يستمرّ النقاش العلني وفي كواليس اللقاءات المختلفة، وكذلك المواقف بشأن شروط الاتفاق على صفقة تبادل الأسرى بين المقاومة الفلسطينية وكيان العدو الصهيوني، وذلك في ظلّ استمرار المعركة العسكرية واحتدام القتال في جميع مناطق القطاع الني توغل فيها جيش الاحتلال، او لا يزال يحاول الدخول إليها.
ويبدو واضحاً أننا بتنا امام معركة عض أصابع وشد حبال محتدمة سياسيا وفي الميدان عشية التوصل إلى اتفاق.. لكن يبقى السؤال من سوف يتمكن من فرض شروطه في هذه الصفقة، حكومة الاحتلال أم قيادة المقاومة؟
من خلال قراءة متفحّصة للمشهد في الميدان والسياسة يمكن القول انّ جبهة المقاومة متماسكة في الميدان والسياسة، فيما كيان الاحتلال يعاني من الإنقسامات السياسية، وإحباط داخل الجيش الإسرائيلي وإنهاك قواته.. ويدلل على ما تقدم المعطيات التالية:
أولا، في الموقف من شروط الصفقة:
1_ المشهد على الصعيد الفلسطيني، يؤكد انّ حركات المقاومة، تداولت في الصفقة وشروطها وفق العرض الذي قدم لها من اجتماع باريس، وتوصلت إلى صيغة اتفاق تبدي فيها استعدادها للتجاوب شرط ان تؤمّن الصفقة بشكل لا لبس فيه وقفاً شاملاً وكاملاً لإطلاق النار، وانسحاب قوات الاحتلال من قطاع غزة، والإفراج عن كلّ الأسرى في سجون الاحتلال، وتقديم الإغاثة العاجلة لأهالي القطاع والبدء بإعادة الإعمار.. وانّ المدخل للبدء بالصفقة هو وقف النار وانسحاب جيش الاحتلال.. وقد صدرت مواقف على لسان المسؤولين في حركات المقاومة تؤكد على هذه الشروط…
2_ أما المشهد على الصعيد الإسرائيلي فإنه على العكس تماماً، حيث ظهرت إلى السطح الانقسامات في الموقف من صفقة تفضي إلى وقف النار وإطلاق الاف الأسرى الفلسطينيين، وتجسدت هذه الانقسامات كما يلي:
_ موقف رافض لأيّ صفقة تؤدي إلى وقف النار او هدنة طويلة.. ويتراصف خلف هذا الموقف أحزاب اليمن المتطرف في الحكومة الصهيونية، التي هدّدت بالانسحاب من الحكومة في حال وافق رئيس الحكومة نتنياهو على هذه الصفقة.. ما يعني فقدان الحكومة الأغلبية في الكنيست.. وهو ما لا يريده نتنياهو لأنّ ذلك سيقود إلى انهيار حكومته، وتعريض مستقبله السياسي للخطر الحقيقي، في ظلّ قضايا الفساد المتهم بها والمطالبة بمحاكمته بالمسؤولية عن الفشل في الإخفاق العسكري والاستخباري في 7 أكتوبر..
_ موقف مؤيد بقوة لعقد الصفقة تضمن إطلاق جميع الأسرى الصهاينة حتى ولو أدت إلى وقف النار.. وهذا الموقف يتبناه وزراء معسكر الدولة بني غانتس وغادي ايزنكوت، وزعيم المعارضة يائير لابيد، الذي أبدى الاستعداد لتأمين شبكة أمان لحكومة نتنياهو في حال وافق على الصفقة وانسحب وزراء اليمين المتطرف منها.. وذلك لتشجيع نتنياهو على قبول الصفقة وعدم القلق على مستقبله السياسي..
_ موقف أربعة وزراء من حزب ليكود الذي يرأسه نتنياهو أعلنوا خلال اجتماع الحكومة معارضتهم لما تضمّنته الصفقة من شروط..
_ موقف وسطي حتى الآن، يتبناه نتنياهو، الذي أوصل رسائل متباينة ومتناقضة، من جهة يبدي الاستعداد لقبول الصفقة التي يتمّ الاتفاق عليها، حتى ولو أدت إلى استقالة وزراء اليمين المتطرف من حكومته وانهيارها، كما قال لعائلات الأسرى خلال لقاء معهم.. ومن جهة ثانية أعلن أثر اجتماع لحكومته المصغرة، ثلاث لاءات تنسف الصفقة، وهي: لا للانسحاب الكامل من قطاع غزة، لا لإطلاق كلّ الأسرى الفلسطينيين، وعدم الموافقة بأن تنتهي الهدنة بوقف إطلاق النار…
_ غير انّ نتنياهو يواجه أيضاً، إلى جانب هذا الانقسام، ضغطاً من أطراف لها تأثيرها الكبير عليه وهي:
_ عائلات الأسرى الصهاينة الذين باتوا يشكلون قوة ضغط شعبية تكبر يوماً بعد يوم، ويطالبون بالقبول بصفقة تؤدي إلى الإفراج عن الكل مقابل الكلّ..
_ ربيبة الكيان الصهيوني الولايات المتحدة التي تريد إدارتها في واشنطن برئاسة جو بايدن الصفقة والموافقة على هدنة طويلة تؤدي في النهاية إلى خفض كبير في مستوى العمليات العسكرية، او وقف النار من دون إعلان او اتفاق.. وذلك من أجل امتصاص المعارضة التي نشأت في قاعدته الانتخابية لسياسته الداعمة للعدوان الصهيوني.. والجديد على هذا الصعيد ما سرّبته الصحافة الأميركية من انّ واشنطن تضغط على نتنياهو للقبول بهدنة تدوم أربعة أشهر بدلاً من شهر ونصف الشهر كما ورد في اقتراح لقاء باريس، الأمر الذي فسّر على انّ هدفه إقناع المقاومة الفلسطينية بقبول الصفقة من دون أن تتضمّن شرط ان تنتهي صراحة بوقف النار، انطلاقاً من ان الهدنة الطويلة ستؤدي إلى هذه النتيجة..
في مواجهة هذه الضغوط الإسرائيلية الداخلية، والأميركية، يبدو أنّ نتنياهو اتجه إلى المناورة، من أجل تحسين شروطه في الصفقة والحدّ من تداعياتها اذا ما استجاب لشروط المقاومة، ولهذا دفع وزراء من داخل حزبه إلى اتخاذ مواقف معارضة لتقديم تنازلات، والقول انه يتعرض لضغوط داخلية..
ثانيا، في الموقف الميداني:
يبدو من الواضح، بعد ما يناهز الأربعة أشهر، أنّ جيش الاحتلال في موقف صعب بعد غرقه في رمال غزة من دون تحقيق أهدافه، والمقاومة لم تضعف وهي في موقف قوي ومن لايزال يملك السيطرة واليد العليا في الميدان:
1_ جيش الاحتلال الذي فشل في تحقيق أي أنجاز عسكري او صورة نصر يستطيع نتنياهو ان يقدّمها للرأي العام الإسرائيلي، بات يعاني من ظواهر الاحباط والتعب والانهاك، فيما الآلاف من جنوده أصبحوا يعانون من اضطرابات نفسية، وضعف في المعنويات وعدم استعداد لمواصلة القتال، بل انهم باتوا يعبّرون عن فرحهم عندما تقرّر قيادتهم اخراجهم من غزة.. بما يعكس ضراوة المقاومة وبأسها، وحجم وأثر الخسائر الكبيرة التي تكبّدوها، من دون جدوى.. على الرغم من مزاعم وزير الحرب يوآف غالانت من انّ جيشه حقق إنجازات في القضاء على نصف مقاتلي القسام، وتدمير الأنفاق، وانه مصمّم على مواصلة ضغطه العسكري حتى تحقيق أهدافه، وانّ يده هي العليا، من دون أن يقدم دليلاً واحداً على ما يثبت كلامه.. الأمر الذي اعتبر انه يندرج في سياق محاولة زيادة الضغط على قيادة المقاومة لدفعها لإبداء المرونة السياسية إزاء شروط الصفقة، ورفع معنويات جنوده والرأي العام الإسرائيلي واحتواء نتائج الانقسام السياسي والشعبي حول الموقف من الصفقة..
2_ في المقابل فإنّ كلّ مؤشرات ووقائع الميدان تؤكد انّ المقاومة لم تضعف، لا على مستوى قدراتها القتالية وضراوة وقوة وشدة قتال مقاتليها في مهاجمة قوات الاحتلال، كما في الأيام الأولى لبدء العدوان البري على القطاع، ولا مستوى إمكانياتها على للاستمرار في خوض حرب الاستنزاف الطويلة النفس التي أعدّت لها المقاومة جيداً في مواجهة جيش الاحتلال المتفوّق عليها عدة وعدداً.. وما يثبت ذلك الأدلة التالية:
الدليل الأول، عودة ظهور مقاتلي المقاومة في مناطق شمال غزة بعد انكفاء قوات الاحتلال عنها، واستمرار هجماتهم ونصب الكمائن ضدّ قوات العدو، فيما هجوم جيش العدو في الوسط وخان يونس يراوح في المكان وهو يقترب من الفشل في الرهان على الوصول لقيادات المقاومة أسراه، على غرار فشله في الشمال.
الدليل الثاني، الفيديوات التي عرضتها أخيراً كتائب القسام والتي أظهرت عمليات تدمير دبابات ومدرعات العدو في الجنوب والشمال، والكمائن التي نصبت لجنود العدو، وعمليات قنص العديد منهم… وهو ما اعترفت به إذاعة جيش الاحتلال، واقر به المعلقون الصهاينة..
الدليل الثالث، موقف قيادة المقاومة في قطاع غزة من شروط الصفقة، والذي عكس قوة وعدم وجود أيّ ضعف او استعداد للقبول بشروط صفقة لا تحقق وقف النار وتؤدّي إلى فك الحصار وتقديم الإغاثة العاجلة للأهالي وإعادة الإعمار، وإطلاق جميع الأسرى..
هذا الموقف القوي والصلب والذي لا يعكس ايّ علامات ضعف، أبلغته، حسب المعلومات، قيادة القسام في قطاع غزة إلى قيادتها في الخارج لدى أخذ رأيها في شروط الصفقة، حيث أكدت قيادة القسام انّ التهويل الاسرائيلي بشأن الوضع العسكري لا أساس له، وأنها تكيّفت مع الواقع الجديد بعد توغل قوات الاحتلال، وانّ صمود المقاتلين خلال أربعة أشهر لهو أكبر دليل على قدرتهم على القتال والصمود لفترة طويلة، وان المقاومة لا تواجه ايّ ضغط ميداني يدفع إلى تقديم تنازلات، وانه ليس بيد الاحتلال فعل أكثر مما فعله، وانّ محاولته الدائمة لإعادة الدخول إلى المناطق التي انسحب منها قد تحوّلت إلى عبء عليه لأنه يدخل قواته إلى قلب كمائن المقاومة.. طبعا هذا ما أكدت الفيديوات التي عرضت من القسام على شاشات التلفزة.. مما يؤكد انه ليس هناك أيّ وهن او ضعف لدى المقاومة يجعلها او يجبرها على تقديم التنازلات او القبول بشروط الصفقة كما قدّمها اجتماع باريس لأنها أولاً في مصلحة الاحتلال، وثانياً لأنها تعني الاستسلام لشروطه…
ثالثاً، من هنا فإن كلّ محاولات نتنياهو وغالانت تعلية السقف سياسياً وعسكرياً واستغلال المعاناة الإنسانية التي تسبّبت بها حرب الإبادة الصهيونية المتواصلة ضد الشعب الفلسطيني، إنما يندرج في سياق المعركة السياسية لتحسين شروط التفاوض على الصفقة ومحاولة الضغط على المقاومة لدفعها إلى تخفيض سقف شروطها، بما يحقق للعدو نصراً او إنجازاً عجز عن تحقيقه في الميدان.. لكن قيادة المقاومة وصمود المقاومين وبسالتهم واستعدادهم وجاهزيتهم لمواصلة حرب الاستنزاف ضد جيش الاحتلال، لن يمكن حكومة نتنياهو من تحقيق نصر او انجاز، حتى ولو ذهبت إلى تنفيذ تهديدها باستمرار عدوانها وشموله محافظة رفح، في محاولة يائسة لتحقيق هدف ينقذ نتنياهو وغالانت من مواجهة مصير المحاسبة عن الفشل الإخفاق في 7 أكتوبر والتسبّب بتعريض جيشه الاحتلال لأكبر خسارة في تاريخ حروبه…
أ.ش