قصص صادمة ورفض للتهجير.. جرحى غزة في مستشفيات القاهرة

خلال أكثر من مئة يوم من الحرب الإجرامية التي تشنها "إسرائيل" منذ 7 أكتوبر الماضي، استقبلت مصر نحو 1210 مصابين ومرضى من أبناء غزة لعلاجهم في المستشفيات المصرية وبعض الدول العربية الأخرى، تمّ توزيعهم على مستشفيات محافظة شمال سيناء ومستشفيات القاهرة.

هول الصدمة التي لا تزال تكسو وجهه وترى فيها قسمات مآسي غزة وأهلها، تذكّرك من الوهلة الأولى بوحشية وحرب الإبادة الجماعية التي يشنها العدو الإسرائيلي ضد الفلسطينيين. تلك هي حالة الشاب الفلسطيني زكريا أبو شحمة بعد إجلائه إلى مصر لتلقّي العلاج من وسط الركام في أعقاب تدمير وقصف منزله وسط حي الشجاعية، أكبر أحياء مدينة غزة، ما أودى بحياة نحو نصف عائلته، بينهم زوجته ووالدته وأبناء عمومته وأبناؤهم وولدان كان قد أنجبهما قبل 3 أعوام، فيما جرح الباقون.

 

ومثل زكريا أبو شحمة، ترتسم على وجوه جرحى غزة داخل مستشفى معهد ناصر، أحد أكبر المراكز الطبية المتخصصة التابعة لوزارة الصحة المصرية، في وسط القاهرة، حيث أكثرهم من الأطفال الذين خرجوا من تحت الركام بشظايا الصواريخ والقنابل والمقذوفات المحرّمة دولياً، آثار الجريمة الكبرى التي ينفّذها العدو الصهيوني في قطاع غزة، من دون وازع من ضمير أو قوانين أو رادع دولي.

 

 

لن نركع ولن نترك أرضنا حتى آخر فلسطيني

 

أبو شحمة، الذي لا يزال جسده يعاني من حروق وندبات عميقة وتشوّهات سيذكرها التاريخ مثلما حدث من قتل وتشريد لأهل غزة وتجريف ودمار لخريطتها، فضلاً عن إجرائه عملية جراحية في قدمه اليسرى التي تمّ لفّها بالشاش والقطن الأبيض، وتظهر فيها الشرائح المعدنية بفعل سقوط الركام عليه وإصابته بشظايا قنبلة ألقيت على منزل عائلته، يكسو وجهه الحزن والأسى على فقدان الأهل، على رغم انتشاله حيّاً من تحت الأنقاض بعد ساعات طويلة.

 

ورغم إجراء العملية الجراحية في مستشفى الشفاء الطبي في غزة لكنه لم يتعاف، وما كان هناك من بديل سوى تحويله للعلاج في مصر، وهو اليوم يمكث من دون مرافق بعد فقدان نصف عائلته وجرح الآخرين.

 

ووفق تقديرات رسمية مصرية، فخلال أكثر من مئة يوم من الحرب الإجرامية التي تشنها “إسرائيل” منذ 7 أكتوبر الماضي، استقبلت مصر نحو 1210 مصابين ومرضى من أبناء غزة لعلاجهم في المستشفيات المصرية وبعض الدول العربية الأخرى، تمّ توزيعهم على مستشفيات محافظة شمال سيناء ومستشفيات القاهرة، بينها معهد ناصر الذي استقبل أكثر من 27 مصاباً، بينما استقبلت مستشفى العاصمة الإدارية نحو 20 طفلاً من المبتسرين (ولادة مبكرة) للعلاج داخل الحضانات.

 

يقول الشاب العشريني بلغة مفعمة بالأسى، إنه “رغم الكارثة الإنسانية التي حلّت بغزة، وكل عمليات الإجرام والحملة الانتقامية التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين من قتل وإبادة وتهجير، لن نركع ولن نترك أرضنا حتى آخر فلسطيني.. إسرائيل تتعمّد تغيير خريطة القطاع وهناك خطة ممنهجة لتغيير ديمغرافي تجاه سكانه، لكن سنظلّ نقاوم ولن نستسلم رغم ما فقدناه وخسارتنا الفادحة في الأهل والأرض”.

 

ويضيف أبو شحمة، وهو يمسك بقدمه في إثر نوبة ألم انتابته فجأة: “المقاومة وكتائب القسّام وسرايا القدس وغيرهما أعادوا لنا الهيبة، أنا أفتخر بهم وبمقاومتهم، ونحن ندعمهم بكل أرواحنا، صمودهم ضرب نموذجاً للعالم، وإن شاء الله إنهم لمنتصرون، نحن أصحاب الأرض ولن نتخلّى عن قضيتنا مهما طال الزمن، سنعود لغزة وسنكمل صمودنا”.

 

 

صامدون ولن نرحل

 

قصص الجرحى الفلسطينيين داخل مستشفى ناصر تعدّ ضمن ملحمة الصمود الفلسطيني، فهناك تجد أمّاً فلسطينية فقدت 14 فرداً من أسرتها، وطفلاً تسبّبت الأسلحة المحرّمة فى بتر ساقه بالكامل، وآخر لم يبق من أسرته مَن يرافقه، بعد أن دمّر وجرّف الاحتلال الصهيوني نحو 80% من أراضي قطاع غزة بنحو 10 آلاف طن من القنابل والجرافات من الأرض والسماء.

 

هول تلك الكارثة، تحدّثت عنها  السيدة الفلسطينية إلهام ماجد، في الغرفة المجاورة لغرفة زكريا أبو شحمة، الواقعة في الطابق الرابع في قسم العظام داخل مستشفى ناصر، وهي تحاول المشي مجدّداً، بعد إصابتها البليغة بشظايا في أماكن متفرقة من جسدها منها الكبد والساق، وتكسّر بعض ضلوعها وفك أسنانها، من جراء قصف إسرائيلي أصاب منزلها يوم 31 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، ما تسبّب في انهيار المنزل المكوّن من 4 طوابق على رأسها برفقة أولادها في مخيم جباليا، شمال قطاع غزة.

 

تمّ انتشال إلهام ماجد، صدفة من تحت الركام بعد 4 ساعات، وحينها كانت غير قادرة على التنفّس وعلى حافة الموت، أما ابنتها ذات الـ15 ربيعاً فقتلت على الفور، كما انتشلت جثة نجلها ذي الـ17 عاماً من تحت الأنقاض بعد عشرة أيام بعد أن تحلّلت.

 

لم تقف الكارثة التي حلّت بالسيدة الفلسطينية عند هذا الحد، بل تحدّثت، وهي لا تتمالك دموعها، حين روت تفاصيل استشهاد نحو 17 شخصاً من عائلتها في هذا القصف الغادر، إذ كانوا يعيشون في المنزل الذي يقع في أحد الشوارع الضيقة بالمخيم المكتظ بالسكان، والذي انهار فوق رأس العائلة فجأة بضربة صاروخية.

 

وتضيف: “من دون سابق إنذار تمّ قصف البيت بغارة إسرائيلية أحدثت حفرة عميقة أمام البيت، قتلت ابنتي وابني، واختفت شقتنا للأبد، الوضع كارثي في غزة، هناك مجاعة حقيقية، ودمار غير مسبوق الاحتلال لم يبق أخضر ولا يابس، الصهاينة يتعمّدون تدمير البشر والحجر للاستيلاء على أراضي غزة وتهجير أهلها، لكن لن نترك أرضنا ومنازلنا لو هنعيش في خيام، نحن صامدون ولن نرحل”.

 

 

خطة الصهاينة

 

الشاب الثلاثيني يوسف الغزاوي، الذي لا يزال وجهه متورّماً بسبب الإصابات بساقه اليسرى المغطاة بدماء جفت، تخرج القطع المعدنية التي ركّبت لتثبيت العظام، أصيب هو الآخر في انهيار منزله المكوّن من أربعة طوابق في مخيم الشاطئ، غربي مدينة غزة، وحين تمّ إدخاله مستشفى شهداء الأقصى في غزة تم التعامل معه من دون مادة البنج لقلة إمكانات المستشفى والحصار الإسرائيلي، ومنع إدخال المساعدات الطبية والإغاثية للقطاع.

 

يوسف، الذي بترت ساقاه بعد إصابته بقصف إسرائيلي داخل مدرسة الأونروا في مخيم النصيرات، كان قد تعرّض للقصف مرتين سابقاً، فخلال المرة الأولى استشهد جميع أفراد عائلته في بيت حانون، وأصيب بجروح في المرة الثانية حين تعرّض منزل شقيق أمه في حي الشيخ رضوان للاستهدف الصهيوني.

 

يقول الغزاوي بشكل مقتضب، وهو لا يأسي على حاله، إن: “الصهاينة يخططون لجعلنا لاجئين، لكن مهما حدث نحن متمسّكون بأرض آبائنا وأجدادنا والبقاء في الوطن”.

 

ومن جانبه، يقول الطبيب محمود سعيد، مدير معهد ناصر، لـلميادين نت، إن المستشفى خصّص طابقين كاملين لاستقبال جرحى غزة، وخلال شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي تمّ استقبال أولى الحالات.

 

وأضاف سعيد أنه “ضمن الجرحى هناك حالات معقّدة طبّياً نتيجة تعرّضها للقصف الإسرائيلي، إلا أنه يتم التعامل معها طبّياً، والمستشفى جاهز لاستقبال أي مصابين يتم إخلاؤهم، وهو في خدمة الأخوة الفلسطنيين”، لافتاً إلى أن القصف كان بطريقة مباشرة وهناك حالات بتر في الساق والذراعين وتشوّهات جلدية من جراء نيران القذائف الثقيلة والمحرّمة دولياً التي يستخدمها “جيش” الاحتلال الإسرائيلي.

 

 

إصابات خطيرة بعد متفجّرات تكفي لهدم حصون

 

في الغرفة المجاورة لغرفة يوسف الغزاوي، داخل المستشفى الذي يقع على مسافة تقدّر بنحو 6 ساعات بالسيارة من قطاع غزة إلى القاهرة، يعالج الطفل عبد الله الكحيل، من جرّاء إصابة خطيرة تعرّضت لها قدمه التي كان سيتم بترها.

 

لم يستطع أطباء مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح، إجراء الجراحة الدقيقة لكحيل (12 عاماً) بسبب قلة الإمكانات، وبعد نقله إلى القاهرة تم تشخيص حالته على أنها كسور في عظمة الفخذ بقدمه اليسرى وكفّ اليد، وجروح متفرقة وشظايا في قدمه جعلتها معرّضة للبتر، واختفاء الجلد من الجسم، وفق والدته صابرين محمد إسماعيل وشهرتها صابرين نضال، التي ترافقه في رحلته العلاجية.

 

وقالت نضال إن نجلها سيجري عملية جراحية لتثبيت العظمة وإصلاح القدم عن طريق جراحة ميكروسكوبية، كي يعود إلى أرض الوطن للعب كرة القدم التي هي هوايته وحلمه، هو لا يريد محو طفولته وذكرياته التي عاشها في غزة وفي دير البلح.

 

أصيب الكحيل خلال استهداف الاحتلال الإسرائيلي بغارة جوية إحدى السيارات داخل مركز الإيواء، بينما تم استشهاد كل رفاقه وشقيقه الأكبر، وفق نضال، التي وجّهت الشكر إلى الله لنجاة ابنها وإلى السلطات المصرية لاستجابتها ونقله للعلاج خارج غزة.

 

وعن الحالة الصحية للطفل عبد الله الكحيل، يقول وزير الصحة المصري خالد عبد الغفّار، إن حالته الطبية ليست سهلة وهي صعبة للغاية، لأنه فقد عظمة الفخذ الأيسر بالكامل ونصف جلد الساق، ويعاني من فقدان للعظام والأنسجة المحيطة وبتر بأطراف أصابع اليد اليسرى، وانفجار في الطحال.

 

وأضاف، في تصريحات صحافية، أن “الطفل كان يعاني من إصابة خطيرة كادت أن تستلزم بتر ساقه في حال بقائه في غزة، نظراً لقلّة الإمكانيات هناك”، مشيراً إلى أن تحويله إلى مصر يهدف لتلقّي العلاج وتجنّب بتر الساق.

 

وفيما يتعلّق بالحالات الأخرى من المصابين في قطاع غزة، أشار الوزير المصري إلى صعوبة الإصابات نتيجة للقصف الثقيل على بنايات هشة، مشيراً إلى أن كمية المتفجرات المستخدمة تكفي لهدم حصون، مشيراً إلى وجود إصابات خطيرة بين صفوف الجرحى، مثل تمزّق في أجهزة الرئة والكبد والكلى، وشظايا في الجمجمة، إضافة إلى حالات بتر للأطراف، كما أن عمليات العلاج قد تستغرق وقتاً طويلاً.

 

 

استقبل المستشفى 19 طفلاً فلسطينياً من الخدّج

 

في أروقة مستشفى العاصمة الإدارية، شرقي القاهرة، أمام “وحدة الحضانات” تقف السيدة الفلسطينية فريدة سيف أحمد، خارج الغرفة وخلف زجاج غرفة الأطفال المبتسرين (الخدّج) لرؤية نجلها يامن الذي أنقذته العناية الإلهية بعد اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي مجمّع مستشفى الشفاء الطبي، ونفاد الوقود بالمشفى، لكن في اللحظات الأخيرة تم نقله للعلاج في القاهرة.

 

تقول سيف، وهي ممسكه بهاتفها المحمول تحاول التقاط صورة لنجلها وهو داخل الحضانة بعد أن رأته للمرة الأولى منذ إخلائه من غزة، لإرسالها إلى والده في غزة للاطمئنان، تقول لـلميادين نت، إن “العناية الإلهية أنقذت ابني.. كان على وشك الموت بعد القصف الإسرائيلي على المستشفى ونفاد الوقود بمجمع الشفاء، عشنا كوابيس وأياماً صعبة، لكن تم إجلاؤه في اللحظات الأخيرة، لقد وصلت للتو إلى المستشفى للبحث عن طفلي ووجدته الحمد لله، ربنا كبير وكريم بنا.. بالفعل من رحم المعاناة يولد الأمل”.

 

واستقبل المستشفى 19 طفلاً فلسطينياً من الأطفال الخدّج استقرت 8 حالات منهم، وفق الطبيب أحمد سعيد، مدير مستشفى العاصمة الإدارية، الذي أضاف لـلميادين نت، أن المستشفى استقبل خلال اليومين الماضيين الطفل المبتسر رقم 20، وهو لا يزال يرقد في حضانة بالعزل نتيجة إصابته بشظايا بالعين أفقدته إحدى عينيه.

 

وأكد سعيد أن إدارة المستشفى خصصت ممرّضين لمتابعة الأطفال، الذين تعافوا وخرجوا من الحضانات لرعايتهم عبر أطقم التمريض.

 

وعلاوة على الأطفال المبتسرين استقبلت القاهرة 12 طفلاً فلسطينياً، للعلاج من الأمراض السرطانية في المستشفيات المصرية المتخصصة في علاج أورام الأطفال، بعد توقّف مستشفيات غزة عن تقديم خدماتها الطبية بفعل القصف والانتهاكات الإسرائيلية، بحسب وزارة الصحة المصرية.

 

أ.ش

المصدر: الميادين

الاخبار ذات الصلة