إنّ من أكبر المشكلات الّتي تواجه الغزّيّين حين يلتقون أيّ شخص خارج غزّة هي معرفتهم عن غزّة، انطباعهم عن الغزّيّ، تصوّراتهم السياسيّة والثقافيّة والفكريّة عن الغزّيّين، توقّعاتهم الحماسيّة، نظرتهم الشموليّة حول كلّ شيء.
يدفع ذلك أيّ غزّيّ إلى محاضرات يوميّة عن شكل الحياة هناك، التنوّع السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ، التاريخ القصير لتغيّرات طويلة في السياسة الفلسطينيّة.
وهذه التوضيحات ليست مُلْزِمَة بقدر ما هي أساسيّة في تكوين صداقة أو إنشاء عمل أو فتح حوار مع الآخرين. أيّ غزّة تلك الّتي تريدني أن أكون منها؟ سؤال لطالما سألته للّذين يعتبرونني أسطورة.
مقاومة اللاجئ
لسنوات طويلة ظلّت غزّة حاضرة على شاشات الأخبار، وفي واجهات الصحف في حدث الحرب وقصّة الحصار، واشتباكها المستمرّ مع حالة المقاومة العسكريّة الوحيدة في الحالة الفلسطينيّة في يومنا هذا.
فُرِضَت على غزّة رواية متينة لا يمكن فكّها وتفسيرها، ولا حتّى نقاشها، تتمثّل في أنّ الغزّيّين بمنزلة الحجر الأخير المتبقّي في البيت الفلسطينيّ؛ وهذا صحيح، خاصّة أنّ غزّة لم تفرز يومًا شكلًا آخر، غير المقاومة الوجوديّة في وجه الاستعمار، بمختلف أشكالها.
ليست مقاومة وعناد الغزّيّين مرتبطة بالفصائل الفلسطينيّة الّتي تقدّم نموذج العمل المسلّح، فالأمر أكبر من ذلك، إذ إنّ تركيبة المجتمع الغزّيّ الاجتماعيّة لا تدفعه إلّا باتّجاه المقاومة والعناد.
أكثر من 70% من المجتمع الغزّيّ من اللاجئين الفلسطينيّين الّذين هُجِّروا من أراضيهم إبّان النكبة، لا يمكن إلّا أن يقاوموا ويدفعوا باتّجاه تربية أجيال جديدة على مفهوم الحرّيّة وإنهاء حالة اللجوء، وقد تجلّى ذلك بالعمل السياسيّ المبكّر بعد نكبة 1947-1949، فالهبّة ضدّ مشروع التوطين بقيادة معين بسيسو، واحتضان الانتفاضتين الكبريين، الأولى والثانية، وما بينهما من عمل سياسيّ وثقافيّ واجتماعيّ، حتّى ظهور العمل المسلّح بشكله البسيط بعد «اتّفاق أوسلو»، وبعد حكم «حماس» لغزّة، وتطوّره إلى الحالة الّتي تشهدها غزّة اليوم.
شكّل الحصار فصلًا نفسيًّا واجتماعيًّا بين الفلسطينيّين، ونحن في حاجة إلى عمل طويل ومعقّد لخلق روابط تواصل حقيقيّة فعّالة وطنيّة مرّة أخرى، بين الغزّيّين أنفسهم، وبينهم وعموم الفلسطينيّين؛ نحو البدء في العمل بالعمل على كلّ المستويات السياسيّة والثقافيّة والاجتماعيّة والجغرافيّة أيضًا؛ فالتواصل القائم على الرواية السياسيّة تواصل منحاز وسلبيّ وغير صحّيّ، والتواصل القائم على أخذ ما يعجب وما لا يعجب يشكّل حالات من الضرب في النسيج الاجتماعيّ الفلسطينيّ.
إنّ شكل التواصل الحاليّ ينحصر في منصّات التواصل الاجتماعيّ لا أكثر، وهذا تواصل غير موضوعيّ، ومليء بعمليّات التجهيل والحشد التسييسيّ القبليّ.
الأسطرة والمسكنة
تعيش غزّة على المتوسّط محاصرة مرّتين؛ مرّة من الاستعمار الصهيوني، الّذي يفرض عليها آخر حصار فيزيائيّ مادّيّ في العالم، برًّا وبحرًا وجوًّا، وحصار روايتها بين الأسطرة والمسكنة.
ولذلك دلالات وأسباب كثيرة ودوافع سياسيّة وأيديولوجيّة أيضًا، إلّا أنّ هاتين الروايتين تُفقدان غزّة حقيقتها، تُفقدانها تنوّعها وانتماءاتها الفسيفسائيّة، وغنى مجتمعها الثقافيّ والسياسيّ والتاريخيّ، تُفقدانها حقيقتها باعتبارها مدينة تمارس السياسة في كلّ شيء؛ فليس من المعقول أنّ الغزّيّين كلّهم ينتمون إلى نفس الصفّ السياسيّ ولا يتعسكرون جميعًا خلف الأدوات السياسيّة لفصيل سياسيّ ما.
الرواية الّتي تروي غزّة من ناحية واحدة رواية قاهرة، وتعزّز في عقل الغزّيّ رفضًا لروايته من قِبَل الآخر.
في الحرب وقبلها، نسمع ضخًّا هائلًا من الروايات غير الإنسانيّة الّتي تدفع لأسطرة الغزّيّين، ووصفهم بأوصاف فوق الوصف البشريّ الإنسانيّ الطبيعيّ.
لماذا على الغزّيّ أن يبكي؟ ولماذا عليه أن يخاف؟ ولماذا عليه أن يصرخ أمام الكاميرات؟ هذه أسئلة، وعلى الرغم من غرابتها إلّا أنّها حاضرة بقوّة في العقل العربيّ والفلسطينيّ عن الغزّيّ، حيث بات الغزّيّ يفكّك هذه الأوصاف عنه بالمناداة الدائمة.
نحن بشر مثلكم، نخاف، نحبّ، نحزن، نغضب، نشعر بالحنين، نخاف الفقدان، نكره الحرب، لا نرغب في تجريب الألم والنزوح والجوع والعطش.
لا يبدو منطقيًّا تبرير حالة الضعف العربيّة والفلسطينيّة بخلق أساطير غير موجودة في الواقع، حتّى مفاهيم الصبر والصمود تبدو مختلفة جدًّا من غزّيّ إلى آخر؛ فلكلّ شخص قصّته الفرديّة وتجربته مع الحصار والحرب والخسارة والنصر، ولكلّ غزّيّ قصّته عن الحياة، ولكلّ غزّيّ فكرته عن النجاة.
لذلك؛ لا يمكن جمعهم كلّهم في نفس الرواية بأنّهم أبطال لا يخافون شيئًا ولا يأبهون به؛ فالمقاومة اليوميّة عن الوجود لا تصنع أحجارًا، بل تصنع بشرًا حالمين بالحرّيّة والاستقلال، والانعتاق من الاستعمار، والخلاص من الديكتاتوريّة والظلم. ولا يمكن للحجارة أن تحرّر نفسها. هذا على الأقلّ ضدّ المنطق البشريّ وحتميّات التاريخ.
في الحرب أيضًا وقبلها، نسمع رواية مركّبة قائمة بالأساس على معرفة غزّة من حدث الحرب؛ معرفة غزّة من الخبر على الشرائط الحمراء العاجلة؛ قليلون مَنْ يعرفون تنوّعها، اقتصادها، جغرافيّتها، تركيبة مجتمعها… قليلون مَنْ يعرفون بحرها، ولا شيء عنها إلّا في سياق الموت. هذه الرواية ظالمة لأنّ الغزّيّين ليسوا مساكين في صفحات الحاضر، وليسوا ضعفاء.
إنّ مطالب الغزّيّين عمومًا تمثّل حقّهم في الحياة والحرّيّة والكرامة، وهذه الأوصاف الّتي تنظر إلى غزّة باعتبارها مكانًا فقيرًا منحصرًا في زاوية بعيدة من الجغرافيا الفلسطينيّة، تجدها بكثرة في وسائل الإعلام، تتمظهر في انتهاك خصوصيّة المجتمع وكرامة الناس الشخصيّة.
الواقع الاقتصاديّ في غزّة انهار بصورة كبيرة؛ بفعل الحصار والحروب المتتالية، وتراكم الفشل الإداريّ في غزّة. وربّما وصل إلى مرحلة أبعد من الانهيار، لكنّ محاولات البقاء على الأرض لا تزال حاضرة، ومحاولات النجاة أيضًا حاضرة.
ليس لرواية غزّة مكان
ألاحظ أنّ رواية غزّة لا تُرْوى على لسان أهلها، وهذا ليس حكمًا مطلقًا، بل تسجيل لمشاهدة وملاحظة حقيقيّة. ليس لرواية غزّة مكان إلّا في حدث الحرب؛ أن يقول الصحافيّون أخبار الاستهدافات العسكريّة؛ أن يخرج الناطق العسكريّ على التلفاز؛ أن تخرج «الأمم المتّحدة» لتبيّن نسبة الفقر والهجرة والأوضاع الإنسانيّة. وفور انتهاء الحرب يُغلق العالم آذانه لروايات كثيرة متعدّدة عن غزّة بلسان أهلها، وهذا ينسحب أيضًا على الفواعل السياسيّة والثقافيّة، والمشاهد الإعلاميّة والعلميّة في فلسطين والمنطقة العربيّة؛ حين ترغب هذه المشاهد والمنصّات في الاستماع إلى رواية واحدة، نغمة واحدة، صوت واحد، ولا ترغب في النظر إلى الآراء المختلفة، والإنتاج المعرفيّ والثقافيّ، والحركة السياسيّة الغزّيّة، باعتبارها ليست منفصلة عن السياق الفلسطينيّ الجامع.
هذا الإقصاء لأصوات شباب غزّة ليس عابرًا، بل ممنهج، يخدم بالأساس القوّة الإعلاميّة وتشابكاتها في الإقليم، ويخدم أيضًا إبقاء غزّة في حالة سكوت سياسيّ وثقافيّ وفكريّ؛ ما يدفع الشباب في غزّة، الّذين يشكّلون نصف المجتمع تقريبًا، إلى الانزواء والهجرة والاغتراب والخلاص الفرديّ. حين لا يرغب أحد في سماع صوتي عن الهويّة، والدولة، والاستعمار، والحكم، والدين، والحرّيّات، والمشاركة المجتمعيّة؛ فلا يمكن روايتكم عنّي أن تكون حقيقة.
هذا الانسحاب من الرواية ليس طوعيًّا، بل قاهرًا وقسريًّا لأسباب كثيرة؛ أوّلها أنّ الناس خارج غزّة لا يرغبون في تشكيل صدمة عن حقيقتها، وحقيقة أفكار أهلها المتنوّعة.
لا تفتقر غزّة إلى شبكة مؤسّسات، وتجمّعات أهليّة ومجتمعيّة، وحركات سياسيّة وحزبيّة، ومشاريع ثقافيّة، ولا ينقصها منابر إعلاميّة؛ تنقصها موضوعيّة إعلاميّة، وتنقصها إرادة سياسيّة لفتح مساحات حرّيّة التعبير والمشاركة السياسيّة؛ تنقصها نزاهة في التعاطي مع أهلها.
كريم أبو الروس
كاتب وباحث فلسطينيّ
أ.ش