يتحدث “فينكلشتاين” عن “عقيدة الضاحية” العسكرية التي يطبقها الجيش الصهيوني في غزة والتي جوهرها “التدمير الشامل واستخدام القوة غير المتكافئة.. ويستغرق التعافي منها عصوراً.
يتحدّث الكاتب “نورمان ج. فينكلشتاين”، في كتابه الجديد “غزة… بحثٌ في استشهادها” الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، عن غزّة وما حلّ بها من مذابح متتالية وحصار خانق، منذ عام 2005 حين عمدت حكومة الكيان إلى عسكرة القطاع لتجعله هدفاً عسكرياً، كما لو أن تلك المساحة السكانية التي تعيش شظف العيش ليست مدينة كما كل مدن العالم، ولا مجالًا مدنياً وإنسانياً، بل قاعدة عسكرية عدوة وخطيرة يجب إزالتها.
“فينكلشتاين” هو كاتب وأستاذ جامعي أميركي وناشط سياسي يهودي متخصص بالعلوم السياسية، مناهض للصهيونية ومتضامن مع القضية الفلسطينية. كتب كثيراً عن جرائم “إسرائيل” ضد الفلسطينيين، وحصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة برنستون، وعمل في عدد من الكليات والجامعات.
“مسخٌ ملطّخ بالدماء”
صحيفة “هآرتس”، التي تعبّر غالباً عن مكنونات السلطة السياسية – العسكرية في الكيان، أشارت منذ أعوام إلى أن “الحديث في أوساط القيادات العليا للجيش بات يدور عن عقيدة عسكرية جديدة حيال غزة، هي “عقيدة الضاحية”، التي جوهرها التدمير الشامل واستخدام القوة غير المتكافئة”.
وسبب الإشارة إلى الضاحية هو كونها الحي الشيعي الذي سُوّيَ بالتراب في الغارات الجوية الإسرائيلية على بيروت عام 2006. ويومها قال قائد المنطقة الشمالية “غادى آيزنكوت” “إن غزة كما الضاحية الجنوبية لبيروت تشكلان، بالنسبة إلينا، مجموعة قواعد عسكرية… يجب تدميرها بالكامل كإجراء عقابي”.
وكأنّ كلامه لم يكن عدوانياً بما يكفي، إذ خرج زميل له هو العقيد “غابي سيبوني” ليُضيف قوله ــ في مؤتمر أكاديمي في معهد الأمن القومي في جامعة تل أبيب ــ إن “…المعنى انه يجب إنزال ضرر يستغرق التعافي منه عصوراً”.
ويستشهد الكاتب بما كتبه الإسرائيلي “يوري أفنيري”، الذي قال “إن ما سيترسخ في أذهان العالم في أعقاب الانتصار العسكري الإسرائيلي، هو صورة إسرائيل بصفتها مسخاَ ملطخاً بالدماء.. وعلى استعداد، في أي لحظة، لارتكاب جرائم حرب، وغير مستعدة لالتزام أيّ ضوابط أخلاقية”.
في عرض لمحتوى العمل يتألف كتاب فينكلشتاين من أربعة أقسام وثلاثة عشر فصلاً، ويتضمن سرداً وافياً لما ورد في تقارير منظمات حقوق الإنسان الدولية في شأنها، والحجج التي أقامها المدافعون عن “إسرائيل”، وتفنيداً لها.
ماهية غزّة ومسلسل القتل
قطاع غزّة هو المنطقة الجنوبية من السهل الساحلي الفلسطيني المطلّ على البحر المتوسط. تمتد على شكل شريط ضيّق شمالي شرقي شبه جزيرة سيناء، وهي إحدى منطقتين معزولتين (الأخرى هي الضفة الغربية). لم تسيطر عليها القوات الصهيونية في حرب عام 1948، ولم تصبح ضمن “حدود” الكيان الإسرائيلي الوليد آنذاك، وتشكل تقريباً 1,33% من عموم مساحة فلسطين.
دخل العرب مدينة غزّة في عام 635م، وأصبحت مدينة مسلمة ومركزاً للتقاليد الإسلاميّة، حيث دُفن فيها هاشم بن عبد مناف، وهو الجدّ الأكبر لنبي الإسلام، بالإضافة إلى أنّها مسقط رأس الإمام الشافعي.
في عام 1917، سقطت مدينة غزة في يد الجيش الإنكليزي، ووقعت والمنطقة المحيطة مع سائر مدن فلسطين تحت الانتداب البريطاني على فلسطين عام 1920، وكانت المدينة مركزاً لقضاء غزة في تلك الفترة. وعندما أصدرت الأمم المتحدة قرار تقسيم فلسطين إلى “دولتين عربية ويهودية” عام 1947، كانت مدن جنوب الساحل الفلسطيني، أسدود والمجدل وغزة ودير البلح وخان يونس ورفح… ضمن الأراضي الموعودة للدولة العربية الفلسطينية عند الحدود المصرية، غير أن هذا الوعد لم يتحقق أبداً، وفقد سريانه في إثر تداعيات حرب عام 1948.
وفي 24 شباط/فبراير 1949 وقّعت كل من مصر و”إسرائيل” هدنة قضت باحتفاظ مصر بالسيطرة على القطاع الضيق الذي اكتظ بنحو 300 ألف من اللاجئين الفلسطينيين، وأصبح يسمى “قطاع غزة”.
بقيت المدينة تحت الاحتلال الإسرائيلي حتى عام 1994، على الرغم من أنها انخرطت، في وقت مبكّر، في الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987.
وفي أيلول/سبتمبر 1993، وبعد مُفاوضات سرية، وقّع كل من رئيس وزراء “إسرائيل” إسحاق رابين ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات اتفاقية إعلان مبادئ أقرّت بانسحاب “إسرائيل” من قطاع غزة ومناطق أخرى، وتحويل إدارة الحكومة المحلية إلى الفلسطينيين. وفي أيار/ مايو 1994، انسحبت القوات الإسرائيلية من مدينة غزة ومن القطاع بصورة جزئية، تاركة مستوطنات متعددة لها تحت إمرة الجيش الإسرائيلي مع إبقائها فعلياً تحت الاحتلال الإسرائيلي، الذي يتحكّم في المعابر والحدود، براً وبحراً وجواً.
انسحبت “إسرائيل” بالكامل من أراضي قطاع غزة في 15 آب/ أغسطس 2005 بأوامر من رئيس الوزراء الإسرائيلي وقتها أريئيل شارون، وأبقت على حصارها كما كان.
تاريخ من الدم
لطالما كانت غزة منبع الانتفاضات وأرضها منذ الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987. عرفت كثيراً من المجازر والحروب الإسرائيلية، أهمها: عملية الرصاص المصبوب/معركة الفرقان: 2008 – 2009، عمود السحاب/حجارة السجيل: 2012، الجرف الصامد/العصف المأكول: 2014، معركة صيحة الفجر: 2019، حارس الأسوار/سيف القدس: 2021، الفجر الصادق/وحدة الساحات: 2022، وطوفان الأقصى/السيوف الحديدية: 2023… وهي الجرب المتواصلة حتى الآن.
وعموماً، عاش الغزّيّون صدمة الظلم العظيم لأهلها الذين يُمنع عليهم التنقل بحرّية، ويفتقرون إلى سلع الحياة الأساسية، مع تركهم من دون مأوى في الصيف كما في الشتاء. وكما لو أن ذلك لا يكفى، عمد الإسرائيليون إلى قطع إمدادات المياه والكهرباء أكثر من مرّة، ولفترات غير قصيرة، الأمر الذي يُعَدّ بحق نمطاً وحشياً من ضروب الإبادة الجماعية من خلال الجبروت العسكرية والانتهاك اليومي للمواثيق الدولية.
اختار فينكلشتاين في عنوان كتابه كلمة “استشهاد” لأنها الكلمة ذاتها التي استخدمها والداه لوصف ما تعرّضا له في المحرقة النازية في إبان الحرب العالمية الثانية، بحسب الرواية الشائعة في الغرب.
وفي الكتاب يكشف مرة أخرى أكاذيب “إسرائيل” المستمرّة، والتي كان كشف الكثير قبلها في سلسلة أعماله التي بدأها من كتابه الأول “صناعة الهولوكست”، الذي صدر عام 2000، وأكملها بمؤلفاته الأخرى: “التمادي في المعرفة”، “صعود وأفول فلسطين”، “ما يفوق الوقاحة: إساءة استخدام اللاسامية وتشوية التاريخ”، “إسرائيل – فلسطين – لبنان: رحلة أميركي يهودي بحثاً عن العدالة والحقيقة”.
وعن كتابه يقول فينكلشتاين إنه ” ليس عن قطاع غزّة، بل عن الجرائم التي ارتُكبت بحقّ غزّة وأهلها”، مُستعيداً تعبير رئيس الوزراء البريطاني السابق “دافيد كاميرون”.
فثلثا سكانها من اللاجئين، وأكثر من نصفهم تحت سن ثمانية عشر عاماً؛ “هذه المنطقة المحاصرة وشعبها تعرضا منذ عام 2004 حتى اليوم لثماني عمليات هجومية مدمرة راح ضحيتها الآلاف، وأصبح عشرات الآلاف منهم بلا مأوى، وفُرض عليها حصار بلا رحمة”.
إسرائيل تخطط لمحو غزة من الوجود منذ حرب 2005
يؤكد فينكلشتاين بأنه يجب التوقف عن توصيف الوضع بأنه “احتلال” فإسرائيل هي اساساً وبما لا يقبل الجدل، “دولة” فصل عنصري اغتصبت أرضاً ومضت تنكّل بشعبها من أجل إبادته”.
تقرير غولدستون
في كتابه الجديد: “غزة… بحثٌ في استشهادها” يسرد نورمان فينكلشتاين الكاتب والمؤرخ اليهودي المناهض لسياسة الكيان الصهيوني، وقائع متداخلة لكفاح الشعب الفلسطيني عموماً، مع التركيز على غزّة وما حلّ بها من مذابح متتالية وحصار خانق. يصف كيف ظل الإسرائيليون ينبذون عروض السلام، ويمارسون الضغوط بمعونة الراعي الأميركي على مختلف المحافل الدولية لإسكات الشهود، والنجاة من المساءلة، والإفلات من أي عقاب.
في أحد فصول الكتاب، يهتم الباحث بتحليل تقرير غولدستون، الذي تراجع صاحب التقرير لاحقاً عن النتائج التي توصلت إليها اللجنة التي ترأّسها… وكذلك حادثة الهجوم على قافلة سفن المساعدات الإنسانية وتبعاتها السياسية والقانونية. لكن الأبرز فيه ذلك العرض المفصل للفظائع الإسرائيلية و”خيانة منظمات حقوق الإنسان، التي تعمل إمّا على تلميع صفحة الجرائم الإسرائيلية (منظمة العفو الدولية، مجلس حقوق الإنسان)، وإمّا على تجاهلها (هيومن رايتس ووتش). كان ذلك تخلّياً فاضحاً ومخزياً عن المسؤولية عن المحنة الأشد، التي كانت تمرّ فيها غزة”.
ويورد الكاتب مقارنة فريدة في نوعها بين الوضع القانوني لاحتلال نظام جنوب أفريقيا العنصري لدولة ناميبيا، و”الوضع القانوني” للاحتلال الإسرائيلي. وينتهي إلى طرح سؤالٍ في غاية الأهمية، تحت عنوان: “هل الاحتلال قانوني؟!”، بحيث تحدث بشأن “قانونية” الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. وفي معرض آخر يقول: “عندما أصدر “ريتشارد غولدستون” تقريره المدمّر والصادر عن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة” في عام 2009، بدا كأن يوم الحساب حلّ أخيراً على “إسرائيل”.
وبما أن “غولدستون” كان يهودياً وصهيونياً على السواء، لم تستطع “إسرائيل” أن تُلصق به وبتقريره صبغة العداء لـ”إسرائيل” أو العداء للسامية. وانتاب المسؤولين الإسرائيليين خوفٌ من السفر إلى الخارج في تلك الفترة، لأن مذكرات توقيف كانت تنتظرهم في المطارات الأجنبية.
ثم حشدت “إسرائيل” مواردها الهائلة في الداخل والشتات (والتي تضم كما يُفترَض أجهزتها الاستخبارية) من أجل كسر إرادة “غولدستون”، ونجحت هذه القوة الماحقة في تحقيق ذلك. فعمدَ “غولدستون” إلى سحب التقرير في ظروف لا يزال يكتنفها الغموض، وكانت هذه بمثابة رسالة واضحة موجَّهة إلى الناشطين في مجال حقوق الإنسان، ومفادها: إذا تخطّيتم “إسرائيل”، فسوف تلقون مصير غولدستون”.
يقول الكاتب إن “الاحتلال هو فعل موقت يجب ألا يستمر أبداً بحسب القانون الدولي الإنساني واتفاقيات حقوق الإنسان وغيرها من الوثائق والدلائل القانونية”. وبالتالي، يدعو المجتمع الدولي إلى النظر في ضرورة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي غير القانوني للأراضي الفلسطينية. وبعد ان يكشف مزيداً من أكاذيب “إسرائيل” بشأن الاعتداءات الإسرائيلية على غزة وأهلها، يختم مطالعته باستنتاج بارز، مفاده أن “إسرائيل تخطط من أجل محو غزة من الوجود منذ حرب 2005”.
يستشهد “فينكلشتاين” بكتاب “قرن من العار ” (A Century of Dishonor)، والذي وثّقت فيه “هيلين هانت جاكسون”، في أواخر القرن التاسع عشر، تدمير الأميركيين الأصليين، عن طريق تطبيق سياسة حكومية مدروسة ومتعمّدة. يقول إنه “جرى، إلى حد كبير، تجاهُل الكتاب، ثم دخلَ طيّ النسيان، قبل أن يُعاد اكتشافه مؤخراً من جانب الأجيال اللاحقة التي أبدت استعداداً لسماع الحقيقة وتحمّلها. ويستنتج: “ليس هناك من سِجِلّ أشد قتامة من سجل غدرها [أي غدر الحكومة الأميركية] بهذه الأمة”.
وبشأن مؤلَّفه يقول الكاتب: “استلهمتُ كتابي عن غزة من مرثاتها الحارِقة. كان لديّ أملٌ ضئيل خلال عملي على تأليفه في أن يلقى إقبالاً لدى مُعاصريّ. ومع أنه كان موضع استحسان من الخبراء الأكاديميين، الذين عدّوه حاسماً وريادياً، إلا أنه لم يحصل على مراجعة واحدة في وسائل الإعلام التقليدية”.
ويتابع: “مع ذلك، يجب أن يثابر المرء على قول الحقيقة؛ هذا أقل ما ندين به للضحايا. لعله ذات يوم في المستقبل البعيد، عندما تحلّ أزمنةٌ أكثر استجابة، سيقع أحدهم على هذا الكتاب، وقد تراكمَ عليه الغبار على رف في إحدى المكتبات، فينفض عنه خيوط العنكبوت، وينتابه غضبٌ شديد بسبب المصير الذي حلّ بشعبٍ، إن لم يتخلَّ عنه الله، إلا أنه خانَه جشعُ الإنسان الفاني وفساده، ووصوليته ووقاحته، ووهنه وجبنه”. ويستعين الكاتب بما قالته “جاكسون” عن كتابها، حين توقّعت أنه: “سيأتي وقتٌ يبدو فيه للطالب الذي يدرس التاريخ الأميركي أن ما أُلحِق بأمة هنود “الشيروكي” يكاد يكون عصياً على التصديق”. ويستنتج: “أليس بحكم المؤكّد أنه ذات يوم، سيبدو أيضاً أن السجل الأسود لاستشهاد غزة يكاد يكون عصياً على التصديق؟”.
التعنّت الإسرائيلي
في ملاحظة بارزة يقول الكاتب إن “غزة لم تشكّل قط تهديداً عسكرياً لإسرائيل، لأن أياً من “العمليات” (عبارة ملطَّفة يُقصَد بها المجازر) الإسرائيلية في القطاع لم يكن الهدف منها المحافظة على قوتها الرادعة هناك. كان الهدف الأساسي لها استعادة قدرة إسرائيل الرادعة في المنطقة – أي خوف العالم العربي -الإسلامي منها – بعد الإخفاق الذريع الذي مُنيت به في حربها ضد حزب الله في لبنان في عام 2006… والهدف الجديد كان تحجيم حماس التي كانت تعمل على تثبيت دعائم نموذجها للحوكمة في غزة وتحقيق بعض النجاح في مسعاها”.
ويصل إلى نتيجة دامغة، بحيث يقول: “بالكاد دفعت إسرائيل ثمناً لهذه الهجمات… وإنما المعنويات في غزة ظلت مرتفعة”.
يَعُدّ الكاتب أنه، من وجهة النظر القانونية، فإن السمة الأساسية للاحتلال هي أنه يُفترَض به أن يكون موقتاً. وعندما لا يعود موقتاً، يصبح ضمّاً بحكم الأمر الواقع. وبموجب القانون الدولي، يُعَدّ الضم القسري ممارسة غير قانونية. وفي مقدّمة قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242، يجري التذكير بـ”عدم جواز الاستيلاء على الأراضي عن طريق الحروب”.
ويضيف: “يجب أن يكون واضحاً، بعد نصف قرن من الاحتلال المصحوب بالمفاوضات، أن إسرائيل خرقت مبدأ حسن النية. فهي ترفض، منذ البداية، الإطار القانوني التوافقي لإنهاء النزاع – أي قيام دولتَين عند حدود حزيران/يونيو 1967 مع مقايضات طفيفة ومتبادلة في الأراضي؛ و”تسوية عادلة” لمسألة اللاجئين بالاستناد إلى العودة والتعويضات – وذلك تمهيداً للتوصل إلى تسوية نهائية عملاً بالقانون الدولي… فمنذ انطلاق الاحتجاجات الحاشدة، وغير العنفية في الجزء الأكبر منها، في غزة في 30 آذار/مارس 2018، زعمت إسرائيل أنها تستخدم القوة المتكافئة والتمييزية للدفاع عن حدودها. أما منظمات حقوق الإنسان فادّعت، من جهتها، أن إسرائيل لجأت إلى القوة العشوائية وغير المتكافئة، غير أن الجانبَين يتفقان على فرضية، مفادها أنه يحق لإسرائيل الدفاع عن حدودها”.
بيد أن السياج الذي يفصل غزة عن “إسرائيل” ليس “حدوداً تماماً، كما أن غزة ليست دولة. لقد وصف الأستاذ المرموق في الجامعة العبرية، باروش كيمرلينغ، غزة بأنها “معسكر اعتقال”، ووصفتها هيئة التحرير في صحيفة “هآرتس” بـ”الغيتو”، ومجلة “الإيكونوميست” وصفتها بـ”كومة قمامة بشرية”، واللجنة الدولية للصليب الأحمر وصفتها بـ”سفينة غارقة”. وغزة هي ما سمّاه المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان “حياً بائساً وسامّاً”، حيث يعيش شعب بكامله “كأنه في قفص… من المهد حتى اللحد”.
فهل تملك “إسرائيل” الحق في اللجوء إلى القوة لحبس مليون طفل غزيّ في “غيتو” أو في”حي بائس وسامّ”؟ ألا يمتلك أبناء غزة الحق في التحرر من “معسكر الاعتقال”؟ هل يناقش أحد اليوم فيما إذا كانت ألمانيا النازية استخدمت، أم لا، القوة “المفرطة” و”غير المتكافئة” لسحق غيتو وارسو؟ مَن يتساءل الآن عما إذا كان لألمانيا النازية “الحق في الدفاع عن النفس” ضد منظمة القتال اليهودية التي قاومت وهي تشهر السلاح؟ هل يمكن حتى مجرد التفكير في هذه الأسئلة؟”.
إن الهدف الأساسي للقانون الإنساني الدولي هو حماية المدنيين من ويلات الحرب. والهدف الأساسي لقانون حقوق الإنسان الدولي هو حماية كرامة الأشخاص. فكيف يُعقَل أن يُستخدَم هذا القانون أو ذاك لتبرير اللجوء إلى القوة – أيّ قوة – التي تسعى لحشر المدنيين في جحيم يتعرضون فيه للإذلال والتعذيب والقتل؟
وهنا، فالسؤال الوحيد السليم أخلاقياً الذي يُطرَح في ضوء الوضع في غزة، هو الآتي: هل يحق لـ”إسرائيل” تسميم مليون طفل باسم “الدفاع عن النفس”؟
الخاتمة
يستمد الكتاب أهميته القصوى من كونه تاريخاً لصيقاً بالحدث، يبيّن مدى النقص في عملية استخلاص العِبَر. فهو يراوح بين الموضوعي التحليلي والشخصي ليبحث عن معنى ما يحدث في غزّة، ومعنى النصر، ومعنى الهزيمة. وعليه، يسعى للوقوف لحظة تأمل عن قرب شديد من المعركة، تاريخياً ومكانياً وروحياً…
يقول الكاتب إن “الحقيقة ان غزّة غدت رمزاً لمأساة الشعب الفلسطيني ونكبته وكارثته، كما تُشكل رمزاً للبطولة والفداء والصمود، على مدار سبعة عقود، مضت تلاحم أهلها خلالها مع المقاومة بمقدار تلاحم المقاومة وفصائلها، ليشكلوا معاً المعبّر الحقيقي عن الهوية الوطنية، والتي جسدتها وحدة الدم في الميدان، وضرورة وطنية وشرطاً لتحقيق الانتصار.
لذا، يجب التوقف عن توصيف الوضع بأنه “احتلال”. وبالتالي، فإسرائيل هي اساساً وبما لا يقبل الجدل، “دولة” فصل عنصري اغتصبت أرضاً ومضت تنكّل بشعبها من أجل إبادته”.
محمود بري
أ.ش