يحظى النازحون في محافظتي الوسطى ورفح التي تزدحم بأكثر من مليون ونصف مليون إنسان بفرصة البوح عما يختلج نفوسهم في مواقع التواصل الاجتماعي. ربما هم ينوبون في هذه المهمة عن باقي المناطق التي لا يتوفر فيها إنترنت وأي من شبكات اتصال.
خلال الأيام الماضية، شاع عبر منصتي فيسبوك وإنستغرام وسم #أخبر_من_تخاذل كيف_كانت_حياتك. تحت هذا العنوان، نشر المتفاعلون مقتطفات مصورة من الحياة التي كانوا يعيشونها قبل الحرب.
في تلك النوستالجيا الجماعية، تظهر مشاهد البيوت الأنيقة، وجلسات الحدائق والمطاعم، وطريق الذهاب الصباحي إلى العمل، حيث القهوة رفيقة الرجال، وسهرة على شباك شفاف مع قطرات المطر وكوب من القهوة المحلاة، وجلسة على شاطئ البحر، ورفقة الأطفال فيما يقرأ رجل العائلة كتاباً أو صحيفة… تلك التفاصيل وأكثر استعرضتها آلاف المنشورات أخيراً.
في السنوات العشرين التي سبقت الطوفان، كانت حياة الناس قد انتقلت إلى مستوى مغاير عما يتصوره من يشاهد حالهم اليوم. برزت في المجتمع طبقات تعيش أعلى مستويات الرقي. ومجاراةً لتلك الطبقة، افتُتحت المطاعم الراقية والمدن الترفيهية والمراكز التجارية الكبيرة التي تضاهي تلك التي تحفل بها أكبر العواصم التي التحقت بركب الحضارة أخيراً.
الطبقة المتوسطة أيضاً سعت جاهدة للانزياح بحياتها إلى تلك الطبقة، واستطاعت أن تبني لنفسها نسقاً حياتياً شديد النموذجية: شقة سكنية ممتازة، وجدول حياة منتظماً يتضمن في خلال أيام الأسبوع زيارات للعائلة ووجبة عشاء في مطعم يتناسب مستواه مع مستوى العائلة المادي، ويوماً ترفيهياً.
والحق أن ذلك النسق استطاع إلى حدٍ ما أن يسير جنباً إلى جنب مع حياة الفقراء والمعوزين والعاطلين من العمل. لذا، لم يكن من السهل أن تستدل عن حقيقة الوضع المادي لأكثر الناس من مظهرهم، إذ كانوا يلبسون أجمل الثياب، ويجتهدون ليحصلوا منزلاً يجهزونه بمتوسط ما هو جميل من أثاث.
أما التعليم، فقد كان أولى أولويات العائلة، إذ تشير آخر الإحصائيات التي سبقت الحرب إلى أن ما نسبته من 96.4% من ذكور المجتمع الغزاوي وإناثه حظوا بتعليم ثانوي وجامعي، وهي النسبة الأعلى عربياً في منطقة هي الأكثر فقراً.
بدا الأمر في تلك الحملة كأنه حاجة نفسية، شيءٌ يشبه الاعتذار للذات عما تعيشه من ويلات الحرب أو لإرضاء الأنا العزيزة، واعتذار أيضاً لكلّ مظاهر الأناقة والرقي والمكانة الاجتماعية التي داستها الحرب، فأجبرت الناس على تلقي مساعدة أو القتال لتحصيل بضعة أرغفة أو البحث عن الحطب وحمل الماء والمشي عشرات الكيلومترات مشياً على الأقدام.
ثمة الكثير مما يمكن أن تفسر فيه تلك الدوافع، تقول ضحى أحمد التي نشرت عبر صفحتها مقاطع لمنزلها المدمر وتفاصيل من حياتها اليومية قبل الحرب: “والله ما فيه هدف معين، بحب أتذكر أيام ما قبل الحرب، زمان ما كنت أنشر صور لبيتي خوف من الحسد. واليوم، بعد ما كثير من صديقاتي شافوني وأنا ساكنة بخيمة، وبتنقل على عربة حصان وأنا لابسة ثوب الصلاة، بحس إني محتاجة أفرغ نفسياً، وأقلهم كيف كنا عايشين، أرقى الناس وأكرمهم”.
عبد الله شرشرة، وهو حقوقي كان يعمل مستشاراً قانونياً في مؤسسة بيت الصحافة، شارك أيضاً مشاهد من حياته في فترة ما قبل الحرب. وعن دوافعه، يقول: “الحرب كانت غير متوقعة، لهيك انقلبت حياتنا رأساً على عقب، احنا اكتشفنا حالنا بعد 125 يوم، إنا نازحين في مكان غريب، ما بتعرف عنه شيء، لما شفت الهشتاغ، تبادر لذهني أحكي للناس كيف كانت حياتي، كنت أعمل في مؤسسة مرموقة، بشغل منصب محترم، كانت عندي شقتي الخاصة وطقوس حياتي وروتين عمل ومساحة من الترفيه والترويح عن نفسي بشكل يومي، كل هذا اختفى، وبتلاقي إنو هذه الحرب غيرت الميزان الاجتماعي للناس، اللصوص أصبحوا أثرياء، والناس اللي كانوا أغنياء دمرت مصادر رزقهم وباتوا في الخيام، الناس اللي كانوا على هامش الحياة، وفي وسط مطحنة البقاء، إنت محافظ على جزء من معاييرك الأخلاقية والقيمية، مش قادر بسبب هالقالب تنذل في انتظار طابور الخبز أو تلقى المساعدة، وبهيك ما بتقدر تأمن مستلزمات ابنك أو زوجتك”.
يتابع شرشرة شارحاً: “والأهم مما سبق هو تصحيح رؤية الناس إلى بيحكوا معك من خارج غزة، هما ينظرون لك على إنك شخص مثير للشفقة، كأنك ضحية فقط على هامش الحرب، وقصة حياتك بعد 35 من وجودك على الكرة الأرضية تتلخص في ما أنت فيه الآن؟ لأ حبيت أقلهم من خلال الهشتاغ بطريقة غير مباشرة، إنو أنا شخص ناجح وكنت في أوج صعودي ونجاحي، وكنت آكل أحسن أكل، وأسكن في أجمل مكان، وكنت شايف غزة حتى في ذروة مآسيها إنها أحلى مكان في العالم، وإنو ما تتعاملوا معنا بمنطق الشفقة على شخص انقصف بيتوا ومش قادر يأمن اللقمة لعيلته الآن”.
أ.ش