سرُّ الكتابة

الكتابة فعل حياة، فعل مقاومة!

تَحرُّرُ الكاتب من قارئه مسألة ضرورية وحيوية لكتابة نص حرّ يحمل بين سطوره بذور نموه واستمراره.

2024-01-10

تبقى الكلمة القابلة للحياة تلك الطالعة من جوف تربة روحٍ خصبة نقية ثَلَّمتها التجاربُ والمِحن. بالكتابة توَّلِد وتوُلَد، كأنك الوالدة والمولود معاً.

الكتابة فعل حياة.

 

وفي الأزمنة الصعبة تغدو دليل حياة.

 

الكلمة المكتوبة تعيش أكثر من كاتبها، تعبر الأزمنة والأجيال، وتنتصر على الموت والفناء. ألم يقل محمود درويش في “جداريته” الرائعة: “هَزَمَتْكَ يا موتُ الفنونُ جميعُها.

 

هزمتك يا موتُ الأغاني في بلاد الرافدين. مِسَلةُ المصريّ، مقبرةُ الفراعنةِ، النقوشُ على حجارة معبدٍ هَزَمَتْكَ وانتصرتْ، وأفْلَتَ من كمائنك الخُلُودُ. فاصنع بنا، واصنع بنفسك ما تريدُ”.

 

وبمقدار ما هي جميلة هذه الحقيقة، أن تعيش الكتابة أكثر من كاتبها، فإنها في جانب من جوانبها تضمر الكثير من مفارقات هذه الحياة التي لا تكتمل بغير الموت. فكيف إذا كان هذا الموت فعلاً يومياً في بلاد “منذورةٍ” للمطامع والحروب كما هي حال بلادنا التي شاءت أقدارها أن تقع على خطّ الزلازل الجيوسياسية.

 

هنا تغدو الكتابة أكثر من فعل حياة، تصبح فعل مقاومة. مقاومة للموت وللخراب، ولكلّ ما يصبو إليه الطامعون بالأرض وخيراتها وثرواتها، ولا سيما في حالة الاحتلال الصهيوني الهادف إلى اغتصاب ما هو أبعد من الجغرافيا، الذاهب عميقاً في السطو على الذاكرة والتاريخ، وكلّ ما استطاع إليه سبيلاً من موروث بلادنا الضارب عميقاً في التاريخ والجغرافيا معاً.

 

لذا لا نستغرب حين نرى أن جريمة الإبادة الجماعية التي يرتكبها في غزة لا تطال البشر فحسب، بل أيضاً الحجر وما يمثّله من شواهد تاريخيّة تؤكد أحقية أصحاب الأرض بأرضهم، فيعمد إلى تدمير المساجد والكنائس والأماكن الأثرية التي تشهد على بطلان مزاعمه وادعاءاته.

 

أما مسألة الكتابة بذاتها ولذاتها فهي ليست أقلّ متعة من القراءة، ولعله من الصعب الفصل بينهما، ورسم حدود واضحة لكل منهما. لا يمكن لكاتبٍ ألّا يكون قارئاً. بالقراءة وحدها يوسّع مداركه اللغوية ويثري قاموسه.

 

سرُّ الكتابة أنها فعلُ حياة، لا يكتبُ الكاتب لِيُقرأ، وإن كانت قراءته مبعثَ فرحٍ وغبطة. غاية الكتابة لا يمكن حصرها بالبحث عن قرّاء، ولو وضع الكاتب هذا الأمر نُصب عينيه لفقد متعة الكتابة وحريتها.

 

نعم حريتها، فالورقة البيضاء (أو الشاشة بلغة الكتابة الكمبيوترية) هي مساحة الحرية الأوسع، وهي الفضاء الذي لا يُحدّ، جلوسك إلى طاولة الكتابة وامتشاقك قلماً يُنبِتان لك جناحين وحراشف، يجعلانك قادراً على التحليق في الأعالي أو الغوص في الأعماق، تُلاعِبُ الزمان كيفما شئت، تذهب بعيداً نحو المستقبل حيث تغدو كل كلمة شرفة أو نافذة أو جسراً إلى عوالم من دهشات فاتنة أخّاذة، أو ترجع عميقاً إلى ماضي أزمنةٍ غابرة تنفضُ الغبار عن كتب تاريخ كتبها المنتصرون لتكتشف أو لتكتب تاريخاً جديداً للعشّاق والحالمين والمغلوبين والمطحونين بين حجري الرحى: التاريخ وحاضره!.

 

وهنا تماماً نعود إلى ما نشاهده اليوم ونشهد عليه في فلسطين المحتلة وجنوب لبنان حيث لا يمكن لأيّ كاتب حقيقيّ أن يتجاوز ما حدث ويحدث، وأن يحلّق بعيداً من الواقع الذي تشكّل الكلمة مدماكاً أساسياً من مداميك تغييره، لكن هذا لا يعني أبداً أنّ على الكاتب مراعاة ومراضاة قرّائه.

 

التفكير بالقارئ لحظة الكتابة قاتلٌ للحظة ذاتها لأنه يفرّغها من معناها، ليس لأنّ القارئ أقلّ قدراً أو قيمة، على العكس تماماً القارئ هو إضافة للنص، كلُّ قراءة هي معنى جديد يُضاف إلى المعنى الذي قالت العرب إنه في قلب الشاعر.

 

وبعض المعاني التي يمنحها القارئ للنص تفوق في عمقها وسحرها ما قصده الكاتب نفسه، لكن القارئ ليس واحداً، القارئ متعدّد تعدّدَ البشر على وجه البسيطة، هذا التعدّد يعني تلقائياً تنوّعَ أمزجةٍ وأهواء ومستويات فكرية وثقافية، ولو وقع الكاتب في فخ إرضاء الجميع لَخسر الجميع في الوقت عينه. (يقول الفنان الشهير بيل كوسبي: “لا أعرف طريقاً للنجاح، لكنني أعرف طريقاً أكيداً للفشل وهو محاولة إرضاء الجميع”).

 

تَحرُّرُ الكاتب من قارئه مسألة ضرورية وحيوية لكتابة نص حرّ يحمل بين سطوره بذور نموه واستمراره. أما بعد ولادة النص فتلك مسألة أخرى تماماً، متى صار الكتاب بين دفتَي غلاف لِكاتِبه ما يشاء من وسائل الترويج وآلياته، نقول الترويج لا التسويق كي نرفع عن الكتاب شبهة أن يكون مجرّد سلعة في سوق.

 

دائماً أردّد أنّ الكتابة لحظة جنينية بكل ما تعنيه الكلمة، يحمل الكاتب بأفكاره ورؤاه كما تحمل الأنثى بأجنّتها، يعيش معها أوجاعاً وأحلاماً وتصوّرات تسبق مخاضاً عظيماً، لكن عِوَض أن تسيل منه الدماء يتدفّق منه الحبر.

 

الحبر متى كان صادقاً صار شبيه ماء الحياة، والكاتب الحقيقيّ يُصاب بنوع من الكآبة عقب انتهائه من كتابة نصه شبيه بلحظتها لدى الأم في إثر انتهاء عملية الولادة، وبهذا المعنى لا يمكن لعملية الكتابة أن تكون مشاعاً وعلى الملأ، لا بالمعنى المادي للكلمة وإنما بالمعنى النفسي والروحي، حيث لا يستطيع الكاتب المحترف إشراك أحد معه في مراحل تكوّن النص، تماماً كما لا تستطيع المرأة إشراك أحد في عملية تكوِّن الجنين.

 

من هنا لا يستحضر الكاتب لحظةَ الكتابة أحداً عدا شخصياته التي يخلقها من حبر قادر على النطق متى جاء النص في تمام الإبداع.

 

الكتابة المبدعة فعل حياة، فعل مقاومة.

 

ما زلتُ أذكر كيف كنّا في بيروت زمنَ الحروب والتقاتل الأهلي نحمل قصائدنا إلى هذه الصحيفة أو تلك، ننتظر صبيحة اليوم التالي وكلنا فرح وحماسة أن نقرأ أسماءنا في صفحة الثقافة لا في صفحة الوفيات. نكتبُ لِنتنفّس، لِنحيا، لِنُحبّ، ولكلٍّ أن يختار ما تكون كلمته عليه، وردة أو سيفاً أو خنجراً.

 

تبقى الكلمة القابلة للحياة تلك الطالعة من جوف تربة روحٍ خصبة نقية ثَلَّمتها التجاربُ والمِحن.

 

بالكتابة توَّلِد وتوُلَد، كأنك الوالدة والمولود معاً.

 

وبالكتابة تقول إننا منتصرون على الموت والقتلة، سواء أكانوا غزاةً ومحتلين، أو طغاة ومستبدّين، فالكلمة الطيبة هي الضوء الذي يمحو كلّ ظلم وظلام.

 

لا القصائد توقِفُ حرباً *

 

لا الأغاني تُرجِعُ الغائبين،

 

نكتبُ لِنحيا.

 

* من كتاب الشاعر “قلبي يقيني”

 

زاهي وهبي
شاعر لبناني وإعلامي

 

أ.ش

المصدر: الوفاق/ وكالات