سوء الظن بالخالق والمخلوق

والسر في خباثة سوء الظن وتحريمه وصدوره عن خبث الضمير واغواء الشيطان: أن أسرار القلوب لا يعلمها إلا علام الغيوب، فليس لأحد أن يعتقد في حق غيره سوءا إلا إذا انكشف له بعيان لا يقبل التأويل، إذ حينئذ لا يمكنه ألا يعتقد ما شاهده وعلمه، وأما ما لم يشاهده...

2024-11-03

 

ومن أنواع الرذائل ولوازمها المتعلقة بالقوة الغضبية، سوء الظن بالخالق والمخلوق:

 

وهو من نتائج الجبن وضعف النفس، إذ كل جبان ضعيف النفس تذعن نفسه لكل فكر فاسد يدخل في وهمه ويتبعه، وقد يترتب عليه الخوف والغم، وهو من المهلكات العظيمة، وقد قال الله سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم) الحجرات 12. وقال تعالى: (وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم) فصلت 23. وقال: (وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا) الفتح 12.

 

وقال أمير المؤمنين عليه السلام: (ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يغلبك منه، ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا). ولا ريب في أن من حكم بظنه على غيره بالشر، بعثه الشيطان على أن يغتابه أو يتوانى في تعظيمه وإكرامه، أو يقصر فيما يلزمه من القيام بحقوقه، أو ينظر إليه بعين الاحتقار ويرى نفسه خيرا منه. وكل ذلك من المهلكات، على أن سوء الظن بالناس من لوازم خبث الباطن وقذارته، كما أن حسن الظن من علائم سلامة القلب وطهارته، فكل من يسئ الظن بالناس ويطلب عيوبهم وعثراتهم فهو خبيث النفس سقيم الفؤاد، وكل من يحسن الظن بهم ويستر عيوبهم فهو سليم الصدر طيب الباطن، فالمؤمن يظهر محاسن أخيه، والمنافق يطلب مساويه، وكل إناء يترشح بما فيه.

 

والسر في خباثة سوء الظن وتحريمه وصدوره عن خبث الضمير واغواء الشيطان: أن أسرار القلوب لا يعلمها إلا علام الغيوب، فليس لأحد أن يعتقد في حق غيره سوءا إلا إذا انكشف له بعيان لا يقبل التأويل، إذ حينئذ لا يمكنه ألا يعتقد ما شاهده وعلمه، وأما ما لم يشاهده ولم يعلمه ولم يسمعه وإنما وقع في قلبه، فالشيطان ألقاه إليه، فينبغي أن يكذبه، لأنه أفسق الفسقة. وقد قال الله: (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة) الحجرات 6. فلا يجوز تصديق اللعين في نبأه، وإن حف بقرائن الفساد، ما احتمل التأويل والخلاف فلو رأيت عالما في بيت أمير ظالم لا تظنن أن الباعث طلب الحطام المحرمة، لاحتمال كون الباعث إغاثة مظلوم. ولو وجدت رائحة الخمر في فم مسلم فلا تجزمن بشرب الخمر ووجوب الحد، إذ يمكن أنه تمضمض بالخمر ومجه وما شربه، أو شربه إكراها وقهرا.

 

فلا يستباح سوء الظن إلا بما يستباح به المال، وهو صريح المشاهدة، أو قيام بينة فاضلة. ولو أخبرك عدل واحد بسوء من مسلم، وجب عليك أن تتوقف في إخباره من غير تصديق ولا تكذيب، إذ لو كذبته لكنت خائنا على هذا العدل إذ ظننت به الكذب، وذلك أيضا من سوء الظن، وكذا إن ظننت به العداوة أو الحسد أو المقت لتتطرق لأجله التهمة، فترد شهادته، ولو صدقته لكنت خائنا على المسلم المخبر عنه، إذ ظننت به السوء، مع احتمال كون العدل المخبر ساهيا، أو التباس الأمر عليه بحيث لا يكون في إخباره بخلاف الواقع آثما وفاسقا.

 

وبالجملة: لا ينبغي أن تحسن الظن بالواحد وتسئ بالآخر، فتذكر المذكور حاله على ما كان في الستر والحجاب، إذ لم ينكشف لك حاله بأحد القواطع، ولا بحجة شرعية يجب قبولها، وتحمل خبر العدل على إمكان تطرق شبهة مجوزة للإخبار، وإن لم يكن مطابقا للواقع.

 

ثم المراد بسوء الظن هو عقد القلب وميل النفس دون مجرد الخواطر وحديث النفس، بل الشك أيضا، إذ المنهي عنه في الآيات والأخبار إنما هو أن يظن، والظن هو الطرف الراجح الموجب لميل النفس إليه. والأمارات التي بها يمتاز العقد عن مجرد الخواطر وحديث النفس، هو أن يتغير القلب منه عما كان من الألف والمحبة إلى الكراهة والنفرة، والجوارح عما كانت عليه من الأفعال اللازمة في المعاشرات إلى خلافها. والدليل على أن المراد هو ما ذكر، قوله (ص): ثلاث في المؤمن لا تستحسن وله منهن مخرج فمخرجه من سوء الظن ألا يحققه أي لا يحقق في نفسه بعقد ولا فعل، لا في القلب ولا في الجوارح.

ثم لكون سوء الظن من المهلكات، منع الشرع من التعرض للتهمة، صيانة لنفوس الناس عنه، فقال (ص) اتقوا مواقع التهم، وقال أمير المؤمنين عليه السلام: (من عرض نفسه للتهمة فلا

يلومن من أساء به الظن). وروي: أنه (ص) كان يكلم زوجته صفية بنت حي ابن أخطب، فمر به رجل من الأنصار، فدعاه رسول الله، وقال، يا فلان! هذه زوجتي صفية. فقال: يا رسول الله! أفنظن بك إلا خيرا؟ قال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فخشيت أن يدخل عليك. فانظر كيف أشفق رسول الله (ص) على دينه فحرسه، وكيف علم الأمة طريق الاحتراز عن التهمة، حتى لا يظن العالم الورع المعروف بالتقوى والدين أن الناس لا يظنون به إلا خيرا، إعجابا منه بنفسه، فإن ما لا جزم بتحققه في حق سيد الرسل وأشرفهم، فكيف يجزم بتحققه في حق غيره، وإن بلغ من العلم والورع ما بلغ.

 

والسر في ذلك: أن أورع الناس وأفضلهم لا ينظر الناس كلهم إليه بعين واحدة، بل إن نظر إليه بعضهم بعين الرضا ينظر إليه بعض آخر بعين السخط:

 

وعين الرضا عن كل عيب كليلة — ولكن السخط تبدي المساويا

 

فكل عدو وحاسد لا ينظر إلا بعين السخط، فيكتم المحاسن ويطلب المساوئ، وكل شرير لا يظن بالناس كلهم إلا شرا، وكل معيوب مفتضح عند الناس يحب أن يفتضح غيره وتظهر عيوبه عندهم، لأن البلية إذا عمت هانت، ولأن يشتغل الناس به فلا تطول ألسنتهم فيه. فاللازم لكل مؤمن ألا يتعرض لموضع التهمة حتى يوقع الناس في المعصية بسوء الظن، فيكون شريكا في معصيتهم، إذ كل من كان سببا لمعصية غيره يكون شريكا له في هذه العصية.

 

ولذا قال الله تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم) الأنعام 108. وقال رسول الله (ص): (كيف ترون من يسب أبويه؟ فقالوا: هل من أحد بسب أبويه؟ فقال: نعم ! يسب أبوي غيره فيسبون أبويه). ثم طريق المعالجة في إزالته – بعد تذكر ما تقدم من فساده وما يأتي من فضيلة ضده -: أنه إذا خطر لك خاطر سوء على مسلم: لا تتبعه، ولا تحققه، ولا تغير قلبك عما كان عليه بالنسبة إليه، من المراعاة والتفقد والاكرام والاعتماد بسببه، بل ينبغي أن تزيد في مراعاته وإعظامه وتدعو له بالخير، فإن ذلك يقنط الشيطان ويدفعه عنك، فلا يلقي إليك خاطر السوء خوفا من اشتغالك بالدعاء وزيادة الاكرام.

 

ومهما عرفت عثرة من مسلم فانصحه في السر ولا تبادر إلى اغتيابه، وإذا وعظته فلا تعظه وأنت مسرور باطلاعك على عيبه، لتنظر إليه بعين الحقارة، مع أنه ينظر إليك بعين التعظيم بل ينبغي أن يكون قصدك استخلاصه من الإثم، وتكون محزونا كما تحزن على نفسك إذا دخل عليك نقصان، وينبغي أن يكون تركه ذلك العيب من غير نصيحتك أحب إليك من تركه بنصيحتك، وإذا فعلت ذلك جمعت بين أجر نصيحته وأجر الحزن بمصيبته وأجر الإعانة على آخرته.

 

حسن الظن

 

قد عرفت أن ضد سوء الظن بالخالق والمخلوق هو (حسن الظن بهما). ولما كان الأول من لوازم ضعف النفس وصغرها، فالثاني من نتائج قوتها وثباتها، وفوائده أكثر من أن تحصى، وقد تقدمت الظواهر الواردة في مدحه، فينبغي لكل مؤمن ألا ييأس من روح الله، ولا يظن أنه لا يرحمه ويعذبه ألبتة ولا يخلصه من العقاب، وإن ما يرد عليه في الدنيا من البلايا والمصائب هو شر له وعقوبة، بل ينبغي أن يعلم أنه أرحم وأرأف به من والديه، وإنما خلقه لأجل الفيض والجود، فلا بد أن يرحمه في دار الآخرة، ويخلصه من عذاب الأبد ويوصله إلى نعيم السرمد، وما يرد عليه من المصائب والبلايا في دار الدنيا خير له وصلاح، وذخيرة له في يوم المعاد.

 

وكذا لا يظنن السوء، والشر بالمسلمين، ولا يحملن ما له وجه صحيح من أعمالهم وأقوالهم على وجه فاسد، بل يجب أن يحمل كل ما يشاهده من أفعالهم وحركاتهم على أحسن الوجوه وأصحها، ما لم يجزم بفساده، ويكذب وهمه وسائر حواسه، فيما يذهب إليه من المحامل الفاسدة والاحتمالات القبيحة المحرمة، ويكلف نفسه على ذلك، حتى يصير ذلك ملكة له، فترتفع عنه ملكة سوء الظن بالكلية، نعم، الحمل على الوجه الصحيح على تقدير عدم مطابقته للواقع، لو كان باعثا لضرر ما لي أو فساد ديني أو عرضي، لزم فيه الحزم والاحتياط، وعدم تعليق أموره الدينية والدنيوية عليه لئلا يترتب عليه الخسران والأضرار، وتلزمه الفضيحة والعار.

 

المصدر: شبكة النبأ