في الذكرى السادسة لرحيله:

المطران ايلاريون كبوجي: المسيح فدائي فلسطين الأول

شارك المطران في وساطة الإفراج عن الرهائن الأمريكيين في إيران موفداً من الفاتيكان فزار الجمهورية الإسلامية لهذا الغرض والتقى الإمام الخميني (قدس)

2023-01-02

الوفاق / خاص / عبير شمص

في الوقت الذي تشهد فيه فلسطين المحتلة تصاعد العمليات الفدائية، يبرز إسم المناضل الثائر المطران إيلاريون كبوجي، أحد مؤسسي خلايا المقاومة في القدس، والذي شكّل نموذجاً استثنائياً في قضية الدفاع عن فلسطين، والعمل المقاوم ضد الاحتلال الإسرائيلي، لقد احتل المطران الذي توفي في منفاه، في مثل هذه الأيام (1-1- 2017) قلوب الملايين من الفلسطينيين والعرب، لأنّه لم يساوم مطلقاً في مواقفه ضد الاحتلال الإسرائيلي، واختار الوقوف في خندق المقاومة، مؤمناً بعدم الحياد في مواجهة الظلم والعدوان، وبمناسبة ذكرى وفاته السادسة ستضيئ هذه المقالة على أهم مواقفه السياسية، وعلى محطات نضاله في سبيل القضية الفلسطينية.

بداية المسيرة

وُلد في مدينة حلب السورية عام 1922 إبان حكم الاحتلال الفرنسي، عاش طفولته يتيماً، ربته والدته مع أخويه انطوان ورزق، بعد وفاة والده مبكراً. انضم مبكراً للمدارس اللاهوتية، فدرس أولاً في لبنان، ثم انتقل إلى القدس لينضم لمعهد القديسة آن، وقد شكلت إقامته في القدس في هذه الفترة المبكرة من حياته نظرته للقضية الفلسطينية. تولى منصب الكاهن الكاثوليكي للرهبانية الباسيلية الحلبية في صيف عام 1947، وبعدها بـتسعة أعوام أصبح رئيسًا للأساقفة، وفي عام 1965 أصبح وكيل البطريرك في القدس التي حرص أثناء إقامته فيها على بناء علاقات قوية مع أهاليها، فربطته علاقات ودية مع أهلها مسلمين ومسيحيين.

بداية التغيير في حياته

شكلت حرب حزيران عام 1967، نقطةَ مفصلية في مسيرة نضال المطران كبوجي، وخاصةً بعد دخول قوات الاحتلال الإسرائيلي للقدس وما رافقها من مجازر بحق سكان المدينة، والتي دفن بيديه أكثر من 400 شهيد من أبنائها، بصحبة بعض الرهبان والراهبات، بحسب ما ورد في مذكراته التي نُشرت بعد وفاته، وقيامه بالصلاة مع شيخ مسلم على هؤلاء الشهداء.

يذكر المطران كبوجي في مذكراته عن انخراطه في القضية الفلسطينية: “كان بداية انخراطي في القضية الفلسطينية”، منذ بدأ الإجرام الإسرائيلي ما قبل النكبة عام 1948، وتكرّس اقتناعي بـ”أن المسيح كان الفدائي الفلسطيني الأول”.

وهكذا بدأ دعمه للقضية الفلسطينية عبر كتابة وإلقاء محاضرات وتقديم العظات عن تحقيق العدالة للفلسطينيين وعمّا تمارسه إسرائيل من وحشية وانتهاكات لحقوق الإنسان. وانضم إلى المقاومة الفلسطينية، وأسس أول خلية فدائية في القدس، وساهم في تنظيم العديد من المظاهرات ضد الاحتلال الإسرائيلي، وكل من يدعمه.

وبشكلٍ سري، عمل المطران كبوجي على نقل السلاح من لبنان إلى فلسطين، في سيارته التي لم تكن تخضع للتفتيش، مستفيداً من حرية التنقل الممنوحة له بصفته رجل دين، ويحمل جواز سفر دبلوماسي كان قد منحه إياه الفاتيكان، حيث كان يعمد إلى إخفائه في المدرسة التابعة للكنيسة اليونانية الكاثوليكية، في قرية بيت حنينا الفلسطينية شمال مدينة القدس، إلى أن تتم عملية التسليم.

اعتقاله وتعذيبه

بقي المطران طيلة تلك الفترة يعمل على نقل الأسلحة حتى 8 آب عام 1974، حيث تم القبض عليه بعد تفتيش سيارته التي عُثر بداخلها على الأسلحة. بعد محاكمة استمرت 108 أيام، رفض أثناءها المطران الاعتراف بالمحاكمة كونها محكمة محتل، لذا فإنّ محاكمته باطلة، وقد استند محاميه على هذه النقطة في دفاعه، تم تحويله في النهاية إلى القضاء العسكري الذي  حكم عليه بالسجن 12 عاماً، بتهمة “تهريب السلاح والتعاون مع خلايا إرهابية لضرب إسرائيل”. تعرض أثناء اعتقاله لمختلف أنواع التعذيب، وجُرد من لباسه الكهنوتي، إضافةً لمصادرة كتب الصلاة الخاصة به كما حرمانه من إقامة القداديس، وهو الأمر الذي دفعه للإضراب عن الطعام مرات عديدة. وقد ذكر في مذكراته أنّ حرمانه من إقامة القداس، كان أقسى ما تعرض له من أساليب الضغط والتعذيب، لكن زملاءه الأسرى قدموا له الدعم باستمرار، فقد قاموا بخياطة لباس كهنوتي له، كما قاموا بتهريب رسائل كتبها في سجنه، ليتم نشرها في الصحف.

ردات فعل حركات المقاومة الفلسطينية على اعتقاله

بعدما تصدرت قضيته الرأي العام العالمي، اكتسب التعاطف الشعبي والرسمي. حتى أنّ كل من السودان ومصر وليبيا والعراق وسوريا، كرموه بإصدار طابع بريدي يحمل صورته، نظراً لتضحياته من أجل القضية الفلسطينية.

وكذلك ردًا على اعتقاله، شنّ عدد من حركات المقاومة الفلسطينية سلسلة من الهجمات ضد الكيان المحتل وقاموا بأخذ رهائن لمبادلته بالمطران وأسرى آخرين. هذا ولم يستمر اعتقاله يستمر طويلاً بعد تدخل الفاتيكان مباشرةً للإفراج عنه، حيث أطلق سراحه في تشرين ثاني/ نوفمبر من عام 1977، بعد مفاوضات شاقة، وضع فيها الاحتلال شروطاً قاسية كان على رأسها نفي المطران عن فلسطين، ووضعه في الإقامة الجبرية في منفاه، دون السماح له بالعودة بتاتاً إلى سوريا أو لبنان أو فلسطين، وكذلك اشترط الفاتيكان عليه بأن لا يتدخل في السياسة أو يتحدث للإعلام.

خرق شروط نفيه عن فلسطين

واصل المطران كبوجي، بعد إبعاده، مسيرته الداعية لدعم القضية الفلسطينية في كثير من دول العالم؛ ولم يمنعه منفاه القسري من متابعة مناصرته للفلسطينيين؛ وهو الذي كان يردد دوماً بعد نفيه: “أنا الآن في المنفى؛ ولو كنت في روما عاصمة الكاثوليكية؛ فإذا تركت وطني زرعت روحي في القدس، على أمل العودة، كما تزرع حبة الحنطة؛ فإذا لم تدفن حبة الحنطة في الأرض تموت؛ وأنا دفنتها بشرط حياتها وقيامتها. إنني أعيش ألم الغربة والاستعداد لأمل العودة إلى وطني الأكبر، أي دنيا العرب، ومنه إلى الوطن الأصغر، القدس وفلسطين”.

فقام بخرق شروط الاحتلال، وزار بيروت ودمشق عدة مرات، فشارك في “أسطول الحرية” في شباط 2009 والذي اعترضته إسرائيل وطردت من كان على متنه إلى لبنان؛ كما كان على متن سفينة “مرمرة” التركية عام 2010، والتي هاجمتها القوات الإسرائيلية، وقتلت 10 نشطاء كانوا على متنها، كما أنّه جاب العالم وشارك في محافلٍ لا تعد ولا تحصى، مُعرفاً بالقضية الفلسطينية ومدافعاً عنها، وهاجم الاحتلال الإسرائيلي بكل الطرق، وعبر وسائل الإعلام باستمرار، وقد كان وسيطاً بين الفاتيكان ومنظمة التحرير الفلسطينية.

لعب دور الوسيط في قضية الرهائن في إيران

شارك المطران في وساطة الإفراج عن الرهائن الأمريكيين في إيران موفداً من الفاتيكان، فزار لهذا السبب الجمهورية الإسلامية الإيرانية وذلك في العام 1979م، حيث التقى بالإمام الخميني(قدس) وسائر مسؤولي الجمهورية الإسلامية.

يقول المطران عن زيارته هذه: “كان هناك الآلاف من الأخوة في المطار جاؤوا لاستقبالي، تحركنا سوية إلى منزل الإمام (قدس)، احتضني سماحته وقبَّلني وأمسك بيدي وخاطب الصحفيين قائلاً: الجميع شاهد استقبال المطران كبوجي… دين الإسلام الذي هو شعارنا في هذه البلاد، هو دين المحبة، العفاف، سعة الرؤية والحياة، لقد دعوت المطران كبوجي إلى إيران لكي أكشف زيف المغرضين، إنه ليس مسيحياً فحسب بل إنه راعي ومسؤول كنيسة أيضاً”.

وفي موضعِ آخر يصف المطران الأيام التي قضاها في العاصمة الإيرانية: “كانت تلك زيارتي الأولى لطهران. قضيت أياماً جميلةً في طهران، كان رئيس ومسؤول الثورة إلى جانب بقية الأخوة كانوا أشبه بالأسرة الواحدة التي تقف في وجه الأعداء. لقد قضيت أياماً مفعمة بالسعادة إلى جانب أسرة الإمام الخميني(قدس) الكبيرة؛ (الشهيد) بهشتي، (آية الله) الخامنئي و(آية الله) هاشمي رفسنجاني”.

وعن علاقته بالثورة الإيرانية يقول: “تنطلق محبتي لإيران واحترامي لثورتها من أنني أرى أصبع الله فيها، إذا سخرّنا المنطق وحاولنا أن نفسر كيف انتصرت هذه الثورة واستمرت حتى الاَن لعجز العقل، كم نحتاج نحن العرب إلى أخذ الدروس والعبر من هذه الثورة”.

الرحيل

بقي المطران كبوجي مسانداً للقضية القلسطينية حتى آخر يوم من حياته، مستنداً بذلك على عقيدته الأبدية التي عبر عنها بالقول : “واجبي وضميري يفرضان عليّ خدمة القضية. يوم وجودي في الأسقفية، وضع ربُّنا في عنقي أمانة هي فلسطين والفلسطينيين، ويوم الحشر سوف يحاسبنا حساباً صارماً على الأمانة”.

في 1/1/2017 توفي أحد أهم دعاة القضية الفلسطينية في العالم، ودُفِن بجانب والدته في لبنان، تنفيذاً لوصيته، وشارك في تشييع جنازته العشرات من السياسيين ورجال الدين العرب والأجانب.

ختاما ًهذه هي فلسطين، القضية العابرة للطوائف والأديان، التي توحد الجميع خلف عدالتها، وينخرط الشرفاء، كل الشرفاء، في خندق مقاومتها، وكان المطران كابوجي على رأسهم، جنباً إلى جنب مع عز الدين القسام، وفتحي الشقاقي، وكل أبنائها وأبطالها المجاهدين.