كنّا شهوداً على تبريرهم لمحرقة غزّة والإبادة بحقّ المواطنين عبر تقاريرهم التضليلية، ومطاردة كل صوت مناصر لفلسطين في عملية أشبه بصيد الساحرات. وليست المقابلة التي أجراها محمد علي الحوثي مع الإعلامية المصرية نوران سلّام ضمن برنامج «بلا قيود»، سوى استكمال لهذا التضليل الذي عرّاه الحوثي بالسلاح الأمضى: السخرية من غباء الأسئلة وخواء «أعرق مؤسسة إعلامية» في أوروبا!
مع دخول العدوان الصهيوني الوحشي على غزّة يومه المئة تقريباً، أعادت المجتمعات العربية اكتشاف الدور اليمني في هذه المعركة المصيرية. لقد أثبت اليمنيون و«أنصار الله» تحديداً أنهم لا يرتدون القفازات أيضاً في المقابلات التلفزيونية والإعلامية، أنهم لا يصطادون سفن العدو في مضيق باب المندب فقط، بل إنهم أيضاً يصطادون الإعلاميين والإعلاميات الذين يسبحون في الماء العكر. عبر وسائل التواصل الاجتماعي، انتشرت أخيراً مقابلة أجراها محمد علي الحوثي، رئيس اللجنة الثورية العليا في حركة «أنصار الله» في اليمن، مع الإعلامية المصرية نوران سلّام ضمن برنامج «بلا قيود» على تلفزيون «بي. بي. سي عربي». المؤسسة البريطانية التي دائماً ما افتخرت بأنّها «مهنية» يمتاز إعلاميّوها بالمناقبيّة والمهنية العالية والموضوعية وتجري دورات تدريبية على حرية الصحافة والتعبير والكتابة التحريرية «المحترفة» للإعلاميين في العالم العربي، سرعان ما صارت عارية أمام «الطوفان». كلّ هذه الشعارات الكاذبة باتت من الماضي منذ بدء عملية «طوفان الأقصى» التي عرّت المنظومة الإعلامية الغربية، كاشفةً عن التصاقها بمصالح أنظمتها الاستعمارية في المنطقة.
لا مهنية لهؤلاء أنى ادّعوا. كلّ ما كانوا يتهمون سواهم من إعلاميين وصحافيين وكتّاب، كانوا يمارسونه، ويفعلونه طوال الوقت: إنهم جزءٌ من المعركة على شعبنا، جزءٌ من آلة القتل الوحشية، جزءٌ لا يقل أهميةً أو وحشيةً أو إجراماً عن جيش الاحتلال الصهيوني. وتأتي «بي. بي. سي» كرأس حربة هذه الآلة المتوحشة، هي التي مهّدت لمحرقة غزّة في تقاريرها التي ادّعت وجود أنفاق المقاومة الفلسطينية تحت المنشآت المدنية، ولفظت الأصوات المناصرة لفلسطين في صفوف موظّفيها، ووصفت المتظاهرين المؤيدين للقضية الفلسطينية في لندن بأنّهم «مؤيّدون لحماس» وغيرها الكثير من السقطات الأخلاقية والتضليل الذي يهدف إلى تبرير الإبادة والترويج للسردية الصهيونية. ضمن هذا الإطار أيضاً تندرج المقابلة التي عرضت على القناة مع محمد علي الحوثي الذي جلس والجَنْبـية حول خاصرته، ساخراً ببرودة من أسئلة المذيعة، معرّياً الخواء المهني الذي تعيشه «هيئة الإذاعة البريطانية». حين سألته سلّام بثقة عما إذا كانت «الاستخبارات الإيرانية تمدّكم بالمعلومات»، أجاب الحوثي الذي بدا متماسكاً واثقاً، وحتى ساخراً في معظم أوقات المقابلة: «لا علم لديّ بذلك»، لتعود الإعلامية ذات الوجه الجامد والصوت الرتيب واللغة الجسدية الشبيهة بمعلّمات المدارس البريطانيات من خمسينيات القرن الماضي، لتطرح سؤالاً لا ينمّ سوى عن جهل بالسياسة والإستراتيجيا وعن استخفاف بمهنتها قائلةً: «لكن ما علاقتكم بما يحدث هناك وأنتم على بُعد أميال وأميال؟» هنا استغلّ الحوثي السؤال ليظهر أنه يمكن «مقارعة» هذا النوع من الأسئلة من فوق وليس من أسفل مجيباً: «يعني بايدن ونتنياهو يسكنون في شقة واحدة؟ والرئيس الفرنسي يسكن في نفس الطابق؟ ورئيس الوزراء البريطاني يسكن في نفس العمارة؟ أم أنّ بينهم وبين “إسرائيل” آلاف الأميال؟». إجابة ظهّرت الحضيض المهني الذي بلغته القناة البريطانية. لعلّه السؤال الأسوأ والأغبى والأوقح الذي يمكن أن تطرحه مذيعة في مؤسسة هي أصلاً جزءٌ من استعمار سابق، ولربما حالي إذا ما تذكرنا حضوره في العراق.
كانت إجابة محمد علي الحوثي كما لو أنها خارجة من قلوب وحناجر ملايين من المشاهدين والمتابعين العرب والمسلمين؛ حتى إنّ أعداء الحوثيين أنفسهم مثل المعارض السعودي المعروف سعد فقيه، علّق على المقابلة بقوله: «بغض النظر عن موقفنا منهم؛ شفى الغليل بـ «بي. بي. سي» وكل المنطق الغربي». نوران التي يقف خلفها نظام إعلامي متوحش ومتغطرس في آنٍ معاً، يعرف كيف يلعب اللعبة الإعلامية منذ سنوات طوال، لم تقبل سقوطها عند الإجابة الأولى، فقررت بالصوت وملامح الوجه نفسها أن تكمل. سألت الحوثي مغيّرةً الموضوع بأكمله: «ما الذي حققه الحوثيون من كل ضرباتهم؟ حتى الآن 23 استهدافاً لم يحققوا منها شيئاً كأنها جعجعة بلا طحين؟». في حرفة الميديا، ما فعلته نوران سلام هنا كان بمثابة ضربة تحت الحزام، فهي ردت الصاع لمحمد علي الحوثي بأن أخبرته بأنّ «كل ما يقومون به في حركة «أنصار الله» هو بمثابة كلامٍ في الهواء لا قيمة له». الحوثي الذي بات متمرساً إلى حدٍ كبير في حرفة رد الصاع صاعين، أجابها بمنتهى الهدوء، وبدون أي انفعالٍ من أي نوع: «إذن لماذا تدعي أميركا تحالفاً ضدنا ما دامها لم تحقق أي شي؟». هذه الإجابة كان من شأنها أن تنهي المقابلة بشكلٍ كلي، إذ إن ما يقوله الحوثي دقيقٌ وواضح ومعلن. مع ذلك، واصلت المذيعة أسئلتها التي تفتقد إلى حد أدنى من المعرفة والمعلومات، مستمرّة في لعبة التضليل والتعمية، فأكملت: «لم تحقق أيّ ضرر ل”إسرائيل”، ما يعني أنّها جعجعة بلا طحين». هنا أشار الحوثي في معرض إجابته: «على أي أساس تستندين في معلوماتك؟ يوجد شلل تام للموانئ الإسرائيلية في فلسطين المحتلة، انتِ التي تجعجعين بأسئلتك التي بلا طحين». هنا بدا أن النظام المحنّك خلف المذيعة التي كسرها المحاور اليمني، عليه أن يغيّر أساليب اللعبة ويضرب تحت الحزام، وخصوصاً أنه خسر الجولتين الأولين بسرعة وبسهولة فائقة: «انتم تحاولون تعزيز شعبيتكم القليلة في الداخل اليمني».
عرف محمد علي الحوثي هنا بأن خصومه قد رفعوا «الراية البيضاء»، فأجاب: «من يقل ذلك، فليتفضل هو ليعزز شعبيته». هو لم ينفِ الأمر، ولم يجزه، لكنه في الوقت نفسه رمى كرة النار في ملعب المذيعة المصرية فاتحاً المجال أمام «كلّ من يرغب» في تعزيز شعبيته، في الوقوف مع القضية الفلسطينية ودعمها. أما عن «حبة الكرز» فوق الكعكة، فكانت في إجابة الحوثي حول «المهنية» و«الحيادية» التي تتباهى بها المحطة التلفزيونية المناصرة للاحتلال الصهيوني؛ إذ أصرت سلام على كونهم ــ أي «بي. بي. سي» ـــ حياديون في تناولهم لما يحدث، لتكون السخرية مباشرةً و«شخصية» ربما للمرة الأولى: «أنتم حياديون؟ أنت لو تنحازين للقضية الفلسطينية، تفقدين وظيفتك فوراً» في إشارة إلى القوانين الأوروبية والغربية التي باتت تطال أي شخص مؤيد لفلسطين ولو حتى عبر تغريدة أو بوست على الإنترنت، أو حتى لرفعه علماً فلسطينياً سواء على شرفة منزله أو في الشارع.
في المجمل، ما حدث مع محمد علي الحوثي ليس جديداً، ولا حدثاً فردياً خارجاً عن الإطار العام لأداء الإعلام الغربي إزاء أحداث فلسطين الحالية، وهو فعلياً من منجزات «الطوفان»، إذ عرّى هذه المؤسسات وكشفها ليس أمام الجمهور العربي فقط، بل أيضاً أمام جمهور بلادها الذي أزالت عنه السوشال ميديا الغشاء الذي وضعه هذا الإعلام بينه وبين الحقيقة. جاءت «فورة/ثورة» وسائل التواصل الاجتماعي بالصورة والصوت لتقدّم الدليل على تورط هذه المؤسسات في الدم الفلسطيني، أو على الأقل ممارسة التضليل وتغييب الحقائق خدمةً للمصالح الاستعمارية الغربية التي تشكّل “إسرائيل” وكيلها في المنطقة.
عبد الرحمن جاسم