مواقع التواصل.. مواضع الخلل

صار لزامًا على كلّ واحد منا، يمكنه حمل قلم أو الضغط على زر كيبورد كمبيوتر أو هاتف، أن يدرك تمامًا كم أن عمله ذو قيمة عالية. خصوصًا نحن الذين يسمّوننا - أو نسمّي أنفسنا - مجتمع المقاومة، إذ ننتشر في ميادين شتّى، ولكننا بأجمعنا نملك هذا السلاح ذا الحدين القاتلين

2024-02-02

إنه الهاتف الذكي، أو ما يعادله من أدوات تجعل أي فرد منا قادرًا – أحيانًا – على مخاطبة الآلاف، وربما أكثر، وهو قابع في زاويته الأثيرة، على الكنبة أو على كرسيه الوثير، أو في المقهى المفضل، ترافقه سيجارته أو أرغيلته، وفنجان قهوة أو كوب شاي، أو أي من المسلّيات والمقبّلات والنقرشات.

 

لو كان دور من ينطبق عليهم هذا السلوك ثانويًا، غير مؤثر، لما احتجنا ربما إلى التوجّه إلى أي منهم بأي خطاب، من باب التحذير أو التنبيه أو النصيحة أو الرجاء، أو أي باب من أبواب لفت النظر والتصويب، حق الأخ على أخيه، لأن الأذى يطاول أكثر أمورنا حساسية: المقاومة ورجالها الأبطال، ومن بعدهم أهلهم وعائلاتهم وأبناؤهم وزوجاتهم وأحبابهم عامة.

 

حتام نسمح لأنفسنا أن ننشر خبر ارتقاء شهيد قبل أن يتبلغ أهله؟ حتام نسمح لأنفسنا بالتعبير حتّى لو لم يكن لدينا معلومة صحيحة، فكيف لو كانت لدينا وكان الأجدر بنا التكتم لأننا لسنا مخولين: قيل ويقال وكما وصلني ومنقول ووو… وكلها أفعال تعبر عن الرغبة في الإدلاء بالرأي كيفما كان وكيفما اتفق، المهم عندي أن أقول أي شيء. ألم تسمع عزيزي “الآدمن” بالقول الشائع: قل خيرًا أو اصمت؟ والخير لا يكمن في ما علمت، بل في ما يجب عليك أن تقوله أو أن تكتمه.

 

هذا ولمّا نضع بعد علامات استفهام أمنية وتشكيكية، على من يتبرع لتحديد طبيعة أي هدف يستهدفه العدو، سواء أكان مبنى أم آلية أم شخصًا. ونعود إلى نغمة: سمعت، وقيل، وعلى الأرجح، ويبدو أنه انطلقت صواريخ من هذا المكان… وهذا “المتبرع” إذا أحسنّا الظن به، فإنه يفترض أن العدوّ حين يقصف فإن ما قصفه أصبح “هدفًا محروقًا”، وفق التعبير السائد. ولكن، من قال لك إنه أصبح بإمكانك الحديث براحة تامة؟

 

سمح بهذه المهزلة أكثر وأكثر، انتشار ما يعرف بمجموعات الواتس أب، لا، ويضيفون عليها أيضًا وصف “الإخبارية”، أو مجموعات فلان أو أبو فلان “لخدمة الخبر العاجل”. ويا لهذا الخبر العاجل، الذي يكلف قنوات ومؤسسات صحفية وإعلامية وإذاعية رصينة جهدًا بشريًّا وتقنيًّا وحتّى ماديًّا حتّى تتمكّن من بثه على شاشتها، أو عبر أثيرها، ويأتي فلان لينشر الخبر، على أنه سبق صحفي خاص به، فلو نقله عن تلك المحطات الرصينة أعفيناه من تهمة النقل من دون نسبة، ولكن الأنكى هو ابتداع الخبر، واختراع الحدث، وإقناع الأعضاء الكرام بأنه يؤمن لهم خدمة جليلة وهي الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة، من مكانه الثابت الجامد، من مكتبه أو دكانه أو منزله، وإذا ثبت أنه بذل جهدًا، فقد يكون اعتلى سطح منزله على أبعد تقدير.

 

ومن المهازل أيضًا ما نراه على مواقع عدة، لا سيما “تيك توك” (الذي يختصر كلّ الموبقات)، من تبجح البعض وادعائهم أنهم جزء من العمل المقاوم، فهذا يخبرنا أنه استُدعي إلى الجبهة ويسألنا الدعاء والمسامحة، وذاك يتطوع لنشر أخبار الجبهة موهمًا بأنه فيها وينقل الأخبار شاهدَ عيان… حتّى إننا صرنا نقتنع يومًا بعد آخر أن هذه المواقع مرتع للرياء إن كانت هذه النماذج صادقة في ما تقول، أو منصة للكذب والادّعاء والتشويش على المقاومة والمقاومين.

 

هذه المواقع والمنصات شكلت في العقود الأخيرة فرصة لاستكشاف عوالم جديدة ومختلفة، فيها الغث والسمين طبعًا، ولكن، ما زلنا نواجه مشكلة في التمييز بينهما. ما زلنا نقع ضحايا الابتزاز الأخلاقي والأمني والاجتماعي، أو ما يصطلح عليه في سجلات قوى الأمن بـ”العنف الإلكتروني”.

 

وقد أحصت المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي في العام 2023 وحده (تحديدًا إلى تاريخ 14/12/2023) 1848 جريمة جرى التحقيق فيها لدى مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية “والتي تدخل تحت مسمى التنمر الإلكتروني”، وقد توزعت بين: تهديد وابتزاز وتشهير وتحقير وتشويه سمعة وقدح وذم وتعرض للآداب العامة وتحرش ونشر وإرسال صور إباحية.

 

أما عدد التبليغات حتّى التاريخ عينه فقد بلغت 2584 تبليغًا، 67% منها مقدمة من نساء وفتيات، أعمارهنّ تتراوح بين 15 و50 سنة، وتنوع هذا “العنف الرقمي” بين جرائم الابتزاز الجنسي والمادي والتحرش والتشهير ونشر صور وفيديوهات خاصة والقرصنة وغيرها.

 

ويبدو جليًا أنه لا يمكن الاعتماد على “المعرفة” بهذه الأمور، ولا على تعدد بيانات الجهات المختصة، التي تعد بالعشرات، ولا على تحذير الناشطين على مختلف مواقع التواصل… لا يمكن الاعتماد على كلّ هذا لتجنب الوقوع ضحية هذه الجرائم، بل المطلوب الحذر الشديد وفرض رقابة أهلية صارمة، لأن هدفها الوقاية، خصوصًا وأن كثيرين، وكثيرات أكثر، يتجنبون التبليغ عمّا يتعرضون له من عنف إلكتروني، خشية الفضيحة وعدم تقبل المحيط، ولكن- لا شك – أن تداعيات العنف الإلكتروني أشد وطأة وأكثر خطورة.

 

منهال الأمين

 

أ.ش

المصدر: العهد