انشغلت قطاعات كبيرة من الرأي العام، وكذلك اهتمت وسائل الإعلام العربية بتسريب يعد مادة دسمة للمتابعة والاهتمام، وهو التقرير الذي نشرته مجلة “فورين بوليسي”، والذي نقل عما وصفه مصادر في الخارجية الأميركية والبنتاغون، أن واشنطن تدرس إمكانية سحب قواتها بشكل كامل من سوريا، لأن البيت الأبيض لا يرى ضرورة لبقائها هناك.
وبحسب التقرير، فإن الإدارة الأميركية تجري حاليًّا نقاشًا داخليًا حول موعد وكيفية الانسحاب، لكن القرار النهائي لم يتخّذ بعد.
واللافت أن البيت الأبيض نفى نية الانسحاب في اتّصال حصري مع قناة “العربية” السعودية!
هنا ينبغي مناقشة هذا الملف على مستويين:
الأول: يتعلق بطبيعة التواجد الأميركي في سورية وهل هو مجرد موطئ قدم أم هو تواجد جيوستراتيجي على صلة وثيقة بالصراعين الإقليمي والدولي، وبالتالي هل يكون الانسحاب مفاجئًا أو بمجرد قرار، أم يستدعي معارك كبرى لطرد المحتلّ وجعل الكلفة الاستراتيجية للتواجد أعلى كثيرًا من مكسب البقاء؟
الثاني: يتعلق بالدعايات السياسية المواكبة للانتخابات الأميركية وطبيعة المنابر التي تقوم بنشر التقارير، حتّى لا ينخدع الرأي العام العربي بالكثير من الدعايات ويحدث نوعًا من التشوش والبلبلة وخطأ الحسابات.
التواجد الأميركي في سورية هو احتلال وتمركز جيو استراتيجي عبر قواعد عسكرية تقوم بمهام اقليمية ودولية، منها ما يخص محور المقاومة وتواجده في سورية وقطع تواصله، ومنها ما يخص التواجد الروسي.
وتتنوع الأدوار بين ماهو سياسي يخص حصار سورية والسيطرة على ثرواتها ودعم قوات انفصالية والإضرار بسيادة سورية ووحدة أراضيها، وبين ما هو لوجستي يخص القواعد العسكرية ودعم وامداد القوات الأميركية بالمنطقة والحيلولة دون تركها خالية للروس، كما تستخدم هذه القواعد لحماية أمن الكيان الصهيوني.
وبالتالي فإن التقارير الاستراتيجية الرصينة تفيد بأن جزءًا من القوات الأميركية يتولى مهمّة تدريب المقاتلين الأكراد من قوات سورية الديمقراطية، ويتولى جزء آخر حماية المطارات وحقول النفط والغاز في الحسكة ومحافظة دير الزور المجاورة.
ويفيد تقرير هام أعده “رافائيل فخروتدينوف” أن تعزيز واشنطن وجودها العسكري في سورية يأتي في إطار تصاعد الصراع بين الولايات المتحدة وروسيا في المنطقة. كما يشير إلى أن الخبراء يرون أن حشد مزيد من القوات الأميركية في سورية يأتي في إطار رغبة واشنطن في الضغط على موسكو.
وفي يوليو 2023 وقبل طوفان الاقصى، نقلت الولايات المتحدة معدات عسكرية ولوجستية كانت موجودة داخل العراق إلى قواعدها في سورية. وبعض التقديرات تقول إن هناك ما يقارب 3000 جنديّ أميركي في القواعد المنتشرة بمحافظات الحسكة، دير الزور وريف دمشق، في حين تتوزّع نقاط التواجد بين محافظتي دير الزور والحسكة.
وتتوزّع القواعد الأميركيّة بشكل يطوق منابع النّفط والغاز السّوريّ المتواجد شرق نهر الفرات، وهو ما يُمثّل غالبية الثّروة الباطنيّة لسورية.
والأهم هو أن أميركا أقامت قاعدةً استراتيجيّةً لها في منطقة التنف، للسّيطرة على معبر التّنف الحدوديّ، الذّي حوّلته إلى قاعدة عسّكريّة عام 2017، وتقع في منطقة المثلّث السّوريّ العراقيّ الأردنيّ، وتتمثّل أهداف هذه القاعدة بشكلٍ أساسيٍّ في تعطيل الممّرات التّي تعتقد أن ايران تستخدمها، بهدف مواجهة “تمدّدها”، والعمل على قطعها لإضعاف موقف إيران العسّكريّ والاقتصاديّ، علاوةً على الأهداف المرتبطة بأمن المنطقة والمصالح الدوليّة.
وبالتالي فإن الانسحاب في هذا التوقيت وتحت وطأة هجمات المقاومة العراقية لا يتسق مع السياسة الأميركية التي رفضت مغادرة العراق، وفي توقيت يتعقد به الصراع الدولي مع استمرار الحرب في أوكرانيا والشواهد التي تفيد بنجاحات روسية كبيرة بها!
على مستوى الدعايات الانتخابية الأميركية، فإن مجلة “فورين بوليسي” محسوبة على الديمقراطيين، وهي مملوكة لشركة جراهام القابضة (GHC) والتابعة لعائلة جراهام، وتحديدًا أحفاد يوجين ماير، الذي اشترى صحيفة واشنطن بوست في عام 1933. وقد حافظت عائلة جراهام على سيطرتها على الشركة منذ ذلك الحين، حيث يمتلك أفراد عائلة جراهام جزءًا كبيرًا من أسهم الشركة.
وتزامن تقرير “فورين بوليسي” مع تقرير آخر لصحيفة محسوبة أيضًا على الديمقراطيين وهي صحيفة “هافينغتون بوست”، والتي تحدثت عن التحضير للطلب من بايدن إقالة منسق البيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط، بريت ماكغورك، وقالت إن هذه الفكرة تناقشها مجموعة من أعضاء الكونغرس يمثلون الحزب الديمقراطي. والسبب يعود إلى الحرب في قطاع غزّة، حيث يقولون إن المنسق الذي بدأ حياته المهنية في عهد جورج دبليو بوش، له تأثير كبير في الزعيم الأميركي الحالي، بل ويشكل صورته الإعلامية وهو مهندس مبادرة بايدن الرئيسية في المنطقة، وهي التطبيع السعودي الإسرائيلي.
والصحيفة المحسوبة على الديمقراطيين نشرت الخبر بعد تراجع شعبية بايدن وبعد تأييد أغلبية ساحقة من الديمقراطيين بمجلس الشيوخ الأميركي بيانًا أكد مجددًا دعم الولايات المتحدة لحل “الدولتين” لإنهاء الصراع “الإسرائيلي الفلسطيني”.
أي أن تسريب تقارير تفيد بعدم تورط بايدن في الصراع وعدم تأييده المطلق للكيان الصهيوني والتضحية بماكجورك رجله المفضل وأحد الصقور الرافضين للانسحاب من سورية هي خطوة لاعادة بعض من شعبية بايدن داخل أوساط القواعد الشعبية للديمقراطيين وهي تشكل أيضًا بعض الفوائد السياسية التالية:
1 – مغازلة لتركيا التي وافقت على انضمام السويد وبالتالي طمأنة بإمكانية تخلي اميركا عن قسد وترك أريحية لتركيا داخل سورية.
2 – رسالة تحذيرية للسعودية بأن مهندس التطبيع الذي يتعامل بصبر ودبلوماسية مع السعودية ويتحمل مطالبها مقابل التطبيع قد يتم الاطاحة به وبالتالي قد يتغير السلوك الاميركي.
وهنا يمكن تفسير لماذا سارعت السعودية بنفي أخبار الانسحاب، ولماذا اتصل البيت الابيض بقناة “العربية” تحديدًا.
ما يؤكد عدم صحة هذه الاخبار أيضًا أن ماكجورك الذي تفيد التقارير بنية الاطاحة به، يقوم حاليًا بجولة بالمنطقة ويزور مصر وقطر لمناقشة صفقات جديدة للافراج عن الأسرى الصهاينة وقد يزور السعودية بنية عدم ربط ملف التطبيع بالحرب الدائرة الأن.
أميركا لا تزال تقود العدوان ولن تخرج من المنطقة إلا تحت ضربات المقاومة والتي ستجعل من تسريبات تخرج بنية الدعاية الانتخابية أخبارًا حقيقية ومشاهد تشبه الخروج الأميركي من فيتنام وافغانستان بفضل صمود المقاومة وضرباتها.
إيهاب شوقي
أ.ش