وإن كان الغربي عمومًا والأميركي بشكل خاص قد عمل بجهد على تطويع واجهة ثقافية في بلادنا، تنطق بوجهة نظره، وتجمّل أعماله وسلوكياته القاتلة وتغطيها من دونية بغيضة تنبهر به وتراه دائمًا نموذجًا يُحتذى ولا سيّما في ما يخصّ احترام حقوق الإنسان وحياته؛ وأكثر من ذلك، تنظّر لأفعاله الإرهابية وتبحث لها عن مبرّرات، أو تتذاكى فتصمت حياله وتحكي كذبًا وتضليلًا عن كلّ الذين اتخذوا خيار مقاومته وقتاله، سواء بالتقليل والاستصغار أو باتهامهم بأنّهم ليسوا أحرارًا في خيارهم، تمامًا كما يريد الأميركي للعالم أن يرى في كلّ حركة مقاومة ترفض الانصياع له.
وقد رأينا في هذه المعركة ألف شاهد “مثقّف” على ذلك، ومنهم من يداري حنقه على المقاومة الموحّدة ساحاتها، فيمدح واحدة ويذمّ الأخرى، على اعتبار أن مكوّناتها في منافسة فيما بينها. المؤسف بحقّ أنّ هؤلاء المثقّفين الذين لطالما رأوا في التيارات الثقافية الغربية نهجًا ومثالًا يريدون إسقاطه على مجتمعاتنا، رافضين مجرّد الإقرار بأن لهذه الأرض مدرستها الثقافية الخاصة، لم يحذوا حذو نموذجهم الثقافي هذا في ما يخص الموقف ممّا يجري علينا الآن. فلا عجب أن ترى الكتّاب الأوروبيين مثلًا وهم يعبّرون عن موقف صارخ يجرّم الإرهاب الذي تتعرّض له غزّة، ويعادي أنظمته المتواطئة ماديًا أو معنويًا مع الصهاينة ضدّ الإنسان في بلادنا،كأن تقوم الكاتبة الفرنسية، الحائزة على نوبل للآداب، “آنّي ايرنو” بالتوقيع على عريضة لمقاطعة المؤسسات الثقافية الألمانية التي تقمع صوت الفلسطينيين، فيما يغيب تمامًا صوت أي مثقّف عربي من الذين في الأيام العادية يحسبون أنفسهم أوروبيي العقل والقلب والتجربة، وفيما تسري في واجهة المشهد الثقافي المتأمرك رائحة البحث عمّا يبرّر للصهيوني القتل المتواصل منذ 106 أيام عوض اتّخاذ موقف منه، أو التحرّك بفعالية دفاعًا عن الإنسان على الأقل.
يأخذنا الأمر إلى التساؤل عن جدوى الثقافة التي لا تصبح سلاحًا يصون الأرض التي نبتت فيها، وإلى إدانة كلّ ثقافة تعجز عن ذلك بل إلى اعتبار صمتها الآن دليلًا على همجيّة أهلها وتستّرهم خلف الأقنعة “الثقافية” للتمكّن من لعب الأدوار المعادية للأرض وناسها. يأخذنا الأمر إلى الجملة الشهيرة للشهيد العزيز باسل الأعرج: “بدك تصير مثقف، بدك تصير مثقف مشتبك، إذا ما بدك تكون مشتبك، لا منك ولا من ثقافتك” والتي ربط فيها بشكل واضح بين الثقافة والاشتباك، بحيث تسقط كلّ ثقافة لا تقاوم إلى حدّ الاشتباك مع العدوّ، ويأخذنا إلى إدانة صريحة لكلّ ثقافة وكلّ مثقّف يمكنه اللّعب على المشهد الدامي والقفز فوق آلاف الجثامين المضرّجة بالدم والقهر للبحث عمّا لا يعجبه في العمل المقاوم، بغية إرضاء الأميركي، وبشكل مجانيّ في أغلب الأحيان، إن لم يكن لأجل جائزة أو تنويه أو حتّى تصفيق ورضا.
المؤسف أن ما يدفع هذه العصبات الثقافية إلى معاداة المقاومة ليس فقط الاسترزاق والتبعية الوظيفية، هو أيضًا الشعور القبيح بالدونية، وبفوقية الغربي، حتّى وهو يمارس أبشع ما يمكن أن يخطر ببال البشر. المؤسف أن هذه الدونية هي أرض نبتت فيها أسماء ووجوه ثقافية، تكاد من فرط خوائها أن تكون ملكية أكثر من الملك في إطار تطبيع فعل قتلنا، بل والتسويق له على أنّه فعل ينبغي أن نشكر “الأبيض” عليه. المؤسف أن وجوهًا ثقافية لامعة في أرض هذا الأبيض تنتصر لإنسانيتها وإنسانيتنا وإن في موقف عابر، يعجز عنه الكثير من مثقّفينا، مع الكثير من التحفّظ على هذه الـ”نا”.
ليلى عماشا
أ.ش