟ في إزاء تراجع اعتباريّة اللّغة العربيّة لتصبح لغة أدبيّة كلاسيكيّة موروثة، لا تصلح إلاّ لشعر الحبّ، ولقصص أيام العرب البائدة والفرسان الغائرين في ذاكرة رمال الصّحراء، بعيداً عن الجديد والمبتكر والحضارة.

في حين أنّ غيرها من اللّغات باتت لغات الحضارة، ووثائق الدّخول الآمن إلى عوالم التّواصل والمعرفة والإنتاج في شتّى أنحاء المعمورة؟

معلّمو اللّغة العربيّة يدركون أنّ الإجابة عن هذا السّؤال الموجع الجارح تتموضع خارج اللّغة العربيّة، ولكنّها تتجلّى فيها، وتكمن في خارج خصائصها، ولكنّها تتكشّف فيها، وتتمحور في معطيات بعيدة عن ذاتيّة معطياتها، ولكنّها تنعكس عليها.

الإجابة بكلّ وضوح وصراحة وصدق عن هذه الأحجية الملغزةّ تتلخّص في أنّ اللّغة العربيّة قد قعدت لما قعدنا، وقد انثت لمّا انثنيا، وقد تأخّرت لما تأخّرنا، وقد انحازت للصّمت لمّا صمتنا؛ لأنّ اللّغة التي تُنتج الحضارة بها يحق لها أن تتكلّم، أمّا اللّغة المتطفل أهلها على حضارة غيرهم، فعليها أن تلزم الصّمت ما شاء أهلها الكسل والتّراجع والنّكوص والتّخاذل.

ومادمنا نعترف بأنّ تأخرّ حضارتنا قد قعد بلغتنا محزونة منكودة شبه مهجورة، وأطلق لغيرها العنان لتركض في مضمار الحضارة رشيقة تسابق الرّيح والزّمن والتّاريخ، فمن واجبنا تجاه هذه اللّغة أن نّفكر بحلّ ناجع لعلّتها المقيمة فيها ما أقام العجزّ والضّعف فينا، وأخال أنّه حلّ بعيد عن الآمال العريضة، والأفكار الوردية الدّافئة النّاعمة المضلّلة، وهذا الحلّ يكمن في جزء كبير منه فيكم أنتم معلمو اللّغة العربيّة؛ فأنتم العرّاب الأخير لهذه اللّغة المتورّطة في ضعف أهلها.

لا يمكن أنّ نفكّر بامتداد للغة العربيّة في أيّ إحداثيّات رأسيّة أو أفقيّة دون أن نعوّل عظيماً على المعلّم والمعلّمة؛ فمن غيرهما القادر على أن يكون حلقة الوصل الممكنة والفاعلة والمؤثّرة التي تستطيع أن تضمن حياة هذه اللّغة واستمراريتها، وتحملَ هوية أهلها عبر ديمومة تواصليّة تبادليّة تفاعليّة.

والحق أقول إنّ الحلّ في هذا الشّأن ليس وصفة سحريّة مضمونة العواقب، ولا هو تمارين سويديّة مكرورة معلومة النّتائج، ولكنّه منظومة من الافتراضات والأولويّات والخبرات المتبادلة، والأنساق المجرّبة والمفترضة والمطروحة وصولاً إلى أفضل تمثيل مفترض لفكرة ناجحة، وهو تعليم العربيّة لأبنائها على صورة سويّة تحقّق لهم الكفاية اللّغويّة، وتحفظ عليهم هويتهم الحضاريّة، وتربطهم بعروة وثقى مع تاريخهم وحضارتهم وموروثهم.

إذن نحن جميعاً في صدد رصد منظومة من الاستراتيجيّات التّعليميّة الكبرى التي تحتمل عدداً غير نهائيّ من التّفريعات من أجل وضع خارطة عملاقة لما يمكن أن يتضافر بعضه مع بعض ليكوّن حلولاً ممكنة لهذه المشكلة العويصة في تاريخ اللّغة العربيّة.

1: معلّم اللّغة ليس معلّم مادّة اللّغة العربيّة فقط

يعتقد الكثيرون عندما نتحدّث عن العربيّة وتعليمها وطرائق ذلك وسبله ودروبه، أنّنا نتحدّث أوّلاً وأخيراً وحصراً عن معلّم اللّغة العربيّة، وهذا ظنّ خاطئ يرتقي إلى درجة المغالطة الكاملة؛ لأنّ من يعلّم اللّغة في العربيّة أو في غيرها من لغات البشريّة ليسوا معلّمي اللّغة ذاتها فقط، ولو كان الأمر كذلك لهان الأمر، وتقلّصت المشكلة، وسهُل الحلّ، ولكن الحقيقة النّاصعة الوضوح أنّ كلّ من يشتغل في درب التّعليم أكان تعليماً أكاديميّاً أم مهنيّاً يمارس التّعليم بشكل ما، كما يمارس تعليم اللّغة بأكثر من طريقة، دون أن ننسى في هذا الشّأن أنّ البشر أجمعين يمارسون تعليم اللّغة لغيرهم عبر نقلها لهم بالمجاورة والمجالسة، ويلعبون دور المعلّم في مرحلة ما من مراحل تعلّم اللّغة، ومن هذا المنطلق تكون الأمّ ثم الأبّ ثم الأخوة والأسرة هم المعلّمون الأوّائل للطّالب، وتتسّع دائرة المعلّم لتشمل الأقارب والجيران والمعارف والمدرسة والعمل والجامعة والمجتمع وكلّ من قابل الإنسان في درب حياته وتجربته اللّغويّة.

ولكنّنا نضرب صفحاً عن أولئك المعلّمين الكثر في درب الحياة، ونقصر الحديث عن المعلّم الوظيفيّ الذي يلعب دور المعلّم في خانة مهنته التي يمتهنها في الحياة، وينطلق منها في صنع هويته وهويّة الآخر الذي يعبر في دربه، وهذا المعلّم هو من يعلّم اللّغة للطّالب، ولذلك عليه أن يدرك ابتداء أنّ وظيفته لا تنحصر في إيصال المعلومة العلميّة بشكل صحيح فقط، بل عليه أن يدرك أنّ وظيفته تشمل بالدّرجة الأولى الحفاظ على النّاقل اللّغويّ في تعليمه، وعليه أن يستثمر اللّغة العربيّة الوظيفيّة في هذا التّعليم؛ فمعلّم الدّين الإسلاميّ أو أيّ دين آخر عليه أن يعلّم مادّته باللّغة العربيّة المبسّطة، وأن يزوّد الطّالب بمصطلحاتها باللّغة العربيّة، وهذا الواجب الحتميّ ينسحب على معلّم الرّياضيّات، ومعلّم الفيزياء، ومعلّم الحاسوب، ومعلّم الأحياء، ومعلّم الفنون، وغيرهم من سائر المعلّمين لمختلف الفنون والمعارف والعلوم والآداب والحرف والتّقنيّات.

دون أن يتعارض ذلك مع سلاسة الطّرح، وخصوصيّة المادة؛ فما يُقال باللّغة العاميّة، أو باللّغات الأعجميّة في خضمّ تدريس مادّة ما، يمكن أن يُقال باللّغة العربيّة البسيطة، وبكلّ يسر وسهولة.

أمّا معلّم اللّغة العربيّة المتخصّص، فدوره أعمق من ذلك؛ فاللّغة عنده ليست أداة للتّوصيل فقط، بل هي هدف بحدّ ذاتها، وهي ترتقي عنده لتصبح لغة الأدب والشّعور والإحساس والفكر، ولذلك يتوسّع المعلّم في تدريسها لتقوم بوظائفها الأخرى فضلاً عن قيامها بدورها الأساسيّ، وهو التّواصل بين البشر.

2: الوظيفة الأساسيّة للغة هي التّواصل لا الكتابة الأدبيّة

يصرّ الكثير من معلّمي اللّغة العربيّة ومن معلّم المواد الأخرى أنّ الهدف الأسمى لتعلّم اللّغة العربيّة هو خلق أكبر عدد ممكن من الكتّاب والشّعراء والمسرحيين والنّقاد، ويصرّون على أنّ دراسة الطّالب للغة دون وصوله إلى مرتبة الأدباء المجيدين فيه هي إخفاق كامل في العمليّة التّعليميّة، ويكون للطّالب النّصيب الأكبر في اللّوم والتّقريع والزّجر على هذا الإخفاق، وينسى المعلّم ذاته أنّه ليس في الأساس كاتباً مبدعاً مرموقاً ليطالب الطّالب المتعلّم بذلك، وأنّ إجادته للغة ببراعة لا تعني أنّه أصبح أديباً، إنّما تعني بالضّرورة أنّه قد أصبح متمكّناً من لغته، وقادراً على أن ينتج منها عدداً لا نهاية له من الجمل الصّحيحة، وقادراً في الوقت ذاته على أن يلبّي حاجاته اللّغويّة بكفاية واقتدار.

ومن هذا المنطلق يجب على المعلّم أن يصبّ جهده اللّغويّ التّدريسيّ على تعلّم الجانب الوظيفيّ في اللّغة واستخدامها، وأن يترك الجانب الإبداعيّ للمواهب والقدرات والملكات، دون أن يمنع ذلك من أن يدرس الطّالب النّماذج الأدبيّة العليا، وأن يتذوّقها، وأن يعكف على دراستها، والدّخول في عوالمها.

أمّا الجهد الحقيقيّ للمعلّم، فيجب أن ينكبّ على تدريس اللّغة من جانبها الوظيفيّ، وأن يجعل من ذلك معياراً لتعلّيم الطّالب وامتلاكه لناصية لغته، وبذلك تغدو كتابة مقالة أو استدعاء أو رسالة أو خطاب وظيفيّ أهمّ بكثير في ميزان الاحتياج والوظيفة والسّياق من تعلّم فنّ قصّة قصيرة لن يقوى على كتابتها، والإبداع في فنّها سوى من فطره الله على ذلك، وملّكه ملكة الكتابة والإبداع والبيان، شاء من شاء، وأبى من أبى.

ومن هذا المنطلق على المعلّم أن يتقن تدريس اللّغة الوظيفيّة، وأن يتابع جديدها في التّدريس، وأن يعلّمها للطّالب عبر التّكرار والنّماذج النّاجحة المطروحة في كلّ مكان من مؤسسّات وجهات ومنظّمات، وأن ينخلع عن الطّرق البالية في تدريسها بما فيها من مهارات مهجورة ممجوجة لا يلتفت الطّالب إليها إلاّ ما ندر.

وعطفاً على هذه الفكرة تكون غاية مواد مهارات الكتابة والتّعبير ليست كتابة نصوص إبداعيّة تزخر بالتّشبيهات والإزاحات وفنون البديع، بل يجب أن تنصبّ ابتداء على تعليم الكتابة الوظيفيّة، في حين تكون الكتابة الإبداعيّة هي وظيفة جديدة وطارئة للّغة ولمعلّميها، ومكان تدريسها ليس في الصّف أو المحاضرة، بل في المواد الإبداعيّة المتخصّصة، والمساقات الخاصّة بذلك، أو ورش العمل المعقودة في سبيل تعليمها، إلى جانب التّوجيه في الأحوال جميعها إلى ضرورة الانكباب على قراءة الجنس الإبداعيّ الهدف لأجل استدخال فنّياته، والتّمكّن منها.

3: العربيّة هي بوابة تعلّم اللّغات الأخرى

يعتقد الكثيرون أنّ العربيّة يمكن تحصيلها طيعة سهلة في صورة لغة ثانية لأبنائها من منطلق الحتميّات الحضاريّة، والقسريّات اليوميّة، لاسيما في حال استقرار العربيّ في مجتمعات غير عربيّة، لا تتحدّث العربيّة، فيعقد المعتقد السّاذج أنّ أفضل طريقة لدمج الجيل الجديد في المجتمع الطّارئ عليه تتمثّل في أن يتقن لغة أهله، وسرعان ما ينساق الأهل والمربون وراء هذه الظّنّ المضلّل. فماذا تكون النّتيجة؟

لن أقول لكم إنّ العرب النّشء سيحكم عليهم بأن يضّعوا لغتهم الأمّ، فهذا أمر مفروغ منه، ولكن الطّامّة الكبرى، وغير المدركة للكثيرين، هي أنّ أولئك النّشء في الغالب المحزن لا يحقّقون الاندماج المنشود في المجتمع الجديد في صورته الحضاريّة، ولا يتقنون اللّغة الأخرى كما يجب، ويبقى عندهم قصور في استخدامها مهما توّهموا الإجادة فيها، وفي كثير من الأحيان يعانون في المراحل المدرسيّة العليا والجامعيّة -إن حالفهم الحظّ للوصول إليها- من تأخّر دراسيّ، ومشاكل تواصليّة معرفيّة مع ما يدرسون، والسّبب في ذلك أنّهم لا يحظون بمعجم لغويّ أسريّ يقدر على أن يقدّم لهم كلمات رديفة لما يدرسون، ويتعلّمون في اللّغة الأخرى؛ لأنّ معاجمهم الأسرية -أعني الأبّ والأمّ والأقارب- هي خليط من العربيّة وغيرها، وهم بذلك لا يصلون بأيّ شكل من الأشكال إلى ضخامة معاجم أهلها المتّحدثين الأصلاء باللّغة المتعلّمة، فيفقدون بذلك الوسيط اللّغويّ القادر على ربط اللّغتين معاً، ويكبرون وعندهم خلل في معاجمهم اللّغويّة، الأمر الذي يؤثّر سلباً على تفوقّهم وتقدّمهم وفهمهم وتواصلهم.

وفي هذا الشّأن أكدّت الدّراسات العالميّة على أنّ الطّفل عليه أن يتمتع بمعجمه اللّغويّ الأصيل في البيت باللّغة الأمّ لوالديه، وعليه أن يتقنها أولاً كي يتقن غيرها، وبخلاف ذلك، لا يمكن أن يستقيم الأمر.

إذن نستطيع القول بكلّ ثقة إن الطّفل العربيّ كي يتعلّم أيّ لغة بشكل صحيح، وكي ينال حظوظه وافرة منها، عليه ابتداء أن يتقن لغته العربيّة الأمّ، وأيّ صوت ينادي بخلاف ذلك، يفقده حقّه المأمول في التّواصل الإنسانيّ والمعرفيّ.

ومن هنا يتجلّى أنّ واجب المعلّم -لاسيما في المراحل الدّراسيّة الدّنيا والابتدائيّة- أن يعلّم الطّفل العربيّة بالعربيّة، دون أن يلجأ إلى تعليمه اللّغة العربيّة بغيرها، أو العكس، فهذا -بكلّ تأكيد- سوف يشوّش ذهن المتعلّم، ويربكه .

4: على المعلّم أن يدرّس اللّغة العربيّة عبر مستواها التّواصليّ اليوميّ

يلجأ الكثير من المعلّمين من باب حسن النيّة، والرّغبة في الاستزادة في أكمل صورها الممكنة والموروثة  إلى أن يسقطوا على طلبتهم تجاربهم أو تجارب آبائهم وأجدادهم في التعلّم الأكاديميّ للغة، وبذلك يلجؤون إلى تعليم العربيّة عبر نصوص مكرورة وقديمة وخارجة عن عصر الطّلبة، وهي نصوص في الغالب قد سقطت بفعل التّقادم الزّمنيّ من حيث قدرتها على التّوصيل والتّواصل، وغدت وثائق أدبيّة وتاريخيّة تصلح لمراحل متقدّمة من تعليم اللّغة لا لمراحل أولى منه.

الطّالب في حاجة  إلى أن يتعلّم اللّغة العربيّة عبر نصوص وأدبيّات وأمثلة ترصد واقع حياته من ظروف ومعطيّات ومتغيّرات ومستجدّات، هو معني – في الغالب- بالتّواصل الإلكترونيّ ” الشات” أكثر من قصائد سقط الزّند، وهو مولع بالشبكة العنكبوتيّة بكلّ اختصاراتها أكثر من قصص أيام العرب، وهو مهتمّ بالقراءة عن علاقة الرجل والمرأة في هذا العالم المنفتح أكثر من القراءة عن طرائف البخلاء ونوادر الكتاتيب، وهو قد يكون حريصاً على اقتناء نصوص عن الفكاهة وعجائب عالم الحيوان ومستجدّات التّكنولوجيا وآخر صرعات الموضة أكثر من حرصه على الاطّلاع على كتاب عن تاريخ ثورة الزّنج في بغداد، أو صناعة الدّواء في العصور الوسطى مثلاً.

المعلّمون والمعلّمات مطالبون بأن يكونوا على درجة من الحصافة تجعلهم يختارون نصوصاً جميلة رشيقة عصريّة تحمل معجماً عصريّاً يستفيد منه الطّالب في حياته، ويجعله يؤمن بجدوى هذه اللّغة في حياته، بدل أن يجزم بأنّه أمام لغة ملغزة معقدة، لا تزال عالقة في الصّحراء قبل قرون بائدة.

وعلى المعلّمين أن يضربوا صفحاً عن المفردات التّالية: العيس، المفازة، الهروط، السّجنجل، البعير، السّقيم، المتيّم، الحجنرش، الصّهصلق، القتام، المدام، العسّال، ثكلتك أمك، لله درّك!

وأن ينحازوا إلى بدائل عصريّة مفهومة لها، وهي: المرآة، الذّئب، الحمار، المريض، المرأة عالية الّصوت، الغبار، الخمر، الصّحراء، أتمنى أن تموت، ما أروعكَ!

أليس من الأفضل والأكثر جدوى أن ننحاز بأبنائنا إلى لغتنا عبر اختيار المناسب منها، بدل أنّ ننفرهم منها بانكبابهم على نصوص قد أكل عليها الدّهر وشرب، لاسيما أن فلسفة عظمة أيّ لغة تتمثّل في تواصليتها المرنة لا في أحفوراتها المدفونة في المجهول.

مع وجوب الانتباه إلى أنّ أيّ تصميم على استثمار معجم خارج عن معارف الطّلبة وحاجاتهم هو هدر للجهد، وفقد لحسّ التّواصل، وبتر لأهمّ وظيفة للّغة، وهي وظيفة التّواصل.

5: الاتّجاه نحو اللّغة التّراثيّة لا يكون قصراً

كثير من المعلّمين المنحازين للعربيّة وحضارتها وأهلها يريدون أن يتواصل الطّالب مع حضارته عبر مخزونها اللّغويّ التّراثيّ؛ ولذلك فهم يقودون طلبتهم قسراً نحو كتاب التّراث حيث اللّغة في سويّة مختلفة، والبيئة التي ألّفت فيها مختلفة تماماً، ويجبرون الطّلبة على مطالعة هذه اللّغة، وأحياناً يجبرونهم على حفظها دون أن يعوا ما يقولون، فنجد طالبة أو طالب ما يحفظ عن ظهر قلب معلّقة من المعلّقات الشّعريّة، أو يحفظ مقامة من المقامات الجزلة اللّغة، ولكنّه لا يفقه معنى كلمة ممّا يحفظ، ولا يستخدم كلمة منها في معجمه اللّغويّ الذي يستخدمه في حياته المعيشة، وفي أوّل فرصة ممكنة يطعم ما حفظ للنّسيان، ويتجاوز التّراث ولغته وأهله ومن فيه، بل وقد ينقلب عليه، فيكره كتب التّراث، ويهجرها دون عودة، وقد حُقّ له ذلك؛ فقد غمس غمساً غير رحيم في مادّة لا علاقة له بها.

والأجدر بمعلّم اللّغة الحصيف أن يقود طالبه بذكاء نحو كتب التّراث عندما تستقيم لغته في مستوى مقبول، ثم يعرّج به إلى عوالم التّراث ونفائس كنوزه بالتّدريج الذّكي الذي يراعي حاجاته وذائقيته واهتماماته، إلى أن يخلق له آصرة حقيقيّة مع هذه اللّغة التّراثيّة بما يسمح له بأن يكتشف لغته وتراثه وكنوز ثقافته، وأن يفهمها كما يجب، وأن يفتخر بها، وأن يروق له أن يستخدم منها ما يناسب حياته وثقافته.

والمعلّم هو من يقود هذه العمليّة التّعليميّة لصالح التّراث ولغته وثقافته عبر خطّة مدروسة ممنهجة يتخيّرها وفق الطّالب وعمره وبيئته وثقافته ووعيه واهتماماته.

وهذه الخطّة الممنهجة يجب في الدّرجة الأولى أن تراعي بيئة الطّالب وطبيعة حياته وظروفه؛ فما حاجة الطّالب الذي يعيش في المدينة أن يحفظ كتاباً كاملاً عن أنواع البُعران والنّوق وأسماء أعواد الخيمة وأماكن الصّحراء القاحلة؟

إنّه لا شكّ في حاجة أكثر إلى أن يطّلع على كتاب عن تكوين الدّواوين في الحياة المدنيّة العربيّة، وعن مسيرة الجيوش، وعن أعلام النّهضة والثّقافة والفكر والمقاومة والّثورة.

6: يجب أن تكون اللّغة وعاء الحياة الاجتماعيّة والفكريّة والعمريّة والمعاشيّة

المعلّم الحصيف وصاحب الدّراية بطبيعة النّفس الإنسانيّة يكون حريصاً على أن يعلّم اللّغة العربيّة منذ المرحلة الأولى عبر مفاهيم ونصوص يوميّة، وبذلك يربط اللّغة بهدفها الرّئيس، وهو التّواصل، وغير خافٍ على حاذق أنّ هذا الرّبط يؤكّد قيمة المعنى، ويربطه بسياقات أخرى محتملة ومتشابهة، وينمّي معجم الطّالب، ويزيد ثقته بهذه اللّغة التي تلبّي حاجاته اليومية بدل أن يبحث عن هذه التّلبية المشروعة في لغة أخرى.

فضلاً عن أن هذه النّصوص تقدّم له متعة تشدّه إلى تعلّمها دون قسر أو ضجر أو ملل.

وفي ضوء ذلك نستطيع أن ندرك قيمة جدوى نصّ عربيّ رصين يتكلّم عن الأزياء، أو الرياضة، أو رحلات الصّيف، أو علاقات الآباء بأبنائهن، أو الحميات الغذائيّة وجنون النّحافة وفرط السّمنة، أو عوامل الشّخصيّة الجذّابة، أو عادات الزّواج عند الأمم، أو غيرها من المواضيع الحيويّة ، في إزاء مواضيع جامدة مكرورة ومملة، تقتل كلّ رغبة تواصل في النّفس عند الطّالب السّائر في درب اللّغة.

7: الأمثلة الواضحة البعيدة عن التّكلّف والتّكرار والتّلقين هي أفضل طرق التّعليم

يبالغ معلمو اللّغة العربيّة أحياناً حين يقدّمون اللّغة العربيّة محبوسة في أمثلة مكرورة بالية حتى نكاد نموت قرفاً من عمرو الذي يضربه زيد دون توقّف في الأمثلة النّحويّة، ونكره التّفاح لكثرة ما أكل الولد التّفاح، ونتقزّز من الحليب؛ لكثرة ما شرب الطّالب إيّاه في جمل النّحو، ونملّ من الولد الذي زار صديقه في الأمثلة جميعها، ونشفق على اللّص الذي ضربه الشّرطيّ دون توقّف، وهي كلّها أمثلة تكرّس السّلبيّة والخوف والملل، والبعد عن الذّائقية الرّاقية والخلاّقة القادرة على التسرّب إلى حياتنا في مناحي حياتنا جميعها، لتشكّل لنا كفاية لغويّة حقيقيّة، إلى جانب التّصوّر الفكريّ لها، فتكون أمثلتنا من صميم حياتنا وأفكارنا وسياقاتنا.

ومن جهة أخرى يهرب بعض المعلّمين من هذا المأزق إلى مأزق أشدّ عندما يغرقون في سياقات تهويميّة لا يعرف إلاّ الرّاسخون في العلم ماذا تعني، وقد لا يعرفون ذلك في بعض الأحوال.

فما معنى أن يكتب المعلّم على الصّبّورة: الأفكار الخضراء تعيش حياة مرنة رطبة في الأنفس الحارة الاستوائية؟ وما معنى أن يقول: الجندريّة مغامرة متناهيّة متلازمة لتقعير الأفكار القرمزيّة؟

هل هناك من يستطيع أن يقول لي ما معنى هذا الكلام الكبير الصّغير  المهّم السّاذج في آن؟ هذا الكلام بلا شكّ هدر للفرص الذّهبية للتّعلّم الجاد المتواصل، فنحن مطالبون بهجر هذه السّياقات المتشدّقة العمياء.

8: تعليم اللّغة العربيّة وفق قرائن ومجموعات لا كلمات فرادى

لعلّنا مررنا جميعاً بتجربة ليّ التعلّم، وكسره عندما تعلّمنا لغة ثانية في صغرنا، كالانجليزيّة أو الفرنسّية، حيث تعلّمناها بطريقة القوائم الصّماء؛ فكان المعلّم أو المعلّمة يحبسنا طوال العام مع دفتر عملاق مرقوم بمئات الكلمات الجديدة، ويجعلنا نسمّيه “دفتر المعاني”، ثم نخرّقه حفظاً ونسخاً وإعادة وجهلاً، ونتفاجأ في الامتحان بأنّنا لا نتذكّر من هذه القوائم العتيدة من الكلمات إلاّ النّزر القليل المشوّش، عندئذ نلوم أنفسنا على تقصيرنا، أو نلعن النّسيان لعناً موصولاً، وسيان هما الأمران؛ إذ كنّا نخرج في نهاية المطاف خالي الوفاض من الكلمات.

وما كنا لنعرف حينها أنّنا معذورون في خسارتنا؛ فما هكذا يكون التّعليم، فالتّعليم المعجميّ يكون عبر الإلحاح على استخدام الكلمات في سياقات كثيرة ومتنوعة ومكرورة، حتى يتأتّى لعقل الطّالب أن يحفظ هذه الكلمة في ذاكرته عبر الطّريقة العلميّة للتذكّر والحفظ في الدّماغ، وهي الحفظ عن طريق المجموعات والقرائن.

فالعقل البشريّ كما تذكر الأبحاث العلمية المستفيضة لا يدّخر المعلومات آحاداً وفرادى، بل زمراً ومجموعات يختزلها في قرائن ظاهرة أو خفيّة.

فمثلاً عندما ترى ربطة عنق خضراء في السّوق، تتذكّر والدك؛ لأنّك أهديته ربطة عنق مشابهة في عيد ميلاده الماضي، كما تتذّكر عيد ميلاد رئيسك في العمل الذي كان البارحة، كذلك تتذكّر أحمد زميلك في العمل الذي أحضر هدية للرئّيس بمناسبة عيد ميلاده.

والسّبب في هذا التّذكّر المتداعي المتسلسل أنّ عقلك قد خزّن في مجموعة واحدة المعلومات عن عيد ميلاد والدك، وربطة عنقه الخضراء، وعيد ميلاد رئيسك في العمل، وعن هدية أحمد، وربطها سويّاً بقرائن وفق شروطه الدّاخليّة، ومجرّد استدعاء أيّ كلمة من هذه الكلمات عند الحاجة إليها، تُستدعى باقي الكلمات الأخرى بما يصاحبها من  مشاعر وانفعالات وحالات نفسيّة مرافقة لها.

ولذلك علينا أن نستثمر المفردات في سياقات تكامليّة استدعائيّة قادرة على تأمين تذكّر أكبر عدد من الكلمات ضمن دوائر سياقيّة واحدة مفترضة مثل: الوطن، الجمال، السّعادة، التّضحية، الدّفاع، التّعاون المحبة، الجنود، المواطنون، السّلطة. وهي كلمات يجب أن تكون في منظومة واحدة.

كذلك يجوز أن نضع في منظومة واحدة كلمة: أمي،أبي، الأولاد،البيت، الأمن، الاستقرار، المعيشة، اللّقاء، الاجتماع. وهكذا دواليك.

9: حسن الاختيار والانتخاب من الحقول الدّلاليّة الواحدة

يُشاع أنّ اللّغة العربيّة كثيرة المترادفات للدّلالة على ذوات واحدة، وهذا القول خطأ شائع حتى في أوساط المعلّمين لا المتعلّمين فقط، فالعربيّة لغة دقيقة إلى درجة متناهية، وغنية في آن بالكلمات، وإنّما ما يسمّى بالمترادفات هو حقيقة كلمات تنتمي إلى حقول دلاليّة واحدة. فمثلاً: الأسد، وأسامة، وقسورة، وحيدرة، واللّيث، والشّبل، والهزبر، ليست جميعاً أسماء للأسد ذاته، أو مرادفة واحدة للكلمة عينها، بل هي كلمات تدلّ على نوع الأسد، ووفقاً لذلك فالأسد مختلف في بعض صفاته الخَلقيّة عن قسورة، أو عن حيدرة، أو عن اللّيث.

ولذلك علينا أن نميّز بينها، أو أن نترك ذلك إلى حين قد يطول، أو قد يقصر، وننتخب حتى ذلك الوقت أسهل الكلمات الدّالة وأشهرها، وهي كلمة الأسد بدل التّورّط في عشرات التّسميات له، وبذلك نتتخب كلمة حبّ من مجموعة كلمات حقل الحبّ العملاقة، ونختار كلمة سيف من مجموعة حقل دلالة سيف بما يضمّ من كلمات كقاطع وبتّار وحسام وباتر وغيرها.

وبذلك يتوسّع معجم الطالب أفقيّاً، وهو الأجدى، بدل أن يتوسّع رأسيّاً، وهو الأقل جدوى في عملية التّعليم، وله أن يكمل بعد ذلك التوسّع بشكل رأسي ومأمون إذا ما أمسك بأوّل زمام اللّغة، وهجر ركن القطيعة مع لغته الأمّ.

وفي هذا الشّأن على المعلّم أن يقبل بالكلمات الفصيحة الدّنيا؛ لأنّها امتداد حقيقي للفصحى، وعليه كذلك أن لا يعاملها على أنّها عامية؛ لأنّها ليست أبداً كذلك، مثل كلمة شاف بمعنى رأى، وبس بمعنى فقط أو يكفي، وحكى وسلف وهرج بمعنى قال، بل إنّ من واجب المعلّم أن يبيّن للطّالب أنّها كلمات فصيحة لا عاميّة، وأن يعرّفه أن استخدامه لها هو فصاحة لا انحراف نحو العاميّة على حساب الفصحى، وبذلك يركن الطّالب إليها ليعلم بأنّه يستخدم عربيّة فصيحة في مستوى أدنى من العربيّة الأدبيّة العليا، بدل أن يبحث عن ضالته اللّغويّة من المعاجم الأجنبيّة.

فبذلك  يجنح الطّالب عن استخدام كلمات أجنبيّة مواتية له، ويستخدم كلمات عربيّة متداولة وشائعة،هي فصيحة حقيقة على الرّغم من الاعتقاد السّائد المغلوط بأنّها عاميّة، مثل: شاف بمعنى رأى، وبِزْر بمعنى حبوب النّبات، وحَرْدان بمعنى غاضب، و حطّ بمعنى وضع، وخبّص بمعنى أخطأ أو أساء أو خلط، وخبط بمعنى ضرب، وزحلق بمعنى تزلج، وقدّام بمعنى أمام، وكركر بمعنى اشتدّ في الضّحك، ولبط بمعنى ضرب، مغمغ الكلام بمعنى أبهمه، ونتش بمعنى استخرج أو أخذ على قوة، ونغّص بمعنى كدّر العيش،ولم يهنأ به، ونكز بمعنى دفع، وِرِشْ بمعنى كثير الحركة، والوشوشة الكلام سرّاً، أي نجوى، أيش بمعنى ماذا، وبس بمعنى اسكت، هوشة بمعنى مشاجرة، وخشّ بمعنى ادخل، وعِقِب بمعنى أولاد، وعيّان بمعنى مريض، وعيّل بمعنى طفل، وبصبص بمعنى تلصّص، وفشّ غلّه بمعنى أرتاح مما فيه نفسه من غضب. وغيرها من الكثير من الكلمات.

10: تنقية اللّغة العربيّة من المستوردات اللّغويّة من غيرها من اللّغات

في ظاهرة تعريب غريبة تشهدها اللّغة العربيّة في الوقت الحاضر نجد المتحدّثين بالعربيّة يصنعون قوالب لغويّة جديدة هي مزيج من العربيّة وغيرها من اللّغات بما يسمّى تجاوزاً بـ ” العربيز”، مهشمّين بذلك الكلمة العربيّة، وفاتحين إيّاها على مبانٍ لغويّة مغلوطة، وهي ظاهرة خطيرة تهدّد الأمن اللّغويّ للعربيّة برمّته إذا ما استمرّت بالتوسّع والتفشّي على شاكلة ما هو عليه الآن.

ومعلم اللّغة العربيّة مطالب بالدّرجة الأولى بعدم التوّرط في هذه الظّاهرة في غرفة التّعليم، ومن ثم تسليط الضّوء عليها، والإصرار على الالتزام بالبدائل العربيّة الفصيحة بدل تلك الكائنات اللّغويّة الهجينة الخارجة عن جسم اللّغة العربيّة.

فعليه مثلاً أن يصرّ على قول ألغيت بدل (كنسلت) أو (أكّست)، ومحوت بدل (فرمتت)، وضاعفته بدل (دوبلته)، ومُخطّط له بدل (مبرمج) له، وتجمّلت بدل (تمكيجت)، وصغته بدل (فبركته)، وحالفني الحظّ بدل (شنّصت) معي، وفُصلت من العمل بدل (فنّشوني) منه، وغلّف بدل (بكّت)، وحفظ بدل (سيّف)، وغيرها.

والقائمة تطول، وتكاد لا تنتهي في هذا الشّأن، والمعلّم يدركها بسهولة، ولكن التحدّي يكمن في قدرته على فرض الصّيغة العربيّة على نظيرتها الهجينة في خضمّ عدوى مستشرية في استخدام النّظير الأعجميّ بدل العربيّ لا سيما أنّ الحضارة تُنتج في الوقت الحاضر -في غالب الأحيان- بغير اللّغة العربيّة، ولذلك المنتج الحضاريّ يصدر بالكلمة الأعجميّة لا باللّغة العربيّة؛ ولذلك يحسن بالمعلّم أن يجنح إلى متابعة الكلمات المعرّبة التي تعتمدها المجامع العربيّة في نشرتها الدّوريّة المتتالية.

11: تقديم اللّغة العربيّة في سياقات وظيفيّة لا في سياقات تنظيريّة

تتوافر اللّغة على مقدار تنظيريّ عملاق استغرق إنجازات الكثير من منظري اللّغة العربيّة عبر عصورها المديدة، وهو بُعد عقلي صِرْف هدفه عقلنة اللّغة، وتقعيدها وفق أسس مقننة لا اعتباطيّة، ولذلك علينا أن نحترم هذا التوّجه في العربيّة وأن نصوّغه، ولكن عندما ندخله في مناهجنا، فإنّنا نحوّل اللّغة العربيّة إلى قواعد جامدة ومعقّدة، يصعب حفظها أو استحضارها، ولذلك من المهم أن يقدّم المعلّم اللّغة العربيّة في سياقات وظيفيّة يتقنها الطّالب عبر قوالب مكرورة، بدل أن ينفق وقته في حفظ رموزها ومعادلاتها وسبر علاقاتها.

فالأجدى أن يتعلّم الطّالب أن يصوغ كلمة راكب من ركب، وعاشق من عشق، وسابح من سبح على أن يعرف أنّها اسم فاعل، ولا يجيد اشتقاقها. ومن الأجدى كذلك أن يتقن وصفاً حالة قدومه بمسرع أو سعيد أو مبتهج، بدل أن يعرف أنّه حال، ولا يجيد صياغته.

وكلما أتقن المعلّم تركيب الحالة السّياقيّة في ذهن الطّالب زادت كفايته اللّغويّة، وانحاز تلقائيّاً إلى استخدامها وتوظيفها والتّواصل بها.

كذلك علينا أن لا نتناقض عند توصيفنا للغة إن اضطررنا إلى ذلك، فعندما نقول إنّ الفاعل في العربيّة هو من قام بالفعل كقولنا: جاء الوفد المشارك في المهرجان، فالوفد هو من قام بفعل المجيء.

ولكن كيف نستطيع أن نعلّل قيام الفاعل بدور المفعول به في جملة مات الرجل أو نبت الزّرع، أو كبر الصّغير؟  فالرجل لم يمت من تلقاء نفسه، والزّرع كذلك لم ينبت من تلقاء نفسه، والصّغير لم يكبر من تلقاء نفسه؛ بل هناك قوى معلومة للجميع قامت بذلك، وهي قوة الله عزّ وجل.

في حالة مثل هذه علينا أن نقول للطّالب إنّ للنّحو العربيّ منطقه النّسقيّ الدّاخليّ الخاصّ الذي تنتظم الجمل به، ولكنّه غير ملزم بالانصياع للمنطق الخارج عن ذاته، ولذلك يجوز أن نجد في العربيّة في بعض الأحوال أنّ الفاعل حقيقة هو المفعول به، وأنّ المفعول به هو حقيقة الفاعل، وأنّ اسم الفاعل هو اسم المفعول به.

12: دور المعلّم في تغيير الصّورة السّلبيّة للعربيّة

إن كان هناك قوة فاعلة ومؤثرة قادرة على تكوين جيل يعتزّ بلغته وهويته ومكانته، ويطمح إلى غد مشرق مسعود، فهذه القوة بلا شكّ هي قوة التّعليم.

إذن لاغرو أن نعوّل على المعلّم في أن يقدّم صورة إيجابيّة للغة العربيّة ابتداء عبر نفسه، مروراً بخصوصيّة اللّغة عبر منظومته في الاختيار والانتقاء، انتهاء بالثّيمات الكبرى والملحّة التي يطرحها، ويلحّ على وجودها فيما يدرّس، بل إنّه قادر على استيلادها وتشكيلها في كلّ  ما يدرّس في حالة كانت معدومة في النّص الهدف.

وفي الشّأن نفسه على المعلّم أن يخرق الصّورة النّمطيّة السّلبيّة الشّائعة لمعلم العربيّة، وهي صورة تقليديّة توارثتها كتب التّراجم -اعتباطاً حيناً، ومن منطلق الحقيقة في أحيان أخرى- عندما ألحّت على أن يكون معلم العربيّة سيء الهندام، صعب المراس، قليل الفكاهة، كثير التعنّت، شديد التزّمت والنّزق، يتشدّق باللّغة في غير مكانها، ويتقعّر في الكلام حتى يغلق على ذهن السّامع، وينفّر المتواصل معه، ويجعل منه أضحوكة حقيقيّة، وبذلك ينفّر الجميع من اتّباع نموذجه الذي يُفترض أنّه يجب أن يجيّر لصالح اللّغة.

ويأتي الكثير من المعلّمين والمعلّمات ليأكّدوا هذه الصّورة السّلبيّة عبر أذواقهم وعصبيتهم ومحافظتهم المفرطة على التّقعّر في اللّغة.

وهي صورة منفّرة جعلت الكثيرين من أهل اللّغة والحسّ القويم من أهلها يسخرون من أولئك المعلّمين، ويصفونهم بالبله والعته والحمق وثقل الظّل، ويصنّفون المصنّفات في السّخريّة منهم، حتى وصل الأمر بالعرب أنّهم كانوا يسخرون من معلّم الصّبية، ويستخفّون بعقله، ويعيبون على المرء أنّه معلّم كتاتيب أو صبية؛ لطول صحبته للأطفال، وأخذه من طباعهم وعقولهم وسذاجتهم، وفي الوقت ذاته نرى الكثير من المؤلّفين والكتّاب يسخرون من أولئك الذين يصمّمون على أن يحدّثوا العامة والدّهماء بلغة الثّقافة، فيخاطبون صبيّ الحمّام بلغة العلماء وأهل الحجاج والمنطق، وهذه سخف ما بعده سخف؛ لأنّه بكلّ بساطة يمنع اللّغة من أن تقوم بدورها بالتّواصل، ويمنع الطّرف المتلقّي للخطاب من فهمه.

ويبقى السّؤال معلّقاً: ألسنا في حاجة حقيقيّة إلى معلمي لغة عربيّة يكونون مثالاً حضاريّاً إيجابيّاً لسدنة اللّغة ومعلميها وحاميها؟ فيمثّلون قيم الجمال والحياة والظّرف وحسن التّخلّص، وإجادة تقييم المواقف، كما يملكون حسّاً عالياً باختيار المواضيع الحيويّة التي لا تنفذ فقط إلى اللّغة بل إلى ما قبلها من أفكار، وإلى ما بعدها من تفاعل.

13: دور المعلّم في تغيير أحواله ليتحسّن عطاؤه

العمليّة التّعليميّة المّثلى للّغة العربيّة أو حتى لغيرها من اللّغات لن تتحسّن بشكل جذريّ وملحوظ إلاّ عند الارتقاء بأحوال المعلّم وظروفه؛ فلا يمكن له أن يُعطي على خير وجه إلاّ إذا كان في أحسن حال من النّواحي جميعها، وعبء هذا التّغيير نحو الأحسن يقع ابتداء على كاهل المعلّم نفسه الذي عليه أن يطالب بحقوقه، وأن لا يرضى بغير الأفضل حتى يُتاح له أن يقوم بدوره المأمول في التّربية والتّعليم والقيادة الطّلائعيّة المتفتّحة.

ولذلك على المعلّم أن يطالب بتوفير الإعداد العلميّ والتّربويّ والمهنيّ له، إلى جانب توفير الظّروف الملائمة والمشجّعة له من حوافز ورواتب وإجازات وتأمينات، فضلاً عن توفير بيئة مدرسيّة مناسبة له؛ ليستطيع القيام بالتّدريس بكفاءة واقتدار, وقبل ذلك كلّه يجب أن يطالب المعلّم بتحسين وضعه الماليّ والإداريّ والاعتباريّ، وتوفير الأمن الوظيفيّ له، وتأمين الحوافز الماديّة والمعنويّة له، وتخفيف من أعبائه الوظيفيّة؛ ليتسنّى له أن يقوم بواجبات مهنته على أكمل وجه يُرتجى؛ إذ لا يمكن أن نتوقّع عطاء تعليميّاً فعّالاً وصادقاً وحصيفاً من معلّم منكود مقهور مغلوب على أمر.