وعندها، لا داعي للجنة تحقيق رسمية تبحث في أسباب فشل السابع من أكتوبر ومعرفة من يتحمّل مسؤوليته، ولا حاجة إلى أن يتساءل الجمهور الإسرائيلي عن تراجع الاقتصاد الإسرائيلي، ويستفسر عن توتر العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية والمسؤول عن نظرة العالم والمجتمع الدولي إلى “إسرائيل” كمتهمة تحاكم على جريمة الإبادة الجماعية في محكمة العدل الدولية.
حتى إشكاليات “إسرائيل” الداخلية ستحل في حال تحقيق “النصر الساحق”، لأنه سينهي الخلاف العميق بين المؤيدين لصفقة تبادل لعودة الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة مهما كان الثمن، لكون إعادة الأسرى قيمة عليا في عقيدة “إسرائيل كدولة” اليهود المسؤولة عن حفظ أمنهم، والتي تضع الحفاظ على حياة اليهودي في “أول سلم أولوياتها” القومية والأيديولوجية، وبين فريق “النصر الساحق” الذي ساهم في بلورته نتنياهو، وغالبيته من التيار اليميني الذي ينظر إلى العوائل الأسرى اليهود أنهم عائق أمام تحقيق “النصر الساحق” الذي ينظر إلى أرض “إسرائيل” الكبرى كقيمة أعلى من قيمة حياة اليهودي، وأن على الكيان الحفاظ على أمنه وتحقيق انتصار حتى بثمن قتل هؤلاء الأسرى بيد “الجيش” الإسرائيلي.
كذلك، سينهي “النصر الساحق” الخلاف المتجذر في المجتمع الصهيوني بين الحريديم الذين تقارب نسبتهم 20% من المجتمع الإسرائيلي، والذين لا يشاركون في الخدمة العسكرية ولا في الخدمة المدنية، وليس لهم أي دور يذكر في الناتج الاقتصادي للكيان، رغم أن “الدولة” عبر الموازنات الحكومية والأموال الائتلافية هي من يمولهم ويقود مؤسساتهم المتعددة، وثمة حديث عما يقارب 8 مليارات شيكل لموازنة 2024 مخصصة لقطاع الحريديم، وبين عامة الإسرائيليين الذين يحملون الأعباء الأمنية والاقتصادية في الدولة.
“النصر الساحق” سينهي الفشل الإداري للحكومة، وخصوصاً في إدارة الاقتصاد والمال الذي كان تقرير “شركة موديس للائتمان المالي” دليلاً واضحاً عليه، لكن وزير المالية بتسلئيل سيموتريتش، كما نتنياهو، أكّد أن “النصر الساحق” سيحل تلك الأزمة، رغم أن التقرير لم يعتبر أن الوضع الأمني هو السبب الوحيد في خفض الائتمان المالي لـ”إسرائيل” وتوقعاته بمزيد من الانخفاض المستقبلي له، بل إن إدارة الحكومة المالية الفاشلة، وخصوصاً مع وزير مالية ينصب جهده في خدمة مصالح قطاع المستوطنين بعيداً عن خدمة المصلحة العامة، ناهيك بالخلافات التي سبقت الحرب، كان لها تأثير مهم.
لا داعي للقلق، فكل شيء سيحل بمجرد تحقيق “النصر الساحق”، بحسب كلام نتنياهو، لأن “النصر الساحق” يجبّ ما قبله، ولكن يبقى السؤال المركزي: كيف يمكن تحقيق “النصر الحاسم الساحق” في غزة بحسب رؤية نتنياهو وحكومته؟
في البداية، اعتبرت الحكومة و”الجيش” ومن خلفهم نتنياهو الوصول إلى مجمع الشفاء الطبي الذي صوره الإعلام الإسرائيلي المجند كجزء من الآلة العسكرية الإسرائيلية أنه الإجهاز على مقر قيادة المقاومة وحكومة غزة، وأنه دليل على “النصر الساحق”.
وبعد تحقيق ذلك، وبعدما دمرت الدبابات الإسرائيلية مجمع الشفاء الطبي في أكبر جريمة إنسانية وصحية ضد المنظومة القضية الفلسطينية في ظل الحاجة الماسة إلى كل جهد صحي في ظل الحرب، اكتشفت “إسرائيل” أن مجمع الشفاء الطبي لم يكن سوى مستشفى لعلاج المرضى والجرحى من جراء المجازر الإسرائيلية.
لذا، بدأ الحديث مجدداً عن احتلال مدينة خان يونس، قلعة حركة حماس ومسقط رأس رئيس حركة حماس في غزة يحيى السنوار وقائد كتائب عز الدين القسام محمد الضيف والمكان الذي لجأ إليه قادة حماس، بحسب الدعاية الإسرائيلية، وأن الأسرى الإسرائيليين موجودون فيها وداخل أنفاقها، والكثير الكثير من القصص والادعاءات التي صورت معركة احتلال خان يونس على أنها ستكون “أم المعارك” الإسرائيلية.
ومنذ شهرين تقريباً، يقاتل “الجيش” الإسرائيلي في خان يونس، ويرتكب المجازر والجرائم، ويقتحم المستشفيات، ويفجّر المربعات السكنية والمنشآت المدنية، ولكنه لم يصل إلى السنوار، ولم يحرر أسيراً إسرائيلياً واحداً.
وفي خضم انهيار نظرية “النصر الساحق” الإسرائيلي مجدداً في خان يونس، أخرج نتنياهو المخادع والباحث عن نجاته الشخصية من جرابه المليئة بالأحابيل السياسية أن “النصر الساحق” يتأتى فقط باحتلال مدينة رفح؛ آخر المدن الغزية التي لم يدخلها “الجيش” الإسرائيلي براً، والتي يعيش فيها مليون ونصف مليون فلسطيني، بينهم مليون و200 ألف نازح هجروا من بيوتهم ومدنهم وذهبوا إلى رفح المنطقة الآمنة التي خصصها “الجيش” الإسرائيلي للسكان النازحين من مناطق القتال.
إذاً، احتلال رفح وتنفيذ أكبر مجزرة في القرن الواحد والعشرين ضد مليون ونصف مليون فلسطيني من قبل “الجيش” الإسرائيلي هو “الانتصار الساحق الحاسم” الذي ينظر إليه نتنياهو الآن، لأن تحقيق الانتصار مرتبط بحسب ادعائه بسدّ (الثغرة المكشوفة) الحدود بين غزة وجمهورية مصر العربية، المسماة محور صلاح الدين (فيلادلفيا)، لمنع تهريب السلاح من صحراء سيناء إلى رفح عبر الأنفاق.
وهنا، يجب الإشارة إلى المغالطة الجوهرية في مقاربة “النصر الساحق” لنتنياهو، المبنية على أنه لا يمكن إبقاء غزة منزوعة السلاح ما لم يتم احتلال محور فيلادلفيا والسيطرة على معبر رفح لمنع تهريب الأسلحة إلى المقاومة في غزة.
لكن أليس المنطق العسكري السليم يقول إن أول شيء تفكر فيه الجيوش في الحرب هو قطع الإمدادات العسكرية عن العدو، بمعنى أنه إذا كان محور فيلادلفيا ممراً لتهريب السلاح والعتاد للمقاومة الفلسطينية، فلماذا لم تسيطر عليه القوات الإسرائيلية منذ الأسبوع الأول للحرب، وبذلك تقطع خطوط الإمدادات عن حماس؟
لماذا تركت رفح لتكون آخر المدن الغزاوية للعملية البرية، ودفعت إليها مليوناً ونصف مليون نازح فلسطيني كأكبر حالة اكتظاظ سكاني ملاصق للحدود المصرية، التي لا يفصل هذا السيل الهادر من الغزاويين إلا بضعة أمتار عنها، وهم ملاحقون بالقصف الصهيوني على خيامهم وملاجئهم المهترئة، ويعانون الجوع وانعدام عوامل الحياة الإنسانية.
وبالتأكيد، مع أول قذيفة دبابة إسرائيلية وتحرك بري في رفح لن يكون هناك سبيل لهم للنجاة من الموت المحتم إلا اقتحام تلك الحدود باحثين عن الأمن عند إخوانهم المصريين، لأنه لم يبقَ أي مكان قابل للحياة في قطاع غزة كلها! هل يعقل أن هذا الأمر لم يكن مخططاً له منذ البداية من قبل نتنياهو وحكومته، بعدما رفعوا شعار التهجير إلى سيناء منذ الأسبوع الأول للحرب؟
لذلك، من الطبيعي جداً فهم الموقف الرسمي المصري، المدرك للمخطط الإسرائيلي الخبيث منذ بداية الحرب، والذي واكبته حملة إعلامية إسرائيلية تحريضية ضد مصر ومواقفها السياسية الرافضة لاحتلال مدينة رفح، والتي تحذر من تداعيات ذلك على أمن المنطقة واتساع دائرة الحرب.
وهنا تجدر الإشارة إلى بعض الحقائق التي يقفز عنها نتنياهو ومن ورائه الإعلام الإسرائيلي:
أولاً، أن قضية تهريب الأسلحة للمقاومة عبر الحدود المصرية مع رفح لم تبدأ مع انسحاب “الجيش” الإسرائيلي من محور فيلادلفيا عام 2005، بل كان التهريب موجوداً طوال الوقت الذي كانت غزة تحت الاحتلال الإسرائيلي، وإلا من أين أتى السلاح والعتاد العسكري الذي خاضت به الفصائل المقاومة الفلسطينية انتفاضة الأقصى من عام 2000 إلى عام 2005؟
ثانياً، ألم تحارب “إسرائيل” أنفاق التهريب أثناء احتلالها المباشر لقطاع غزة ومحور فيلادلفيا ومعبر رفح، وتستخدم كل الوسائل لذلك، ثم فشلت فشلاً ذريعاً، ولم تنجح بالقضاء على ظاهرة الأنفاق رغم كل التكنولوجيا التي تمتلكها؟
ثانياً، اقتصار طرق وصول السلاح إلى المقاومة في غزة على التهريب عبر الأنفاق بين سيناء وغزة هو نوع من إخفاء الحقائق والتلاعب بها، وهو مقصود إسرائيلياً لتحميل الدولة المصرية فشل “إسرائيل” وإخفاقها في منع المقاومة من تسليح ذاتها وتطوير قدراتها العسكرية، والتعمية عن فشلها الأساسي في منع حدوث معركة طوفان الأقصى، فهناك طرق متعددة لتهريب السلاح للمقاومة في غزة، منها المعابر والحدود الإسرائيلية مع غزة، ومن خلال عصابات التهريب الإسرائيلية ذاتها التي في غالب الأمر تكون متعاونة مع قادة كبار من داخل “الجيش” الإسرائيلي نفسه.
وفي مراجعة سريعة لعناوين الأخبار قبل السابع من أكتوبر، سنجد مجموعة طويلة من الأخبار الإسرائيلية تتحدث عن إحباط عمليات تهريب أسلحة ومواد وعتاد عسكري عبر معبر كرم أبو سالم الذي هو معبر إسرائيلي، والذي تأتي البضائع إليه عبر الموانئ الإسرائيلية.
أضف إلى ذلك أن غزة يحدها من الغرب البحر المتوسط، الذي “لإسرائيل” كامل السيطرة العسكرية عليه. ورغم تلك السيطرة، فإنه يعد مساحة واسعة لإيصال السلاح إلى غزة، والأهم من كل ذلك قدرة المقاومة الفلسطينية على تصنيع سلاحها بقدراتها الداخلية الذاتية خلال السنوات العشر الأخيرة من دون الحاجة إلى استيراد سلاحها من خارج قطاع غزة.
هذه الملاحظات تقودنا إلى حقيقة واحدة، هي أن الدخول العسكري البري الصهيوني على رفح في ظل هذه الظروف وهذا التوقيت ليس إلا استكمالاً لخطة مكتملة الأركان ومعدة مسبقاً إسرائيلياً لتهجير سكان قطاع غزة إلى شبه جزيرة سيناء المصرية وتوريط الدولة المصرية بعبء مليون ونصف مليون لاجئ فلسطيني.
بمعنى آخر، تحميل “إسرائيل” الدولة المصرية فاتورة إعادة احتلال “الجيش” الصهيوني لغزة، وبذلك يتهرب كيان الاحتلال من تبعات الاحتلال لتلقيه على كتفي الدولة المصرية، ووضع مصر كدولة وكقيادة في ورطة كبرى، فمن جهة لا يمكن للجيش المصري الوطني منع حشود النازحين الفلسطينيين من الدخول إلى الحدود المصرية. ومن جهة أخرى، إذا سمح لهم بذلك، فسيكون هذا بمنزلة السماح لمخطط التهجير الإسرائيلي بالنجاح.
لذلك، السعي المصري الحثيث للوصول إلى وقف إطلاق نار شامل وكامل والتعاون مع القطريين في ذلك ينقذ الشعب الفلسطيني وقضيته من مخطط التهجير ويخدم الأمن القومي المصري في الوقت نفسه، ناهيك بأن إيقاف الحرب على غزة عامل مركزي في تبريد التوترات الإقليمية التي من الواضح أنها ستتحوّل، إذا استمرت الحرب الإسرائيلية على غزة، إلى حرائق واسعة ستؤثر في الأمن الإقليمي والدولي برمته.
وبذلك، لا بدّ من النظر إلى النصر الساحق الذي يدعو إليه نتنياهو وحكومته على أنه تهديد حقيقي على الأمن والسلم الإقليمي والعالمي، الأمر الذي يمكن أن يفسّر إلى حد كبير بدء ظهور ملامح التخوفات الأميركية من استمرار نتنياهو في الدفع لاستدامة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة واحتمال نقلها إلى الجبهة الشمالية.
أ.ش