حاتم عبدالهادي السيد
عضو اتحاد كتاب مصر
رئيس رابطة الأدباء العرب
بداية
هل يصلح الشعر كمدخل أولي للولوج إلى بناء نظرية نقدية انسانية كبرى، تشكل عربة الوجود الكوني، وتساهم في صنع عالم ما بعد الحداثة المخيف، حيث ارادة القوة، والشركات العابرة للقارات، وصراع الثقافات والهيمنة، والأقطاب المتصارعة لحكم العالم، ونظامه العالمي الجديد؟!.
سؤال حالم أقدّمه عبر النظرية لإدارة الحياة والعالم.
ولا غرو أنه بين المعنى واللا معنى تتشكل الحياة، ويبحث الإنسان عن صوغ مغاير للكون والعالم، والوجود.
وأعني بداية بنظرية المعنى، في عالم مابعدالحداثة وإشكالاتها ومستغلقاتها: هي اكتمال غائيات ومقصوديات الخطاب الإنساني: النثري والشعري، للبحث خلف ظاهر النص، أو الفضاء الكوني الذي يظهر الكوامن والمستغلقات ويفكك شيفرات المعاني ومابعدياتها لتكتمل مسيرة الحياة، ونبحث عن المعنى الحقيق، واليقين الروحي، ولنبحث بعد ذلك عمن سرق المشار اليه داخل الحياة / الكون/ العالم /النص، وسردياته التي تشتبك مع الاجناسيات المختلفة، لتظهر لنا الحياة الجديدة/ الكتابة الجديدة/ عالم الأقطاب… إلخ.
النظرية النقدية العربية
ولنا في النظرية النقدية العربية التي نسعى لإيجادها من خلال الشعرية العربية المعاصرة، مدخلاً للحداثة العربية المعاصرة.
وأعني هنا بالشعر الجديد: كل أشكال الشعر العربي، لكنني سأركز على قصيدة النثر، ومابعدياتها، فقد غدت كذلك قصيدة قديمة كذلك، وأصبحت قصيدة المعنى التي أنتهج بشارة وجوديتها، والتي تمثل مابعد قصيدة النثر، التي تعتمد الكتابة عبر النوعية منهاجاً- عبر التراكم والترميز، والتكثيف، واستنطاق الدوال الكامنة خلف ظاهر النص، وجماليات المعاني السرية، المختفية خلف كوامن الشعرية، التي تدحض البلاغة في النص، لصالح بلاغة الحذف والإضمار، أو بلاغة المعنى الماورائي خلف النص، وعبر المعنى، والذي لا يعني كذلك جماليات التصوير، بل المعنى الآخر عبر المتعالقات النصية، وهارموني الجوهر ، الذي يستشرف بلاغة العلاقات النصية، عبر هندسة المتعالقات والمفارقات، وعبر الصورة والظلال والألوان الأخرى، وهو جوهر مباحث ما بعد الحداثة الجديدة.
ويقيني أن إهمالنا لتراثنا العربي، هو الذي أنتج نظريات الحداثة الجديدة وغدونا متبعين، لا مبتدعين، وغداً الحديث عن الأصالة والثقافة العربية، حديثاً خافتاً تجاه العالم الرقمي الجديد.
وفي يقيني لقد اعتمدت السيموطيقا، أو علم السيمولوجيا- في الغالب- على نظرية الأثر العربية، وما الوال والمدلولات، وتفكيكية “دريدا”، ومبتكرات النظريات الأوروبية، حتى الفلسفة منها سوى آثار من تراثنا العربي، فلا السيولوجيا من ابتكارات “رولان بارت”، أو ” ريكور”، أو من تنظيرات ” سوزان سونتاج” وتطبيقاتها وغيرهم، التي تعتمد الدوال والمدلولات وترابطهما وآثارهما في تحليل النص، عبر البنيوية والتفكيكية، وما النظريات الأنجلو أمريكية، نظرية الأنساق الفلسفية، سوى تناظرات تتسق وجوهر ما قدمه عبدالقاهر الجرجاني، وقدامة بن جعفر، والآمدي، وحازم القرطاجني، وعلماء اللغة وغيرهم من كبار النقاد العرب، وكذلك الفلاسفة هناك، وكان علينا البحث عن صيغ ونظريات جديدة من خلالها تساوق العصر، ولكننا لم نفعل ذلك، وتوقف الفكر العربي، أو كاد، ولم ننظر الى التحديث والتطوير لظروف تاريخية وسياسية واجتماعية، وغير ذلك.
ويقيني أن الغرب اجتهد واشتغل لتطوير الخطاب عبر الدرس النقدي والفلسفي، من منظور علمي، وركن العرب في حب ليلى، وبطولات عنترة للفوز بحبيبته عبلة، عبر المخيال الميثولوجي، وأدلجة الفكر والثقافة من خلال ربط ذلك بالمعتقد، أو ربط الفكر بالأديان، واعتبار الخروج عن فقه الإمام، والشيخ، هو خروج على منظومة وأيديولوجيات نمطت الفكر والثقافة العربية لقرون ممتدة، وساعدت بينها وبين التمدين والمعاصرة آمادا وعصورا متعاقبة .
إعادة تشكيل المعنى
لقد آن الأوان أن نعيد تشكيل المعنى من جديد لصوغ نظرية عربية عاصرة تتسق مع المنجز التقني والميديا ومابعد الحداثة والقطبية والكونية، لصناعة عالم عربي جديد، مابعد حداثي يربط ماضيه وأصالته بحاضره، ويستشرف أفقاً حداثوياً يساير كل تطور عالمي كوني مغاير.
وأظن بأن البحث داخل الشعرية المعاصرة سيفتح المجال واسعاً للفكر الفلسفي الأدبي، لإحداث تعادلية تشكّل إطاريتها ونسقها عن طريق رسم واقع سحري للظلال والألوان وتشاكلاتهما، للولوج من العالم المعقول، او الظاهري، الى خلف ظاهر النص، العالم الباطني، الذي يتقصد اليقين والبرهان، والجوهر، وسر المعنى، ومعنى المعنى، ومن هنا يظل اليقين في كمون الى أن تتكشف أهداب الشعرية، للأنساق التي تبلور الصورة والحدث، داخل إطاريات اللغة وإلغازياتها، ومتعالقاتها، عبر الترميز والتكثيف، والتراكم، والإزاحة، فنغدو أمام عمليه معقدة هندسية- نسق لوغارتيمي، وأبستيمولوجي يبحث عن علمية النقد، وليس أدبية الأدب وهو ما نعنيه هنا بعلم النقد والقراءة الأدبية الما بعد حداثية، الجديدة.
إن التشاكلات الما بعد حداثية وانعكاس ظلالها على الأدب تعكس مسؤولية على الشاعر، الذي يصنع الشعرية والحضور والهيبة والقداسة، وليس موتاً للمؤلف، أو النص النسقي.
نظرية المعنى
إن نظرية المعنى تبحث في الحضور من خلف نافذة الشعرية لإنتاجية النص/ القصيدة/ الرواية/ القصة/ اللوحة التشكسلية/الموسيقى/ والخلق بجمالياته اليقينية، التي تصنع البرهان والحقيقة الشعرية، وهو قد ينمو الناقد للمدخل الصوفي،أو ما أصطلحه “الصوفية الذاتية”، لا صفوفية المتصوفين المعروفة، بل تسعى لعلوم التصوف والإيمان الروحي، التي تغوص خلف السر، وسر الذات، وذات السر، والأسرار والمفاتح، من أجل الغوص وراء جوهر المعنى، والحقيقة، لإصطياد جماليات ما خلف النص الواقعي، واللا ممنطق، عبر الكون والعالم، والحياة.
إن القصيده تشكّل العالم هنا، وتبعث من خلاله، أو من خلال مبتعثها: الحاضر المطلق، عبر ظلال المعنى، لتظل رحلة الشعرية ممتدة، داخل اليقين الروحي، لتلقي بظلالها، وأفق تكوينيتها على العالم حيث تتماس معه في نقطة فاصلة، ولا منتهية، ثم تواصل السير للبحث عن المعاني البعيدة التي يتحملها الناقد، من توالديات الدوال التخالفية، حيث تصدم ما بعد الحداثة هنا بالمنطق الإستدلالي والإستنباطي، وتحفر وجوديتها عبر الأنساق غير المتواشجة والمتواشجة في آن، لتتولد لحمة مغايرة، تنتج العوالم الجديدة للنسق النصي.
فما بعد الحداثه تصطدم مع علم السيمولوجيا في فرضيات الدوال التي تقود الى المدلولات التي توصلنا إلى المعنى المراد، إذ الأولى تحيلك الى اللامعنى، والعدم واللا يقين، ولا منطقة الأشياء والأضداد، بمعانيها التي تؤطر للسكون والصمت، والموت، واللا حياة التي تجترح الحياة وتحيلها إلى عرجون ذا أبعاد كونية غير محدة، متداخلة، ومتسقة، ومتضادة كذلك.
ويقيني، ان ما بعد الحداثة تسعى لخلخلة الثوابت، واليقين، وزلزلة التراث ومحوه،و لا تحفل بالحاضر الحداثي، للتجهيزات نحو الفوضى غير الخلاقة، التي تهدم اليقين والايمان والمجتمعات.
وأقول: لا معنى داخل العبث والفوضى، ولا استقرار لشيء دون نواميس وقوانين، وخالق، إله ينظم عربة الحياة والموت، والوجود، وكل شيء، كذلك.
ما بعد الحداثة
إن ما بعد الحداثة ليست امتداداً لليقين، داخل للحداثة المعاصرة ذاتها، ولا تنشد التطوير والإرتقاء والنهضة، بل تسعى لتقويض المعنى، لصالح اللا شيء، واللا معنى، كما تنادي بمبدأ القوة، وبموت الإله،كما تنشد لوقوع العالم- بحسب ظني- داخل شرنقة ” الإلحاد”، والفوضى، ومن ثم تغيب الهويات، وتذوب الثقافات، وتمحى الحضارات، من أجل ادارة الحياة لصالح إرادة القوة، والهيمنة عبر القارات، وغير ذلك. وتلك لعمري مؤامرة كبرى على الثوابت والقيم والأديان للمغالبة، وهي بذلك ضد الحياة أيضاً.
ولابد لنا أن نقف بقوة لنجابه عولمة العالم، ومدينيته المفرطة الكونية، والتي تنحي الأديان، وتحاول تشويه المعنى، من خلال جوانياته التي تتمفصل عبرها، داخل معنى المعنى، أو الإطار الذي تتشكل جدرانه من لحمة ثقافات، وقيم ومعان تصنع وجودية الانسان الحقيقية، وتحفر لإنسانيته تمدينها على أساس صلب، من الأصالة والحداثة، والمعاصرة.
إنها معركة المعنى مقابل اللامعنى واللا يقين، واللابرهان، لنبرهن على وجودية المعنى والجوهر والخالق العظيم!!.
لقد عانى النقاد على مر العصور في البحث عن نظرية نقدية عربية، لكنهم غابوا خلف ظلال المعنى، واستسلموا للغرب المخادع، المتأخره الإمبريالي، الذي ابتنى ثقافته وحضارته على التعنصر، في اطار القطبية، والتشدق بالديمقراطية، وحقوق الانسان دون أن يقدّم سوى المسخ للأدوات، وما ظهور الحركات الماسونية والشيوعية واليسار من قبلها، سوى اجترار لصليبية عنصرية، سوداء، تتغطى بإطار لاتيني تلمودي عنصري.
وفي يقيني أن نظرية المعنى يمكن أن تشكل أولى المشتركات التي قد ترفد الثقافة العربية بروافد فضفاضة لمجابهة المد الاستعماري الصهيو- إمبريالي الذي يريد الهيمنة على المقدرات والثروات، وحكم العالم، واستعماره كذلك.
إن نظرية المعنى الانسانية، يمكن أن تكون البديل الأوحد – الآن – لمجابهة حقبة ما بعد الحداثة. والفرصة أمام العرب ساحة لتطبيق منهجية عربية قومية واسلامية ليتحدوا، ويلحقنا بركب التمدين، ولابد أن تعتمد النظرية على جوهر الأديان، كما عليها أن تعتمد العلم والقيم إطاراً جامعاً للثقافة والفكر العالمي العربي المعاصر.
تلك رؤيتي المتواضعة حول نظرية المعنى والتي تتخذ من الإنسان محوراً لإدارة الكون وتسيير عجلة الذات والكون والعالم والحياة.
أ.ش