تحدّثت عيون الشهداء في الصّور عن فوحِ ضوئه في بسماتها.. ترنو إليه أبدًا، وتحمل نوره خلف جفونها.. تحفظ كلماته وتنطق بها بلغة الدم والضوء.. تتبع خطاه الذاهبة أبدًا إلى القدس، فنراها جيشًا من روحه، جيشًا من شهداء على طريق القدس..
وتحدّثت عن مشيته ناحية السماء كلّ ذخيرة الحبّ في مخازن المقاومة.. منذ ثمانينيات الرّصاص العزيز الذي تجمع ثمنه لهفات المجاهدين إلى زمن المسيّرات والصواريخ وكسر مخرز العِدا بالعين المقاوِمة.. وهل العين سوى أوّل اسم عماد..
تحدّثت عنه حبّات الندى على عشب عامل، والنسمات المحمّلة برائحة البارود في المعسكرات، وطريقة الفقراء في لفظ اسمه مرصّعًا بتنهيدات الفقد، وزفرات الشوق، ودمعات العزّة.. ويتحدّث عنه، بشفافية تشبهه، نبلُ أهل العسكر.. وما نزال نجهل ما عماد ومَن عماد!
في تأبين العماد شهيدًا تبكيه كلّ الأعين الحرّة، تحدّث السيّد نصرالله عن رفيق عمره والدرب المقاوِم وقال إن على هذه الأمّة أن تعرفه لأجلها وليس لأجله.. هل عرفناه؟! ليس بعد.. ففي كلّ يوم، مع كلّ خطوة نحو فلسطين، مع كلّ طلقة تُسدّد نحو رأس الصهيونية، ومع كل عصبة تنعقد على جبين مقاتل عند الثغور، يُكشف سرٌّ صغير من بحرِ أسراره.. ومع كل مقدار خيط يزاح من اللثام عن وجهه، ينسكب الضوء على ألف ألف حكاية كان بطلها جميلًا من آل مغنية، يُدعى عماد.. ولا نعرفه.. وعلينا أن نعرفه.. لأجلنا، لأجل أطفالنا الذين معه تعلّموا وفهموا أن البطولة ليست خيالًا ولا أنموذجًا مركّبًا في استديوهات وبرامج صناعة الأبطال الوهميين، ولأجل ذاكرة الأجيال التي وُلدت في كنف انتصارات تحمل توقيع مغنية ونمَت في بيئة لا تدركها الهزائم ولا يخيفها جبروت الاحتلال والطغيان.. لأجل ذاكرتنا الحافلة به، والمعتزّة بمعاصرته، والممتلئة بحكاياته، والمخضّبة بجرح فقده بالرغم من فخرها بارتقائه ويقينها بحضوره حيًّا {ولكن لا تشعرون}، لأجل كلمة الحقّ التي علينا تدوينها في التاريخ كي لا يربح المارقون جولة كتابته كما يبتغون، بعد أن تلقّنهم ساح الوغى، باسم عمادها، الهزيمة..
هل عرفناه؟!
١٦ عامًا انقضى على رفع اللثام عن وجه السرّ المعظّم، وعن اسمه الذي أرّق كلّ أهل الباطل، وعن بعض سيرته التي كلّما نظنّ أدركنا منها فصلًا، تفرّعت منه أغصان ما لمّا يُروَ بعد، وقد لا يُروى.. فلا نرتوي. سنون تكدّست فوق سنين، وما يزال صوت الحاج علي المسمار وهو يذيع الخبر القاصم ظهر القلب يترّدّد في أروقة الرّوح، وما يزال صوت السيد نصر الله وهو يخاطبه شهيدًا: “إلى الرّضوان يا رضوان” يسقط على القلب جمرةً وعزّة.. سنون انقضت، وما تزال عيون أهل الضاحية تتوسّد صوره، وتناجي باسمه الشهداء، وتخبره وتخبر عنه، وما يزال أهل الحق يلاحقون صوته في التسجيلات، يلاحقون الكلمات كعطاشى أنعم الله عليهم بزخّة مطر، يصغون إلى صوته مسجّلًا في لطمية قديمة “يا أبيّ الضّيم نبع الكبرياء”.. يدمعون، يبتسمون، ويهمسون: “السلام على العماد”…
ليلى عماشا
أ.ش