تُشيع أطراف الوساطة بين دولة الاحتلال وحركة «حماس»، وهي قطر ومصر والولايات المتحدة، أجواء تفاؤل نسبيّة حيال إمكانية التوصّل إلى اتفاق تبادل للأسرى بين الجانبَين، يشمل وقفاً لإطلاق النار، لا تزال مدّته موضع خلاف، ما يدفع المراقبين إلى التساؤل عن أسباب هذا التفاؤل، خصوصاً في ظلّ التعارض الحادّ في مواقف الطرفَين. ورغم أنه لم يرشح الكثير عن اللقاء الذي جمع رئيس الوزراء القطري، محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، إلى مسؤولي استخبارات كلّ من الولايات المتحدة ومصر و”إسرائيل”، في باريس، إلّا أن اجتماع باريس تمخّض عن أجواء تفاؤلية، ما يشير إلى جدّية الوسطاء الثلاثة، والتزامهم ببلورة اتفاق، وإنْ كانوا لم يتّفقوا بعد في ما بينهم على خطوطه العامة، فضلاً عن استمرار الفجوة الكبيرة بين موقفَي دولة الاحتلال و«حماس»؛ إذ تسعى الأخيرة إلى وقف كامل لإطلاق النار، بما يشمل العمليات الخاصة والغارات الجوية، أي إنهاء الأعمال القتالية التي تريد “إسرائيل” مواصلتها، وإنْ بكثافة منخفضة، في ما يسمّى «المرحلة الثالثة» من العملية البرية في القطاع، في حين تريد الأولى إطلاق جميع أسراها، في مقابل هدنة لشهر أو اثنين، على أن تتمكّن لاحقاً، وفي أعقابها، من العودة إلى القتال بلا أيّ التزامات.وفي سبيل تعزيز الموقف التفاوضي لكلّ منهما، تصدر من الجانبَين، دولة الاحتلال و«حماس»، مواقف وأفعال متشدّدة جداً، مخصّصة، على ما يبدو، لخدمة أهدافهما السياسية؛ إذ إن المرحلة باتت تفاوضية أولاً، وميدانية ثانياً، ما يعني ضرورة قياس ما يصدر عن طرفَيها وتقديره من هذه الزاوية تحديداً. ومردّ ذلك، من جهة “إسرائيل”، أن الرضوخ لمطالب «حماس» يعني إعلاناً غير مباشر بانتصار الحركة، في حين أن رضوخ الأخيرة للمطالب الإسرائيلية يعادل خسارة ورقة الأسرى بلا أثمان تؤثّر في الميدان، وإنْ كان إطلاق الأسرى الفلسطينيين من المعتقلات الإسرائيلية مطلباً رئيسياً للحركة. فهل يمكن جسر الهوّة بين الجانبَين؟
المرحلة باتت تفاوضية أولاً، وميدانية ثانياً، ما يعني ضرورة قياس ما يصدر عن الطرفَين وتقديره من هذه الزاوية
يبدو أن الشكّ لن يغادر طاولة التقدير، خاصّة في حال أبقى الوسطاء، وتحديداً الولايات المتحدة، أنفسهم بعيدين من ممارسة ضغوط مؤثّرة. إذ إن ما لدى الطرفين من تموضعات ميدانية وسياسية، لا يسمح لهما، في هذه المرحلة، بالإقدام على تسويات مبنيّة على تنازلات، ما لم يواجها ضغوطاً جادّة تدفعهما إلى تغيير مواقفهما. ومع أن الجانب الأميركي يدرك نقطة الضعف الإسرائيلية، ويعمل على تظهير أنه يريد استغلالها بهدف تليين موقف حليفته، إلّا أن التزامه بذلك مشكوك فيه؛ فهو تارةً يتحدّث عن مساعٍ لإيجاد بديل من الحكومة الحالية بواسطة الدفع في اتجاه تفعيل اللعبة السياسية الداخلية ضدّ بنيامين نتنياهو وائتلافه، وتارةً يتحدّث عن إبطاء تزويد جيش الاحتلال بالذخائر والوسائل القتالية التي يدرك الجميع أن “إسرائيل”تعجز عن الاستمرار في الحرب من دونها. لكن بين القيام بأفعال، والاقتصار على التهديد الكلامي، ينحاز الموقف الأميركي إلى الآن، إلى الجانب الثاني.
ميدانياً، وبخلاف ما يتردّد على لسان رئيس الحكومة الإسرائيلية، ووزير أمنه، يوآف غالانت، فإن لدى جنرالات الجيش أجندة مغايرة يجري التعبير عنها في ساحات القتال في قطاع غزة. فالحرب التي لن تنتهي إلا بانتصار، مهما طال أجلها، لدى الثنائي نتنياهو – غالانت، تسود تقديرات مغايرة بخصوصها لدى الجيش، الذي أنهى سحب قواته من شمال القطاع ووسطه، مع الإبقاء على حزام أمني يتموضع فيه لمواصلة الضغط من بعيد على حركة «حماس»، التي أعادت انتشارها في المناطق المخلاة. كما أن للجيش مهمّة ثانية، وهي منع الفلسطينيين من العودة إلى منازلهم أو ما تبقّى منها، كورقة ضغط تساعد المفاوض الإسرائيلي على بلورة الترتيبات السياسية والأمنية المشتهاة للقطاع، مع الإقرار ببقاء «حماس» في اليوم الذي يلي، وذلك بخلاف ما خُطّط له ابتداءً. وبعدما بدأ اليأس يستحكم بجنرالات “إسرائيل”إزاء إمكانية استعادة أسرى أحياء عبر الخيار العسكري في خانيونس، و/ أو قتل أحد أو كلّ قادة «حماس» الثلاثة في غزة: يحيى السنوار، ومحمد الضيف، ومروان عيسى، يُقدَّر أن تبادر القوات الإسرائيلية إلى الانسحاب من الجنوب، والعودة إلى حزام أمني بعمق كيلومتر أو اثنين، على غرار ما حدث في الشمال والوسط، مع توقّع عودة مقاتلي الحركة إلى الانتشار في هذه المناطق، كما في شمال غزة.
يحيى دبوق
أ.ش