تحت ظلال الأشجار التي تتوسط أحد المباني المهجورة في مدينة كسلا، شرقي السودان، ينام عشرات الأطفال الأيتام فاقدي السند، وأمواج البرد القارس تنهش أجسادهم النحيلة في غياب دفء الأبوة والأمومة، وهم يواجهون شبح الموت في صمت، بعد أن باتت حياتهم متوقفة على جهود متواضعة يقودها متطوعون.
يرتفع بكاء هؤلاء الأطفال وأغلبيتهم في طور الرضاعة، مع حلول المساء، وهي صرخات استغاثة متواصلة لا تجد من يسمعها طوال فترة الحرب التي اندلعت بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، في منتصف شهر نيسان/أبريل الماضي، لتصطدم بأحد الجبال المجاورة ويرتد صداها عليهم مجدداً، معلناً استمرار المأساة.
ظلت أجساد اليتامى نهباً للجوع والمرض على مدار الأشهر الـ9 الماضية. ونتيجة لذلك، تُوُفِّي 85 طفلاً منهم خلال الفترة التي أعقبت نشوب الحرب، بحسب ما كشفه مسؤول في مركز إيواء الأطفال فاقدي السند في مدينة كسلا، منبهاً إلى أن آلة الموت لا تزال تواصل حصد الأطفال الأيتام، وأن الأوضاع في طريقها إلى كارثة إنسانية ما لم تحدث تدخلات عاجلة.
ولا يزال أكثر من 350 طفلاً، بينهم 180 دون الخامسة، يكافحون للبقاء في قيد الحياة، تحت ظروف إنسانية بالغة السوء، تتجلى بنقص الرعاية الطبية والغذاء، مع رداءة المخيم الذي تم إيواؤهم به، وفق المسؤول نفسه.
ويشير المسؤول، الذي طلب عدم ذكر اسمه، إلى إهمال كبير يواجهه الأطفال الأيتام، إذ ينامون على الأرض وفي العراء، على رغم برودة الطقس ليلاً، وارتفاع درجات الحرارة خلال أوقات النهار، في ظل تجاهل ملحوظ من جانب السلطات الحكومية المعنية في ولاية كسلا، بينما تواجه الأمهات المرضعات الإهمال نفسه، فلا يحصلن على التغذية اللازمة، الأمر الذي يجعلهن عاجزات عن القيام بدورهن تجاه هؤلاء الصغار.
رحلة المعاناة
رحلة معاناة الأطفال الأيتام بدأت مع اندلاع الحرب في الخرطوم، فظلوا عالقين في مقر إيوائهم في دار “المايقوما” المجاورة لقيادة الجيش السوداني، أسابيع تحت نيران القتال، بعد حجب دوي المدافع والطائرات أصواتهم وصرخات الاستغاثة التي أطلقوها في تلك الفترة، التي شهدت انقطاع الحليب عنهم، وعدم تمكن المرضعات المتطوعات من الوصول إليهم، وكانوا على شفا الموت الجماعي، فكُتبت لهم النجاة.
وبعد إجلائهم عن تلك المنطقة الملتهبة، كانوا على موعد مع فصل جديدة من مآسي النزوح وويلاته، فتم إيواؤهم في أحد المباني في مدينة ود مدني، عاصمة ولاية الجزيرة، وسط السودان، تحت أوضاع إنسانية صعبة، لكن الأمر ازداد سوءاً عقب انتقال الحرب إلى تلك المنطقة، في كانون الأول/ديسمبر الماضي، ليواجهوا مصير النزوح مجدداً، إذ هربوا بعيداً هذه المرة إلى مدينة كسلا عند حدود البلاد الشرقية.
وفي كسلا، بلغت مأساة الأطفال اليتامى ذروتها، إذ تم إيواؤهم في مركز أقصى شرقي المدينة بالقرب من جبال توتيل، وهي منطقة قاحلة مليئة بالمخاطر الأمنية، وتشهد نشاطاً لعصابات الإتجار بالبشر والجرائم العابرة. كما يفتقد المبنى، الذي يقيمون به، الغرف الكافية، الأمر الذي أجبر بعضهم على النوم تحت الأشجار في أبشع صور المعاناة.
ويروي رضوان، وهو أحد الشبان فاقدي السند، بأسى الحالة الإنسانية للأطفال الأيتام في مركز الإيواء في كسلا. فهم، بحسب تقديره، يواجهون مصير الموت البطيء في ظل الإهمال الرسمي الذي يواجهونه.
ويعتقد أن وجودهم في كسلا تنطوي عليه مخاطرة كبيرة، ويكون بمنزلة الحكم بالإعدام على هؤلاء الأطفال، لأن السلطات في هذه المدينة لم تُعِرهم الاهتمام اللازم الذي يحفظ حياة فاقدي السند.
رعاية منقوصة
وكانت منظمة الأمم المتحدة لرعاية الطفولة، “يونسيف”، أعلنت تبنيها الأطفال فاقدي السند، ممن هم دون سن الخامسة في السودان، لكن مستوى الرعاية المقدم من المنظمة الدولية محدود للغاية، إذ لم تتقاضَ الأمهات المرضعات مكافآتهن المالية منذ كانون الأول/ديسمبر الماضي، كما لم يتم توفير السرائر، الأمر الذي يُضطر الصغار إلى النوم على الأرض.
ولم يجد فاقدو السند، الذين تفوق أعمارهم خمسة أعوام، وعددهم نحو 100 طفل، من يوفر لهم الرعاية، وتتوقف حياتهم في الوقت الحالي على مساعدة شحيحة تصلهم من الجهات الخيرية، عبر مجموعات شبابية متطوعة.
وتعرب إيمان محمد، وهي مرضعة متطوعة منذ أكثر من 10 أعوام لفاقدي السند، عن حزنها الشديد مما فعلته الحرب بأبنائها الصغار، والموت الذي ظل يخطفهم بصورة مستمرة، نتيجة ضعف الرعاية والبيئة السيئة التي يعيشون فيها في مركز الإيواء في مدينة كسلا حالياً.
وتشير محمد، إلى أن الأمهات والكوادر الطبية وجميع العاملين في خدمة فاقدي السند لم يتلقوا مكافآتهم المالية طوال الشهرين الماضيين، وهي وضعية صعبة للغاية، بحيث إن لديهم عائلات تعتمد على هذه المبالغ، الأمر الذي دفعهم إلى الإضراب عن العمل من أجل الضغط لنيل المستحقات.
وتعاني المرضعات والعاملات في المركز، بدورهنّ، أوضاعاً صعبة، بحيث يحصلن على وجبتين فقط في اليوم من الطعام المحلي ذي القيمة الغذائية الضعيفة، وينمن على أسطح المبنى، وهو واقع صعب يجعلهن عاجزات عن تقديم الرعاية المرجوة للأطفال فاقدي السند، وفق إيمان.
ودخلت الأمهات والعاملون في مركز إيواء الأطفال في إضراب مفتوح قبل نحو أسبوعين، كما نفذت الأمهات وقفة احتجاجية تندد بالأوضاع السيئة والإهمال الذي يواجهه فاقدو السند والمطالبة بصرف مستحقاتهن المالية. وفي الوقت نفسه رفعن لافتات كتبن عليها “متوقفات عن العمل، ولكن لن ندع أطفالنا يموتون من الجوع والمرض”.
اعتراف رسمي
ويعترف المدير العام لوزارة التنمية الاجتماعية في ولاية الخرطوم (جهة حكومية)، صديق حسن فريني، بالمعاناة التي يعيشها الأطفال فاقدو السند، لكن وضعهم الحالي يُعَدّ مقبولاً، بحسب تقديره، مقارنة بالحالة الاستثنائية التي تشهدها البلاد والوضع المأسَوي الذي يواجهه جميع السودانيين، من نزوح ولجوء وتشريد.
ويقول فريني، إن وزارته اتخذت جملة تدابير من أجل إيجاد حلول عاجلة لقضية الأطفال فاقدي السند، بينها تسهيل إجراءات الكفالة “التبني”، مع ضمان مشاركة أجهزة الدولة المعنية، مثل النيابة العامة والشرطة، والتأكد من موثوقية الأسر المتقدمة بطلبات الكفالة، وهو خيار مفضَّل بالنسبة إليهم، ومفاده أن يعيش الطفل في بيئة أسرية آمنة، الى جانب الانفتاح الإيجابي على كل المبادرات ورفع المعاناة عن هؤلاء الأطفال.
ويؤكد المسؤول السوداني تراجع الوضع الصحي للأطفال فاقدي السند نتيجة التنقل بين مدن البلاد، “إلى جانب حدوث وفيات وسطهم، فخلال الفترة من 15 نيسان/أبريل حتى 3 حزيران/يونيو الماضي، مات 69 طفلاً بعد إصابتهم بالوباء السحائي بسبب ارتفاع درجات الحرارة، بحيث انقطع التيار الكهربائي عن بيوتهم وتعطلت المولدات الاحتياطية”.
وبحسب عضو محامي الطوارئ (جماعة ضغط حقوقية في السودان)، محمد صلاح بناوي، فإن تجاهل الرعاية الكاملة والخدمات الأساسية للأطفال الأيتام، الذين وجدوا أنفسهم تحت ظروف إنسانية صعبة في كسلا، يُعَدّ انتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان وحقوق الطفل، كما جاء في الاتفاقيات الدولية، وأن الدولة تتحمل المسؤولية الكبرى في رعاية هذه الفئة.
ويشدد بناوي على ضرورة حدوث تدخلات عاجلة لتحسين البنية التحية في المخيم وتوفير الخدمات الضرورية مثل الرعاية الصحية، التغذية الجيدة، والحماية من الاعتداءات والاستغلال. كما يستوجب تقديم الدعم إليهم، نفسياً واجتماعياً، من أجل مساعدتهم على التعامل مع تجاربهم الصعبة وتعزيز مقدرتهم النفسية.
ويختم حديثه قائلاً إن “هذا الوضع يستدعي تحركاً عاجلاً لتحسين ظروف الأطفال الأيتام، فاقدي السند، وحياتهم، والعمل جماعياً من أجل إحداث تغيير إيجابي في حياتهم”.
أ.ش