يُكرّر الغارقون في صراع البقاء اليومي شمالي غزّة، الحديث عن أن الحروب والأزمات تُخرج أسوأ ما في دواخل الناس، الأنانية والاستغلال والسعار المحموم لحماية الذات من الجوع والبرد والعطش والقتل، وهم في غمرة تلك الهموم، لا ينسون القول إنها، تكشف أيضاً عن المعادن الأصيلة، التكافل والتضحية والإيثار، النخوة وتقاسم لقمة العيش، والخدمة الطوعية من دون مقابل، وتلك الأخيرة، يكثر من يبذلون أنفسهم وساعات يومهم في أدائها من دون كلل.
في شوارع مخيم جباليا شمال غزة، اعتاد الأهالي بشكل يومي، رؤية أبو أحمد، عامل نظافة يكسو عظامه المرتجفة بالنايلون، كي لا تغرقه مياه الأمطار، يطوف الشوارع في ساعات الصباح الباكر، جامعاً القمامة عن مداخل المنازل ومراكز الإيواء، قد لا يلمس الكثيرون تأثير ما يمكن أن يغيّره الرجل الخمسيني، لا سيما أنّ أكوام القمامة التي لم تصلها معدّات البلدية منذ شهور، بعدما دمّر القصف الإسرائيلي أكثر المقدرات المدنية، تتكدس في جانبي الطريق، لكن حسابات الرجل الذي يعيل أسرة مكونة من سبعة أبناء مغايرة تماماً، يقول: “قضيت حياتي وأنا بخدم الناس، هذول أهلي وناسي، أنا بنظف الحارات وأبواب مراكز الإيواء، حتى ما يشعروا أنهم مهملين، مش بكفي كل العالم خذلهم”.
منذ شهور، لم يتلق الرجل المكافأة البسيطة التي تصرفها له بلدية جباليا، وأكثر من ذلك، فإن التدمير الكامل لمقرات البلدية، بدد الجسم الإداري والوظيفي فيها، حيث لا مسؤول عمال يراقب الدوام، ولا حصر لأيام العمل، تسقط هذه الحسابات أيضاً، يتابع أبو أحمد حديثه مبتسماً: “أنا بنظف لنفسي، بتعب في النهار، حتى أشعر في الليل إني مرتاح من جوا، الناس طيبين، بيمروا عليا كل يوم، بيسمعوني الدعاء الحلو، كاسة شاي دافية بيقدمها ولد صغير كل يوم، هذا أكبر أجر، والأجر الأكبر على الله”.
طبيب النازحين
ليس بعيداً عن شارع المخيم الرئيسي، في مركز إيواء مدرسة جباليا الابتدائية “أ”، نقل سعيد صلاح، وهو طبيب أطفال يتجاوز السبعين من العمر، كل معدات عيادته الطبية من مربع مسجد الخلفاء المدمر، إلى باحة أحد الفصول الدراسية، وأضحت النقطة الطبية تلك، مقصداً لكل أمهات في محافظة شمال غزة، مع شروق الشمس الباكر، كان الرجل محاطاً بثلاثة من المرضى، يتفحص أجسام أطفاله الذين يناديهم بـ”يا سيد” بعناية فائقة، لقد اتسعت عائلته كثيراً في هذه الحرب، وصارت تضم كل أطفال النازحين، يقول للميادين نت: “أنا على ثغر في هذه المعركة، لو جلست في بيتي وآثرت الراحة، من سيعالج هؤلاء الذين يفترس المرض أجسادهم، عملت بأجر ولو بسيط طول حياتي، التجارة اليوم مع الله، ويتجلى الله في خدمة عباده وخلقه، الصالحون قالوا يوماً إن الخلق عيال الله، وأنا متشرف في خدمة عياله، أنا ممنون لهم، بأكثر مما هم ممنونون لي.. والله لا أبالغ، هذا ما أشعره”.
التطوع في التنظيف وفي الدفاع المدني
يكشف البقاء لعدة ساعات في مراكز الإيواء عن نماذج مذهلة، العشرات من الرجال، أصحاب المراكز الاجتماعية، يؤدون أدواراً أكثر تواضعاً، لم يخجل أبو مهند وهو مدرس حكومي، وهو يحكي عن جدول حياته اليومي التي اعتاده منذ ترك منزله المدمر في مدنية بيت لاهيا، وانتهى به المطاف إلى إحدى المدارس التي تحوّلت إلى مركز إيواء في شرق مخيم جباليا، يقول المعلم الشاب: “منذ الأيام الأولى، كلّفت نفسي بمهمة تنظيف الحمامات، في المركز يوجد 4000 شخص، من دون نظافة دورية ومستمرة، رح نكون في كارثة صحية، بدأت لوحدي في أول الأمر، واليوم، في أكثر من 30 متطوع، عملوا جدول يومي للنظافة، احنا بنشيل كتف عن نسائنا، المشغولات طول اليوم بمعارك ما إلها نهاية”.
أما محمد طموس، وهو شاب لم يتجاوز العشرين من العمر، فقد اختار لنفسه، واحدة من أكثر المهام خطورة، منذ الأيام الأولى للحرب، تطوع الشاب في طواقم الدفاع المدني، وأضحى البحث عن الأحياء وانتشال الشهداء من تحت الأنقاض، مهمته التي نذر حياته لأجلها، يقول: “أفضل عمل قمت فيه بحياتي، هوّا هذا التطوع، كنت بسعى لإتمام الجامعة، أو افتتاح مشروعي الخاص، حتى حقق نفسي، في خلال الشهور الأربعة الماضية، فهمت الطريقة التي يستطيع أحدنا أن يحقق فيها ذاته، قيمة الإنسان فيما يعطي، لا فيما يأخذ”.
أ.ش