شكلت  مؤلفاته نقلةً نوعية في مسار العلوم العقلية الاسلامية

قصور الفلسفة العربية عن الإحاطة بالفكر الفلسفي للعلامة الطباطبائي

العلامة الطباطبائي جمع معارف متعددة من الفلسفة إلى العرفان ونظرية المعرفة والتفسير، وكان في كلّ واحدة منها علمًا

2022-11-23

الوفاق/ خاص

عبير شمص

العلامة الطباطبائي مفسر، متكلم، فقيه، أصولي، عارفٌ من كبار علماء الشيعة في القرن الرابع عشر الهجري، ومن الشخصيات الشيعية الكبيرة التي تركت بصمات واضحة على الساحة العلمية والفكرية في إيران وفي العالم الإسلامي في العصر الراهن. خطّ قلمه الكثير من المصنفات القيّمة، ويقع في مقدمتها موسوعته التفسيرية المعروفة بالميزان في تفسير القرآن، فضلاً عن الكتب الفسلفية كبداية الحكمة ونهاية الحكمة وكتابه المعروف أصول الفلسفة والمذهب الواقعي الذي تصدى الشهيد المطهري لشرحه والتعليق عليه. تخرج من حلقة دروس العلامة الطباطبائي الكثير من الأعلام كالشهيد المطهري والشيخ جوادي الآملي والشيخ مصباح اليزدي والشهيد السيد البهشتي وغيرهم من التلاميذ الذين كان لهم الأثر الكبير في الساحة الفكرية والعلمية في العصر الراهن. وقد لعبت مناظراته مع الفيلسوف والمتخصص بالشأن الشيعي “الفرنسي هنري كاربن” دوراً مهماً في إيصال الفكر الشيعي وصورة التشيع إلى المجتمع الأوروبي.

وقد تمكنت شخصية العلامة الطباطبائي أن تفرض نفسها كواحدة من أبرز الوجوه العلمية التي رفدت الفكر المعاصر بنتاجاتها القيّمة، فهو المفسر والفيلسوف المجدد الذي شكلت  مؤلفاته نقلةً نوعية في مسار العلوم العقلية الاسلامية، سواءً لجهة الفهم وإضفاء المنهجية الواقعية على المسائل المطروحة أو لجهة جامعيته ودقته وعمقه المشهود. وهو بلا شك العالم العارف بأمهات المسائل والقضايا الفكرية والاعتقادية الإسلامية، والشاهد على هذا أنّ العودة إلى آثاره وما تركه قلمه يدلل بوضوح على طبيعة هذه الشخصية وعمقها والمنهج المعرفي الذي تتمتع به.

في أجواء الذكرى الثانية والأربعين لرحيل هذا العالم الجليل والتي تتزامن مع مناسبة اليوم العالمي للفلسفة نتوقف عند بعض القضايا الفكرية والمسائل التي عالجها كمحاولة للتعرف إلى بعض جوانب فكره ومسلكه العقلي في معالجة القضايا المطروحة، وذلك عبر لقاء لجريدة الوفاق مع ‏ الدكتور أحمد ماجد رئيس تحرير مجلة المحجة الفلسفية الصادرة عن معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية وكان الحوار الآتي:

ما هو دور العلامة الطباطبائي في رسم مسار فلسفي جديد في العالم الاسلامي بعد إبن رشد والملا صدرا؟

العلامة الطباطبائي شخصية فلسفية بكلّ ما للكلمة من معنى، فهو استمرار لخط بياني بدأ مع صدر الدين الشيرازي (1576، 1641م) واستمر في الفاعلية من بعده عبر شخصيات كالمحقّق ملّا محمد صادق الأردستاني، المحقّق ملّا إسماعيل الخواجوي، السيد محمد البيدآبادي، الشيخ محمد رضا القمشئي. الفيلسوف الكبير ملّا علي النوري، المحقّق ملّا هادي السبزواري، المدرس الكبير علي المدرس، السيد أبو الحسن جلوة السيد حسين البادكوبي، وغيرها من الأسماء وصولاً إلى العلامة الطباطبائي، وهذا الخط أشار إلى أمرين:

أ- حركية الفلسفة الإسلامية واستمراريتها في العالم الإسلاميّ، لم تمت كما كانت تشير إليه المصادر مع ابن رشد (1126- 1196)، وإنّما استمرت فاعلة واستكملت عبر حركة فكرية غير منقطعة وصولاً إلى صدر الدين الشيرازي، وهذا يدلّ على حيوية هذا القطاع المعرفيّ.

ب- شكل صدر الدين الشيرازي بالأفكار التي طرحها نقطة تحوّل في الدرس الفلسفيّ في العالم الإسلاميّ، إذ أنّه يشكل حركة حداثة فكرية بكلّ معنى الكلمة، فمعه تمّ إعادة النظر بموضوع الفلسفة والموضوعات التي تقوم بمعالجتها، ويمكن في هذا المجال أن نعتبر أنّ صدرا لعب في العالم الإسلامي الدور الذي لعبه رينيه ديكارت في الحضارة الغربية مع فارق يتعلق في الأسس التي تقوم عليها فلسفة كلّ واحد منهما، وهذا يتعلق بالركائز التي اعتمد كلّ واحد منهما عليها، وهذا يحتاج إلى توسعة في الكلام، ليس هنا مورده.

والسؤال الذي طُرح، يحمل في طياته نوعًا من المساواة بين فيلسوفين، وهذا الكلام يوحي وكأنّ أثرهما واحد، وفي هذا الأمر لدينا مشكلة حقيقية، إذ أن إبن رشد لم يستمر في العالم الإسلاميّ، وهو بعد فترة قصيرة أخذه النسيان، ولم يُسترد من جديد إلا عبر الفيلسوف الفرنسيّ أرنست رينان، وهو وإن فُعل في فترة لاحقة، كانت الغاية من هذا الأمر أمور متعددة:

أ- الإستفادة من فكرة الفصل بين المجال الدينيّ والمجال الفلسفيّ، وهذا يخدم فكرة علمنة المجتمعات الإسلامية.

ب- إيجاد نوع من القطيعة المعرفية بين القطاع المشرقي والمغربي من الفلسفة الإسلامية، فهم أرادوا أن يقولوا أن الفلسفة الإسلامية في المشرق الإسلاميّ، تبنت وجهة فلسفية إشراقية لا بد من التخلي عنها إذا أردنا أن ننتج فلسفة إسلامية، تستطيع أن تتعايش مع الفكر الفلسفي الغربي.

أما الفلسفة في إيران فهي تُعبر عن حركية هذا القطاع المعرفيّ واستمراريته، وهذا ما نشاهده عبر  حضور الحكمة المتعالية ودخولها في نقاشات فلسفية مع التيارات الوافدة إلى إيران وإلى العالم الإسلاميّ. وطموح هذه الفلسفة عبر مفكريها إلى أن تصبح القاعدة التي تُبنى عليها العلوم الإنسانية.

وهناك ملاحظة أخيرة إلى أنّ هذه الفلسفة التي ظهرت مع صدرا، نستطيع أن نتبعها دون انقطاع حتى الراهن من الزمان عبر طلاب العلامة الطباطبائي كالشيخ المصباح والشيخ جوادي آملي، والشيخ جعفر سبحاني ويستطيع الباحث أن يستشهد بعشرات الأسماء في وقتنا الحالي التي تعمل على هذه الفلسفة، كما أنّ هذه المدرسة تتميّز بالحيوية، لذلك نراها تجدد نفسها، فإذا نظرنا إلى العلامة، نراه يطور في المنظومة الفلسفية الصدرائية عبر التمييز بين “الحقائق” و”الاعتبارات”، حيث تضم الأولى كل ما يتعلق بالوجود والموجودات الخارجية،  فهي بهذا المعنى الحقائق التي يستدل عليها بالبرهان العقلي، وتشمل الأخيرة مواضيع كالفقه وأصوله، لأنها تعتمد على العرف الاجتماعي وليس على البرهان العقلي. وفي كتابه “نهاية الحكمة” قدم إسهامًا جديدًا في مسألة  الوجود بالقوة وبالفعل، فخصص أطروحة خاصة عن الموضوع، وطور مفهوم الملا صدرا عن الحركة الجوهرية باعتباره الزمن البعد الرابع للأجساد.

إلى أيّ مدى نشاهد أفكار العلامة الطباطبائي في الأجواء العلمية والفلسفية العربية اليوم؟ من هم المتأثرين بالعلامة الطباطبائي في العالم العربي؟

يشكل العلامة الطباطبائي (قدس سره) قامةً فكريةً شامخة، تحتاج إلى الكثير من العمل للإحاطة بها من الجوانب كافة، فهو محيط واسع، جمع معارف متعددة من الفلسفة إلى العرفان ونظرية المعرفة والتفسير، وكان في كلّ واحدة منها علمًا، ولكن بشكلٍ عام يمكن الحديث عن حضور هذه الشخصية في العديد من المحافل العلمية والجامعية، حيث يمكن أن نرصد عدد من الدراسات التي تناولت فكره في لبنان والعراق الأردن ومصر والجزائر والمغرب والخليج الفارسي وتونس … حيث أخذت تظهر بعض الأسماء التي تعمل للاستفادة من تراثه نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر السيد عمار أبو رغيف، ويوسف سليم إبراهيم الفقير من الأردن الذي عمل على تفسيره والشيخ الدكتور علي جابر الذي عمل على الاعتباريات والتأويل لديه، والدكتور محمد بن سباع في الجزائر الذي عالج موضوع المعرفة بالإضافة إلى العديد من الدراسات في الجامعات اللبنانية آخرها بحث لنيل درجة الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية يعده الشيخ سمير خير الدين يعالج فيه موضوع التلازم بين العلامة وزكي نجيب محمود وطه عبد الرحمن وعلي بن مبارك من تونس الذي اشتغل على التفسير، وغيرها العديد من الدراسات التي تشمل العالم العربي برمته، وهذا يدلّ على قوة حضور هذه الشخصية في العالم العربي، والتي استطاعت أن تفرض حضورها بسبب قوة الأفكار التي تعرضها.

فالعلامة فرض نفسه في الفكر الإسلاميّ، وإن كان القسم الأكبر من الاهتمام توجه إلى تفسير الميزان، وفي هذا الأمر دلالة كبيرة، تشير إلى أن حضوره الفلسفيّ لم يكن بنفس حجم حضوره التفسيري، وهذا يعود إلى إشكالية تتعلق بواقع الفلسفة في العالم العربي، التي مالت بكثير من الأحيان باتجاه الغرب، ولم تلتفت إلى الفلسفة الإسلامية وحركيتها، ولم تتنبه إلى أهمية هذا الجانب إلاّ في العقدين الأخيرين، حيث أخذ الحديث عن هذا الموضوع يتوسع، ولعلّ السبب في ذلك هو ما أُشبع به هذا العالم من فكرة أنّ الفلسفة الإسلامية قد توقفت مع ابن رشد، بالتالي فهي لم تعمل على توسيع نظرتها للتحقق من هذه المقولة التي تحتاج إلى تدقيق وإعادة نظر.

هل كان نشر فكر العلامة الطباطبائي كافيا’ في العالم العربي؟ وإن لم يكن كافيا” فما الذي يتوجب فعله؟

دون شك تحقق تقدم كبير في حضور الفلسفة الصدرائية في العالم العربي لا سيّما في العقود الثلاثة الأخيرة، لأنّ هذه الفلسفة كانت محدودة الإنتشار لا يمكن العثور على أثر لها إلا عبر بعض التعليقات أو المعلومات البدائية التي لا تضيء على حقيقتها، يُذكر في هذا المجال أن الدكتور علي سامي النشار عندما تحدث عن الأسفار الأربعة للشيرازي عرفها باعتبارها موسوعة فلسفية، تتكلم عن الفلسفة الإسلامية، كما أنّ الدكتور موسى وهبي عندما عرضت الدكتور زينب شوربا عليه مشروعها للماستر عام 1979 استغرب وجود شخصية تشبه هيغل في فلسفته، أما اليوم فصدرا أصبح شخصية حاضرة بقوة في الجامعات العربية.

بالنسبة إلى العلامة الطباطبائي فهو بالإضافة إلى كونه قد دخل الجامعات العربية، ولكن كما لاحظنا غلب عليها الجانب التفسيري، أما الجانب الآخر المتعلق بالفلسفة ونظرية المعرفة فهي بحاجة لمزيد من العمل، وعلى الرغم من انتشار كتاب “بداية الحكمة ونهاية الحكمة” بين طلاب الحوزة العلمية وتحوله إلى مادة دراسية إلا أنّ العقبة الرئيسية تتمثل في ضرورة تسهيل اللغة المستخدمة في الكتاب لكي تصبح لغة بمتناول دارسي الفلسفة بشكل عام، وهذا الأمر يحتاج إلى مجهود كبير من العاملين على الفكر الفلسفي لاسيّما أولئك المهتمين بالفلسفة الصدرائية، يُضاف إلى هذه المشكلة أخرى تتمثل في عدم وجود تحقيق علميّ لهذه الكتب تليق بمستواها.

قوة الفكرة قد لا تكون كافية إذا لم يتوفر لها أرضية فاعلة تنطلق من خلالها، وهذا الأمر يقتضي العمل على فكره وتبويبه وإظهار مزاياه. يُضاف إلى هذه المشكلة، مشكلة أخرى تتعلق بالترجمة لاسيّما لكتابه أسس الفلسفة والمذهب الواقعي وعلى الرغم من وجود ترجمتين إحداهما ناقصة قام بها عبد المنعم الخاقاني وأخرى تامة إلا أنّ المطلعين على هذه الترجمات، يقولون أنّها تعاني من نقص وإنّ هناك فقرات لم ترد فيها، وهذا يستدعي أن يتمّ مراجعة هذا الترجمات، ويتمّ تحقيقها بطريقة علمية، لكي تعكس فكر العلامة بشكلٍ واضحٍ وصحيح.

يبقى أنّ فيلسوف كبير كالعلامة بحاجة إلى مزيد من العمل لتقديم تراثه بطريقة مختلفة، تعكس أهميته، وتضيء على الدور الذي لعبه في تاريخ الفلسفة الإسلامية، وهذه مسؤولية العاملين بالحقل الفلسفي للقيام بهذا الدور.