يتجاوز الفنان عدنان حميدة في معرضه “ذاكرة وركام”، الذي انطلق يوم الأربعاء الماضي في صالة “ألف نون” في دمشق، ارتباطات مفردتي العنوان مع بعضهما، إذ لا تتمحور لوحاته عن ذاكرة الركام أو عن ركام الذاكرة، وإنما ينطلق منهما نحو عمارة تشكيلية تُعيد ترميم الروح المتألمة من كل الدَّمار الحاصل للأرض والإنسان والأخلاق في غزة خاصةً، وذلك عبر حميمية تعيد ترتيب المكان ليصير مشتهىً أكثر، وليصبح فضاءً جمالياً خالياً من الألم والمظالم والوحشة.
المتمعِّن في لوحات المعرض سيكتشف أن ما يرصده حميدة حقيقةً هو ليس ما تراه العين مباشرةً، بل مجموعة القيم المتمحورة حوله. فالواقع هو الخيط الذي يقوده نحو فضاءات الأفكار، وفيها يعجن هذا الفنان الفلسطيني السوري رؤيته للعالم من وجهة نظر فنية خاصة تجمع الواقعي بالتعبيري بالتجريدي، ليقول من خلالها قوله الجَمالي الفريد.
حميدة مسكون بهاجس البيت ومحتويات مرسمه وقاعات دروسه، لذا تراه يُداور الأشكال من مرطبانات المؤونة والصحون وفراشي الرسم والمناضد ووجوه التماثيل… يُحمِّلها زخماً فكرياً، يُحرِّرها من جمودها الظاهر نحو حيوية باذخة، تجعل من الصحن الفارغ تمثيلاً للجوع، ومن مرطبان اللبنة أو المكدوس أو الزيتون إحالةً إلى الأمان، ومن العنب والرمان والرغيف رموزاً للطزاجة، ومن المنضدة يُجسِّد الإحساس بالفراغ والوحشة. أما وجوه فينوس وسقراط فيزيحها من كونها مجسمات تعليمية إلى أهلٍ حقيقيين أنهضهم من الركام وأوصى بهم الجَمَال.
حتى الطيور والأسماك والكلاب والخراف فإنه ينقلها إلى فضاءات رمزية خاصة بالحرية والذاكرة والوفاء والتضحية، بحيث أن هواجسه الفنية لا تخرج عن انتمائه إلى فلسطين بأحزانها المديدة ونضالاتها المستمرة، ورغبته في أن يُنهِضها من ركامها، وأن يُحقِّق قيامة شعبها، تشكيلياً على الأقل.
والجميل في اشتغالات المدرّس في كلية الفنون الجميلة التابعة للجامعة العربية الدولية، أنه يسعى في لوحاته الواحدة والعشرين إلى إشراك جميع حواس المتلقّي، فرؤية العمل وتكوينه تدفعه لتلمُّس سطح اللوحة، وتدرّجاته اللونية تضع المُصغي أمام سلّم موسيقي يطرب، وحميمية الموضوع وتغلغله في الذاكرة يجعله يتذوّقه بفرح، وفي أحيان كثيرة يتشممه كوجبة مشتهاة.
قال حميدة: إن “معرضي ضم موضوعين أساسيين بقالب واحد (تحت الركام، الأشياء الحميمية عند الإنسان) وذلك ضمن تكوين وتشكيلات فنية توصف بأنها فن تصوير بمعنى الـpainting، لكنني لا أعتبر نفسي رساماً واقعياً، فحتى لو كانت بعض أجزاء اللوحة تبدو واقعية إلا أنها متخيلة من الذاكرة، وأنا أشتغل على المواضيع المضمَّنة أكثر من المباشرة، وهي بمجملها إنسانية، عن الحالة التي نعيشها في سوريا وفي فلسطين، وخاصةً المتعلقة بغزة والحرب عليها والتي بدأت العمل عليها منذ 2008 وما زلت حتى الآن. معرضي تحية لأهل غزة وللمقاومة وللشهداء وأرواحهم، ولأقول نحن معكم”.
وعند سؤالنا ما الذي يبقى في الذاكرة جمال الفن أم قسوة الموضوع؟ أوضح حميدة أن قسوة الموضوع موجودة في حالتي الذاكرة والركام اللتين دارت أعماله حولهما، قائلاً: “مطبخ لا يحتوي سوى مرطبان واحد هذا قسوة، قليل من الطعام وكسرة خبز قسوة، تحت الركام قسوة… عندما اشتغلت لم أكن أفكّر بهذه الطريقة، لكن الفنان عندما يتفاعل مع الحدث ينتج شيئاً يتعجب هو ذاته كيف أنتجه، لكن بالعموم لا ينبغي للموضوع أن يطغى على الحالة الفنية، لذلك أسعى دائماً لتحقيق التوازن بين الموضوع كأدبيات، وبين الاشتغال الفني كتكوين وألوان وفنيات وتقنية، لقناعتي بأن إهمال جانب من الجوانب يوقعنا في عدم التوازن، لذلك حتى فلسفة التقنيات ينبغي أن تخدم الموضوع”.
من جهته، قال الفنان بديع جحجاح، مدير صالة “ألف نون” عن المعرض إن: “كلمة تشكيل تليق بالفنان عدنان حميدة، فحتى عند اكتمال اللوحة سنشعر معها أنها تستمر في التشكّل والانبعاث من جديد، وفي كل مرة تعاود النظر إليها، رغم قوة التكوين وحيويته، ورغم ثبات مفرداتها والحدود التي تؤطر عناصرها، ستبقى تشعر بعملية الهدم والبناء وإعادة الصياغة مرات ومرات، حيث تستمر الحالة في النمو لتنبثق من مفرداتها على السطح، لأن الفنان لم يرسمها وحسب، بل هي أيضاً رسمته وأبقته كجزء منها لا يزال يبحث عن ذاته الفردية والجمعية والكونية فيها. إنها حالة بصرية متعددة الاحتمالات، وحالة جمالية مفتوحة على المزيد من الحساسيات، وحالة تشتبك مع الواقع وتتجاوزه، فهي ليست مجرد طبيعة صامتة، ربما هي مزيج لذاكرة مسكوبة من رماد”.
بديع صنيج
صحافي من سوريا
أ.ش