من انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران إلى طوفان الأقصى في فلسطين:

ديناميّات ومعالم التغيّر في مجتمعات محور المقاومة

خاص الوفاق: ينهل الإبداع المقاوم على الصعيدين العسكريّ والأمنيّ، وفي المعترك السياسيّ والتفاوضيّ والحرب النفسيّة، من الواقع المجتمعيّ وما يحفل به وسط اتجاهات وتيارات ثقافيّة وسياسيّة وأمنيّة متعدّدة مما يجعله ثريًا بثراء الطاقات والقدرات والعلاقات والخصوصيّات

2024-02-11

د.عبدالله عيسى (كاتب وباحث في الاجتماع السياسي)

 

أنجزت الثورة في إيران انتصارها بقيام الجمهوريّة الإسلاميّة عام 1979 التي تصدّرها “الإمام الخميني”(قدس) قائدًا سياسيًّا ومرجعًا دينيًّا ووليًّا فقيهًا، في واحد من أخطر الأحداث تأثيرًا في ديناميّة الاجتماع السياسيّ لـ”غرب آسيا”، إلا أنّه لم تتفتّح معالمه بنحو فعّال في ولادة حركة مقاومة متماهية مع “الثورة” إلا عند الاجتياح الإسرائيليّ البرّي لكامل تراب الجنوب اللبنانيّ وبقاعه الغربي وصولًا إلى احتلال عاصمة لبنان عام 1982.

 

ابتعثت إيران الإسلام حرسها الثوري لحراسة لبنان عبر تمكين مقاوميه من جعله مقبرة للغزاة الصهاينة. في هذه اللحظة تحدّيدًا، بدأ التحوّل التدريجي في خارطة القوى والتوازنات العسكريّة والسياسيّة مع انبعاث حزب الله اللبناني وتفاعله مع الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، ومباشرته مقاومة الاحتلال الإسرائيليّ، ومساهمته في مواجهة  الهيمنة الأمريكيّة.

 

أفرزت الثورة الإسلاميّة ديناميّات جديدة على الساحات المتفاعلة معها لا سيّما في الساحة اللبنانيّة المجاورة لـ “فلسطين” القضيّة ومركز الصراع. كما وفّرت السند الخارجيّ، وألهمت على طموح مستقبليّ يُعاند دوائر النفوذ والهيمنة العالميّة والإقليميّة بما يضمن سيادة الشعوب واستقلالها.

 

لم تفرض إيران مبادئها أو تحكّم مصالحها وإرادتها في تركيبة التوزانات المجتمعيّة الداخليّة في أي دولة، بل حرصت على تمتين العلاقة دون المساس بمصالح ومستقبل كل بلد، مع تميّزها في الاستجابة لإرادة الشعوب المستضعفة.

 

حصلت الكثير من الأحداث التي أثبتت نجاعة العلاقة مع إيران والرهان على منطق المقاومة وهذا ما ترجمه تحرير جنوب لبنان (أيّار2000) وتحرير غزّة (آب وأيلول 2005)، إلا أنّ المشروع الأميركي المصمّم على ولادة شرق أوسط جديد لم يقف عند حدود نتائج حرب لبنان 2006 وحروب غزّة 2008 و2012 و2014، إنّما شرّع عملياته إثر ما عرف بالربيع العربي وفعّل أدوار الإرهاب والصراعات المسلّحة، ولا سيّما في سوريا والعراق، وهنا بدأت إرهاصات تشكّل محور المقاومة لإجهاض الحرب الجديدة التي تستعر فيها الفتنة المذهبيّة ومشاريع التقسيم الجغرافي وإعادة توزيع الديموغرافيا واستنزاف إرادة المقاومة والمواجهة للهيمنة والاحتلال. فكانت الفصائل العراقيّة والتشكيلات السوريّة وأنصار الله في اليمن وآخرون من دول أخرى أولى ملامح تشكّل النسق الجديد والبنية التشاركيّة على أرض واحدة والأهم بإرادة واحدة لأهداف محدّدة.

 

 

لا شكّ أن التحالفات تختلف عن الصراعات في أسبابها ونتائجها، إلا أنهما يخدمان عمليّة ديناميّة ناشطة، ويكفلان إعادة رسم التوازنات في علاقاتها وتحدّياتها المتجدّدة وكذلك في آفاق تطلّعاتها.

 

لذلك شكّل انتصار سوريا والعراق واليمن منارات هادية لمجتمعات تتعزّز لديها إرادة الرفض والمقاومة، يعضدها تجارب راسخة في القتال لا سيّما ما خبره حزب الله في لبنان وفصائل المقاومة الفلسطينيّة، إلى أن ارتكبت الولايات المتحدة الأميركيّة حماقة اغتيال سيد شهداء محور المقاومة الحاج قاسم سليماني ومعه الحاج أبو مهدي المهندس ورفاقهما الشهداء في مستهل عام 2020، واهمةً أن في ذلك تأديبٌ لإيران وحلفائها وتحريكُ عجلة التطبيع العلني للأنظمة العربيّة مع الكيان الإسرائيلي الغاصب.

 

هكذا، ارتكزت العلاقة على أساس استراتيجيّ غير قابل للنظر: استمرار المواجهة ضد “إسرائيل” حتّى إزالة الكيان المؤقّت الغاصب وإضعاف الوجود الأميركي في المنطقة حتى إخراجه منه.

 

استؤنفت مراحل بناء المحور مع توثيق عرى تواصله وتنسيقه، ولازمه السهر على أرضيّة بنيويّة مجتمعيّة تتبنّى المقاومة ثقافةً وخيارًا ومسلكًا، وأخذت مكوّنات المحور المقاوم تتهيّأ آحادًا ونسقًا لمواجهة احتمالات حدوث أو إحداث حرب إقليمية كبرى.

 

تبقى نقطة القوّة المركزية في هذه العلاقة بين أركان المحور المقاوم ومكوّناته أنها ذاتيّة الدفع بأصالة الانتماء وكذلك برسوخ القناعات حول ضرورة توفير الأمن كحاجة وجوديّة ومصيريّة ومصلحيّة.

 

لذلك، شهدت العلاقة بين إيران وكلّ دولة أو حركة من دول وحركات المقاومة أو الممانعة “ديناميّة في ذاتها” وفي “تكامل أدوارها بالتمايز” وفي “تكييف جوانب منها في ساحات وميادين مختلفة”. وعليه، لم تشبه علاقاتها تلك العلاقات التقليديّة السائدة في العالم والتي تقوم على نسق الراعي-الوكيل.

 

إنما قد تفرض تعاونًا مقلوبًا أحيانًا (على مستوى الدور وتعيين ساحة ونوع القتال وتشخيص المصلحة وشكل المواجهة ودرجاتها وقيادة الميدان وتشخيص الهدف وضبط التوقيت الملائم)، وهذا ما حصل تمامًا في التخطيط والإعداد والتنفيذ  لـ”عملية طوفان الأقصى” في 7 تشرين الأوّل 2023، حيث حدّدت حركة المقاومة الإسلاميّة_ حماس كلّ ذلك بسريّة مطلقة عن أجهزتها الداخليّة فضلًا عن كافة قيادة مكوّنات محور المقاومة، رغم ما شهدته من تداعيات ما زالت مستمرّة على امتداد الجبهات وحيث للمحور وأعدائه راية.

 

 

 

عمومًا، وجدت الدول وحركات المقاومة نفسها أمام وضعين على مفترق طرق:

  • إما أن تكون مكشوفة الظهر بلا سند خارجيّ في بلاد تواجه خطر التقسيم والانقلاب على إرادتها وإداراتها بما يلبّي مآرب قوى الهيمنة ومشاريعها.
  • وإما أن تبحث عن سند يحميها في مواجهة تشكّل تحدّيًا مشتركًا عنوانه الأكبر “مواجهة الهيمنة الأمريكيّة ومشاريعها”، ومواجهة عدو مشترك هو”العدو الصهيونيّ” حتى قيام دولة فلسطينيّة لأبنائها على كامل تراب فلسطين المحتلّة، على أن تحفظ خصوصيّتها وخصوصيّة بلادها في إدارة علاقاتها المحلّيّة وبناء خياراتها السياسيّة ووضع جدولها الميداني.
  • تُراكم العلاقة بين مكوّنات المحور المقاوم بناءها وخبراتها في الوظائف المتبادلة، إلا أنها لم تكن في كل الأصعدة على حد سواء، أو بدرجة من التطوير عينها، كما أن مكوّناتها غير متكافئة الحجم والخبرة والامكانيّات والدور وساحة العمل وحساسيّة التأثير ونطاقه. ولا شك أن الإبداع المقاوم على الصعيدين العسكريّ والأمنيّ، وفي المعترك السياسيّ والتفاوضيّ والحرب النفسيّة، ينهل من الواقع المجتمعيّ وما يحفل به وسط اتجاهات وتيارات ثقافيّة وسياسيّة وأمنيّة متعدّدة مما يجعله ثريًا بثراء الطاقات والقدرات والعلاقات والخصوصيّات.

 

لذا بدت العلاقة جدليّة تبادليّة على صعيد الخبرات والمعلومات والمهارات، ولا شك أن دول وحركات المقاومة استفادت من إيران ومواكبتها للتطوّرات التكنولوجيّة وللإمكانيّات اللوجستيّة والتدريبيّة بما أعانها على تلبية العديد من احتياجاتها. وهذا ما عاينه العالم في ساحات القتال المختلفة سواء في لبنان أو سوريا أو العراق أو اليمن أو فلسطين وأماكن أخرى من العالم.

 

إلا أن أبعادًا أخرى لا تزال تحمل تحدّياتها، كالميدان الاقتصاديّ، وهو الميدان الذي أخذت الولايات المتحدة الأمريكيّة تفعّل فيه نشاطها من خلال ممارسة أقصى وأقسى أصناف العقوبات والحصار على امتداد ما يعرف بمحور الممانعة والمقاومة. ما يفرض مزيدًا من توثيق عرى العلاقة في حقول جديدة.

 

إلا أنّ وثبةً نوعيّة وضعت المحور أمام أسئلة استراتيجيّة عميقة، وبقدر أعلى وضعت فيه أعداءه أمام أسئلة بعضها وجودي والآخر استراتيجيّ وحيويّ.

 

إنه “طوفان الأقصى” وما تلاه من حرب عالميّة على غزّة، ومؤازرة المحور لحركة المقاومة الإسلاميّة_حماس وسائر الفصائل الفلسطينيّة عبر تفعيل جبهات المساندة في لبنان وسوريا والعراق واليمن ومن إيران، كأوّل اختبار حي ومباشر ومن هذا النوع للمحور في قضيته المركزيّة، وفي أوّل مواجهة تضع الكيان الإسرائيليّ (في بنيته المجتمعيّة وثقة جمهوره بالجيش والأمن والمستوى السياسيّ وعلاقاته البينيّة في مؤسّساته وسرديّته وسياسته الخارجيّة) والوجود الأميركيّ وهالته ونفوذه في المنطقة على المحك.

 

 

 

إزاء ذلك، تبرز التداعيات الهائلة في الاجتماع السياسيّ لمحور المقاومة:

 

  1. أضحت العلاقة بين أركان المحور بمثابة أمر واقع بلغ مرحلة اللاعودة، في ظل تزايد أرصدة الانتصارات والانجازات والتضحيات وتبادل الخبرات والعوائد الاستراتيجيّة واقترابها من أهدافها. يبدو مؤشّر الأداء النوعي للمحور في حالة تصاعديّة مع إدارك العدو الصهيوني مخاطر ذلك. مما يحتّم على مكوّنات محور المقاومة الإصرار عليها مقابل الأكلاف الباهظة التي تصيب كلّ طرف إن تنازل عنها. وهي إذ تتطوّر في مستوياتها على قدر لياقاتها في الإنجاز وانتقالها إلى عتبات جديدة في معادلات الصراع ضد العدو فإنّ هذا الأمر يحظى بمكانة خاصّة وجدانيّة وإدراكيّة في الوعي المجتمعي على امتداد انتشار المحور.
  2. تمكّن هذه العلاقة الاستراتيجيّة مكوّنات المحور الانتقال الحاسم من ديناميّات التشظّي إلى استراتيجيّات التماسك، بعد أن شهدت بعض تلك المجتمعات مخاضات داخليّة عسيرة في الصراعات البينيّة التي شهدتها داخلها، إذ تصبح أكثر تماسكًا بفضل جهود وسياسات الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران والقيادات الحكيمة النافذة والفذّة على رأس حركات المقاومة، وممّا يجعل تلك الجماعات والمجتمعات محكومة بإطار يشدّ أطرافها إلى مركزٍ سياسيّ واحد. لقد أصبحت الوحدة والاستقرار من محدّدات البصيرة السياسيّة التي يؤمن بها قادة هذا المحور، حيث يشيّدون على المقاومة والصراع مع العدو الإسرائيليّ والعدوان الأميركي مبدأ لحمتهم تأسيسًا للحمة أوسع في الوطن والأمة الإسلاميّة والعربيّة.
  3. تشهد كل حركة مقاومة ولاداتها الجديدة على قاعدة “التحدّي والاستجابة؛ دون أن يكون ذلك على حساب جوهر القضيّة المركزيّة بل يخدمها ويعزّز نقاط القوّة والفرص، ولهذا أيضًا إسهامه في تعزيز اللحمة المجتمعية في مدار نشاط هذه الحركة أو تلك، وزيادة استقطابها الشعبي والتنظيمي ورفد بنيتها البشريّة، والشعور بمزيد من القوّة والحماية لدى بيئتها الحاضنة؛ ولهذا الأمر انعكاساته في مجالات حيويّة.
  4. يتبيّن أهمية أن تنعقد العلاقة بين إيران والاجتماع السياسيّ لسائر مكوّنات المحور على المقاومة (المبدأ والفعل) ونصرة القضيّة الفلسطينيّة، مما يؤهّل تلك المجتمعات على التسامي فوق العصبيّات والتناحر، والسعي إلى الوحدة لا على أساس مذهبيّ عصبي، إنّما كنقيض يجهض مشاريع الفتنة والذاكرة المقيتة، بممارسة سياسيّة منفتحة وواثقة ومنسجمة مع منطلقات دينيّة أو فكريّة راسخة ذات رسالة إنسانيّة عالميّة. وهذا ما يفسِّر أن الجمهوريّة الإسلاميّة وحزب الله-لبنان أقرب إلى حركة حماس في فلسطين أو إلى نجدة مسلمي البوسنة و”مستضعفي أو أحرار فنزويلا” من بعض الشيعة في أذربيجان أو بعض الشيعة اللبنانيّين أو الإيرانيّين الذين يدورون في الفلك الأميركيّ أو يقتربون منه ولو كانوا علماء دين، فيجري الكلام عن “شيعة الإنكليز” في إيران والعراق، وعن “شيعة السفارة” (الأمريكيّة) في لبنان.
  5. لم تعدّ العلاقة محلّ “مؤاخذة” و”إدانة” إلا في وهم بعض المتمسّكين بالشعار الكيانيّ البائد (إيران أوّلًا، العراق أوّلًا، لبنان أوّلًا، سوريّا أوّلًا، اليمن أوّلًا، فلسطين أوّلًا) وفي تحيّز بعض النخب التي تنشد الغرب وأنموذجه في العالمين العربيّ والإسلاميّ وتنطلي عليها السرديّة المهيمِنة، وكذلك لدى الأنظمة الدائرة في فلك الهيمنة العالميّة. إلّا أنّ التجارب الملموسة نطقت بضحالة تلك المؤاخذة والإدانة، حيث فضحت ممارسات الهيمنة تلك الأوهام التي لا يزال لها مفاعيل ويتم تحريكها من وقت إلى آخر بأشكال عدّة، مما يضعف تلك الحراكات ويبطئها ويضرب مصداقيتها ومؤثّريتها.
  6. تتنامى وتتوسّع شبكة التنسيق والاقتدار بين أركان المحور المقاوم، بموجب ما تستدعيه المواجهة لمشاريع الهيمنة والتوسّعية الدوليّة، وبمقتضى المجابهة تتدحرج وقائع التحدّيات على قدر ما يتطلّبه الدفاع أو الهجوم الدفاعي، وما ترتّبه الانجازات والانتصارات من استقطاب تحالفات مضادّة للتوسّعية المهيمنة، ما يجعل الاجتماع السياسيّ لمحور المقاومة ومكوّناته أقدر على توسيع نطاق أمنه القومي ومداه الحيوي المفيد والمؤثّر والانتقال إلى الأدوار الحسّاسة في المعترك الإقليميّ، وكذلك الانتقال من ردود الأفعال إلى استراتيجيّات الفعل في الساحات والأبعاد والمستويات المختلفة.
  7. تساهم تلك العلاقة بين مكوّنات المحور بانتقال تلك الجماعات والمجتمعات من التهميش إلى الفاعليّة السياسيّة وإعادة بلورة الشخصيّة المعنوية لأبناء حركات المقاومة وبيئتها، بإحداث “النقلة النوعية” في البيئة من متوجّسة إلى داعمة فمؤيّدة ثمّ حاضنة إلى منخرطة حتى الوصول إلى درجة التماسك القصوى.
  8. يسمح المحور الواحد برسم خارطة طريق مشتركة بالنسبة إلى الجماعات والمجتمعات التي تتفاعل معه، باطمئنان واقتدار وصوابية مسار.

 

أ.ش

المصدر: الوفاق/ خاص