عشية انفجار المرفأ، فتح التعاطف الدولي والمساعدات المالية شهية منظّمات وجمعيات (تدّعي أنها لا تبغي الربح) وأخرى تمّ تفريخها على الفور، حتى باتت لكل شارع تقريباً «جمعية أصدقاء» خاصة به. نغل متصيّدو المناسبات (مهما كانت أليمة) وعلت أصواتهم لإحقاق العدل والكشف عن المجرمين وإغاثة المتضررين ومساعدة المنكوبين، قبل أن يتبيّن، بعد ثلاث سنوات، أن من رُفعت الشعارات لمساعدتهم لم يحصلوا إلا على الفتات، فيما ظفر «الصيّادون» بـ«الهبرة» الكبيرة.منذ أكثر من ثلاثة أشهر، يقصف العدو الإسرائيلي قرى في جنوب لبنان، ملحقاً دماراً ومهجّراً عشرات الآلاف، ويسقط شهداء وجرحى. ورغم أن المجرم معروف للجميع، وبسبب غياب التمويل الذي يحفّز على ابتكار أنشطة يتم تقاضي ثمنها على ظهر المنكوبين، لم تتحرك أي جمعية أو منظّمة أو مجموعة سياسية للبحث في سبل مساعدة أهالي الضحايا والنازحين والمتضررين، أو انتصاراً لحقوق الإنسان في وجه الانتهاكات الإسرائيلية. التزم هؤلاء الصمت التام، ولم يتحرّك معظمهم إلا في حملة «الحياد» و«لا نريد الحرب» التي أتت بعد تعليمة خارجية.
وحدها «بيروت مدينتي» كان لافتاً خرقها لهذا الصمت المطبق. الجمعة الماضي، نظّمت المجموعة ندوة أقرب إلى مساحة نقاش تحت عنوان «وين لبنان من المقاطعة؟ وهل فينا نقاطع كلنا؟ وشو التحديات وكيف فينا نقاطع؟»، في مبادرة أولى من نوعها بين مجموعات المجتمع المدني التي تلتزم غالبيتها الحياد مع العدو وكأنّ شيئاً لا يجري في الجنوب أو في فلسطين. استضافت الندوة العضوين في «حملة مقاطعة داعمي إسرائيل في لبنان» عبادة كسر ورامي سلامي، وجرى نقاش حول التفاعل اللبناني مع المقاطعة وعرض سبل تعزيز الحملة وتعميمها، وتوسيع انخراط المجموعات والأفراد في مختلف المناطق فيها، وفق آليات محدّدة وسهلة. كما استضافت «بيروت مدينتي» الطالب الجامعي إبراهيم عزام الذي صمّم موقعاً إلكترونياً (www.boycottaim.com) يُسهّل عملية المقاطعة عبر توفيره بدائل لكل المنتجات.
ناهدة خليل، عضو «مدينتي»، قالت إن المقاطعة «سلاح اقتصادي قوي لأنه يمسّ بأرباح الشركات ورجال الأعمال وأصحاب العلامات التجارية الداعمة للعدو. فالحروب أساسها المال، وثبت أن حملات مقاطعة المنتجات والشركات كبّدت أصحابها المليارات واضطر بعضهم إلى تغيير سلوكه وخطابه. فإذا كان باستطاعتنا التأثير ولو قليلاً في هذه الحرب فلا بدّ أن نتحرك ونبادر». وأشارت إلى أن «كثيرين يسألون عن كيفية انخراطهم في حملة المقاطعة ويجدون صعوبة عند التسوّق في معرفة المنتجات التي يفترض تجنّب شرائها. لذلك، تساعد مبادرتنا على إيجاد البدائل وتسميتها من دون التسويق لأي علامة تجارية». واعتبرت أن الأهم في المشروع هو «نشر ثقافة المقاطعة على الأرض من خلال عقد مساحات نقاش في مختلف المناطق وبالتعاون بين المجموعات الصغيرة في الأحياء، على أن تتوسّع النقاشات لتشمل الجامعات والمدارس الراغبة بالانخراط في الحملة». ومع إدراك «مدينتي» أن تغيير سلوكيات الأفراد صعب ويحتاج إلى مثابرة، جاء اقتراح «مقاطعة ما استطاع إليه الفرد سبيلاً خصوصاً أن اللائحة واسعة. لذلك ثمّة تركيز للبدء بالمطاعم والمواد المنزلية كخطوة أولى قبل أن تنسحب على الإلكترونيات والسيارات وغيرها.
وعمّا إذا كانت «بيروت مدينتي» دعت مجموعات أخرى من تلك التي نبتت بعد 17 تشرين، لفتت خليل إلى أن دعوات وُجهت إلى «بعض المجموعات» كـ«المرصد الشعبي لمحاربة الفساد» و«مدى» و«لنا»، إلا أنه «لم يحضّر ممثلون عنها، ربما بسبب سوء الأحوال الجوية يومها».
من جهته، أشار سلامي إلى أن «حملة مقاطعة داعمي “إسرائيل” في لبنان» «لم تشهد منذ تأسيسها عام 2002 بعد مجازر مخيم جنين تفاعلاً مماثلاً لما تشهده الآن». وأوضح لـ«الأخبار» أنه «بعد العدوان على غزة والجنوب اللبناني لمسنا محاولات من كثيرين للانخراط في أي شكل متاح من أشكال مقاومة العدوان: بالكلمة والتظاهرة والانخراط في فعل المقاطعة ونشر ثقافته. لذلك، أنشأنا مجموعة تطبيق على واتساب للحدّ من فوضى المعلومات والسيطرة على بعض الشائعات المضرّة بحركة المقاطعة». وأضاف أن أي دراسة جدية لتأثير المقاطعة «تحتاج إلى وقت، لكن ثمة مؤشرات إلى الوجع الذي تسبّبه، منها بيانات بعض سلاسل المطاعم السريعة، مثل ماكدونالدز، التي تنصّلت من أي علاقة بالعدوان، والحملة الدعائية لكارفور، والخسائر التي سجّلها ماكدونالدز وستاربكس. ونلحظ تفاعلاً متزايداً بين الناس وحراكاً في الجامعات واهتماماً متزايداً لدى الأحزاب، ما يؤشر إلى أن فعل المقاطعة أصبح ملحوظاً».
وقال إنه «نظراً إلى تاريخ الحملة في ميدان مقاطعة الكيان الإسرائيلي وداعميه، وجدت مجموعات عدة من المجتمع الأهلي في الحملة جهة موثوقة للتعاون معها». ولكن من خلال الأسماء التي عدّدها سلامي، باستثناء «بيروت مدينتي»، فإن «عدوى» المقاطعة والتضامن مع ضحايا العدوان الاسرائيلي لم تنتقل إلى غالبية المجموعات السياسية ومنظّمات المجتمع المدني الخاضعة لسياسات المموّلين.
أ.ش