نحو فهم أعمق للأخلاق

العقل بمكانته هذه يتأثر بأمور كثيرة منها الوراثية والبيئية والتجارب الشخصية التي يمر بها الفرد وكذلك الأشخاص المحيطين به. فالعقل لا تنطبق عليه قوانين الأنظمة الرياضية المعقدة،

حروب وقتل ومجازر ومقابر جماعية هذا ما نسمعه في نشرات الأخبار والإعلام المرئي والمسموع، وأمّا الإعلام المقروء فيزيدنا بحالات الانتحار والاكتئاب والعنف والطلاق وانعدام الأمن الاجتماعي، تطور العلم من جهة وتقهقرت الإنسانية من جهة أخرى، اعتقد الإنسان أن تمدنه ينتج عن بعده عن الدين والفطرة (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم:30)، وتركزت هذه الفكرة بعد النهضة الصناعية في الدول الغربية، وبعد اكتشاف البترول وانجرار الفرد فيها وراء الاستهلاك غير المدروس في المجتمعات الإسلامية. الآن وقد وصلت ثورة العلوم و التكنولوجيا إلى حد لم تصله من قبل، بقى جهل الإنسان بنفسه وبعده عنها حد لم يصل إليه من قبل أيضاً. من جانب آخر دخلت العلوم الأساسية (كالرياضيات والفيزياء) حيزًا آخر. فعندما تبنت البشرية النظريات النيوتونية بالكامل وجزمت بانعدام العلاقة بين ما هو مادي ملموس وما هو غيره، تأثرت الفلسفة بذلك وانبثقت منها الفلسفة الديكارتية وغيرها ممن رأوا أن الإنسان موجود كآلة في الكون ووجوده وعدمه لا يؤثر في الكون.

 

فالكون ماض كما هو بغض النظر عن وجود هذا الإنسان وتفاعله. ولكن الآن وبعد النظريات العلمية الجديدة التي زعزعت ثوابت هذه الفلسفة، كالنظرية النسبية لأنشتاين والفيزياء الكوانتية، بدأ الحديث في الفيزياء الحديثة عن البحث عن مكان للعقل وتأثيراته في الفيزياء والكون وكيفية إيجاد مكان للعقل في المعادلات الرياضية والنظريات الفيزيائية.

 

والعقل بمكانته هذه يتأثر بأمور كثيرة منها الوراثية والبيئية والتجارب الشخصية التي يمر بها الفرد وكذلك الأشخاص المحيطين به. فالعقل لا تنطبق عليه قوانين الأنظمة الرياضية المعقدة، ولكنه يتبع قوانين الأنظمة الرياضية المركبة، والتي من خصائصها الأساسية التأثير والحساسية الشديدة للحالات الابتدائية والمعطيات الأولية، وكذلك عدم القدرة على التنبؤ بما يفرز من التغييرات الطفيفة في المعطيات الأولية.

 

فعلى سبيل المثال، قد تكون خاطرة في الطفولة تؤثر على قرارات مستقبلية خطيرة لا يرى الشخص ذاته أو المراقب له أي علاقة لهذه الخاطرة بالقرار، و يستغرب تأثيرها غير المتوقع وغير المبرر منطقياً. وقد يكون آخر قد مرَّ بنفس الظروف ولكن تأثيرها عليه وعلى قراراته المستقبلية مختلف تماماً. فنرى أشخاصًا عاشوا نفس الظروف ولكن ردود فعلهم كانت مختلفة وأحيانا متناقضة. فعلى سبيل المثال ردود الفعل لحالات متشابهة للاعتداء الجنسي في الطفولة تتراوح بين أن يكون البعض معتديا على الأطفال جنسيًا عندما يكبر ومحباً للانتقام من المجتمع، وآخر يريد الانتقام من الوالدين الذين لم يستطيعا حمايته وآخر يدخل في حالة اكتئاب، وآخر قلق وشكوك، وآخر مسالم مطيع، وآخر ضعيف الثقة بالنفس، وآخر يريد حماية الآخرين لكي لا يتعرضوا لما تعرض له هو، و آخر يكرس حياته لمساعدة الضحايا مثله من خلال تفهمه لهم ولمشاعرهم.

 

والأخلاق هي التي تقوم بتهذيب العقل تهذيبًا يتناسب مع إنسانية الإنسان وتوافقه مع الطبيعة. فهي التي تميز ردود فعل الإنسان وتحثه على اختيار الفضيلة والعمل الصالح في الظروف والخيارات الصعبة. وقد حثت جميع الأديان السماوية على الأخلاق الفاضلة وان اختلفت في بعض التفاصيل وجاء الإسلام ليتممها كما قال الرسول الأكرم(ص): “إنَّما بعثت لأتمم صالح الأخلاق”.

 

فجميع الأديان ترى الصدق والأمانة ومساعدة الآخرين من الفضائل وترى الكذب والخداع والزنا من الرذائل. وركز الإسلام على موضوع الأخلاق ليس كنمط لحياة راقية فقط، بل كوسيلة للوصول إلى أعلى مراتب الإنسانية وتطوير الذات.

 

فمن الممكن تعريف الأخلاق على أنها التعامل مع النفس ومع الآخرين بما يتماشى مع القيم الإنسانية السامية كما قال الرسول الأكرم ” الدين النصيحة”. وأسمى ما يتوصل إليه الإنسان في الأخلاق هو ما يُمَكِّن الإنسان أن يصل إلى ما خلقه الله سبحانه من أجله، وأن يكون خليفة الله على الأرض (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ)(البقرة:30) ويتصف بحق بصفات الله سبحانه وتعالى فيؤثر في ما حوله ومن حوله إيجاباً ولو كان وحيداً وعندها لا يكون التكامل والرقي للفرد فقط، ولكن يشمل المجتمع الذي يحويه بل والإنسانية جمعاء. وعلى الرغم من أن ما كُتب عن الأخلاق كان كثيراً ومتنوعاً، ولكنه قليلاً ما خرج عن إطار الوعظ والنصح مما يعطي انطباعا أن الأخلاق هي من الكماليات للإنسان. وما بصدد الباحث إثباته في هذا البحث هو أن الأخلاق والفضيلة ليست من الكماليات. فهي ليست لباس فاخر تتزين به المرأة أو خاتم ثمين يتزين به الرجل.

إنها أساسية للحياة مثل الماء والهواء والغذاء لكي يستطيع الإنسان الحياة بشكل طبيعي منسجم مع الكون يتمتع بسلام داخلي وينعكس ذلك على السلام الخارجي. فالفضيلة أكثر من مجرد وعظ ونصح وإذا ما اندمجت هذه المفاهيم بالعلوم الطبيعية الأساسية، فسوف ندرك أن الأخلاق هي علم من العلوم الطبيعية الأساسية تستمد دعائمها وأسسها من القوانين الطبيعية كالفيزياء مثلاً، وان الدين الإسلامي بدقته ولطافته سن الواجبات والنواهي وما عبَّر عنه بالخير والشرّ بناء على أسس تنسجم انسجاماً تاماً مع تركيبة الإنسان وعلاقته بالكون، وأنه يقدم حلولاً تنتشل البشرية ممّا وصلت إليه من تدهور واضمحلال في الإنسانية وتوصله إلى أعلى ما خُلِق من أجله. فالأخلاق و الرذيلة تُكتسب من البيئة الأسرية في بداية نشأة الطفل، وتغرس الأسرة مفاهيمها وتناقضاتها في عقله. فكثيرًا ما لا يتذكر الإنسان المواقف التي تعرض لها منذ طفولته وركزت فيه مفاهيم تعزز أو تمحو لديه الأخلاق ولكنها بالتأكيد غير ممحوة من الذاكرة. فهي مخزونة بتفاصيلها التامة والدقيقة في القسم الأهم من العقل والمسمى باللاشعور.

 

أ.ش