رغم أن حزب الله لم يتبنَّ استهداف مقر قيادة المنطقة الشمالية، أول من أمس، وأهداف نوعية أخرى، إلا أن قيادة العدوّ السياسية والأمنية حمّلته المسؤولية، ورأت فيها ارتقاء في الاستهداف وتبريرًا، بالتالي، للارتقاء في الردود، بغضّ النظر عمّن نفّذ هذه الهجمات. وفي ضوء هذا الحدث ونتائجه ورسائله، نفّذ جيش العدوّ اعتداءات تعمّد أن تكون خارج قواعد الاشتباك، لإيصال أكثر من رسالة أيضًا، تتصل بواقع المعركة الدائرة على جبهة لبنان ومستقبلها.
وفي الموازاة، يحاول العدو، عبر توسيع نطاق اعتداءاته أيضًا، إرباك حسابات المقاومة لدى درس خياراتها في المبادرة والرد، وزيادة الضغوط عليها وعلى بيئتها المباشرة، وإضفاء صدقية وجدية على تهديداته عبر ارتقاء إضافي، وإن كان مُحدودًا حتّى الآن. وهو يراهن بذلك على تعزيز الإيحاء بأن ردوده اللاحقة ستكون غير متوقعة أيضًا، في محاولة للتأسيس لمعادلة مغايرة لما كان سائدًا. وهو معطى جديد سيكون حاضرًا لدى المقاومة في بلورة خياراتها المضادة. مع ذلك، ينبغي عدم إغفال حقيقة أن الأداء العملياتي للعدو يأتي أيضًا ردًا على الضغوط المتصاعدة التي رتّبتها عليه جبهة لبنان، بشريًا وعسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، أبرزها حتّى الآن تمثّل بتهجير عشرات آلاف المستوطنين في ظاهرة هي الأولى من نوعها منذ عشرات السنين. كما يحاول، عبر شنّ اعتداءات مؤلمة، احتواء صورة الفشل والعجز أمام المستوطنين عن توفير الأمن لهم، وهو انطباع يخشى مفاعيله المستقبلية على صورة الجيش ودوره في نظر الجمهور الإسرائيلي.
في المقابل، تندرج الضربات في منطقة صفد وغيرها، ضمن سياسة استمرار جبي الأثمان من العدو، بهدف الحدّ من اعتداءاته في هذه المرحلة على الأقل، على أن يتوّج ذلك بتثبيت معادلة الردع التي تحمي لبنان. وهي تنطوي أيضًا على رسائل عملية وسياسية موجّهة إلى قيادة العدو، بأنه ما دامت جبهة جنوب لبنان مفتوحة، فإنها ستتعرض لكثير من الضربات في مواجهة خروقاتها واعتداءاتها. وفي السياق نفسه، يشكّل استمرار العمليات ضدّ كيان العدو، عمليًا، احباطًا لرهانات قيادة العدوّ على التهديدات التي تراكمت على مدى الأشهر الماضية، وارتفعت وتيرتها في الأسابيع الأخيرة، وتقويضًا للصورة التي يحاول ترميمها بنظر الجمهور الإسرائيلي وأمام أعدائه.
تؤشر الاعتداءات والردود عليها ومفاعيلها في الساحتين إلى حجم التداعيات الكامنة في دينامية المعركة المفتوحة على أكثر من سيناريو، وإلى ازدياد احتمالات تصاعد المعركة في سياق الردّ والردّ المضاد، وفق سقوف متحركة ضمن فضاء ارتسمت معالمه عبر مجموعة مُحدِّدات حتّى الآن: الرسائل السياسية المتبادلة على ألسنة قادة الطرفين، ومعادلات الميدان المتحركة، إضافة إلى أولوية تجنّب خوض حرب شاملة من قبل الطرفين، وانسداد أفق التسويات السياسية حتّى الآن في الساحة الفلسطينية.
ومن أبرز المحدِّدات التي تُميِّز هذه المرحلة، المواقف والرسائل التي أطلقها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله الثلاثاء الماضي، وأبرزها معادلة “التوسعة مقابل التوسعة والارتقاء مقابل الارتقاء” في مؤشر على الندّية في المعادلات والرد. وتكمن خصوصية هذه المعادلة في سياقها وتوقيتها. فهي، بهذا المعنى، ليست تكرارًا وإنما هي تثبيت لمعادلة راهن العدوّ على أن المتغيرات في فلسطين والساحة الجنوبية ستساهم في تعديلها ولو بشكل ضمني. إلا أنه بعد الالتزام العلني والحاسم، من المسلَّم به أنه ستكون لها مفاعيلها في السلوك العملياتي لقادة العدوّ، انطلاقًا من أنها أظهرت عقم تهديدات وزير الأمن يوآف غالانت الذي لم ينفكّ عن إطلاق التهديدات.
وبالموازاة، ستكون هذه المواقف حاضرة في خلفية خيارات العدوّ واعتداءاته، لأنها أحبطت الرهانات على إمكانية أن تساهم كلّ المرحلة السابقة وسيناريوات المرحلة المقبلة ومخاطرها، في إخضاع لبنان والمقاومة لمطالب قيادة العدوّ التي تستند في تقديراتها إلى صور الدمار والمجازر الدموية في قطاع غزّة، لإخافة اللبنانيين ودفعهم إلى القبول بالشروط الإسرائيلية.
لذلك، كان من الضروري أن ترتقي رسائل حزب الله كي يدرك العدوّ أن نطاق المعركة وتداعياتها ستتجاوز ما يعانيه منذ 130 يومًا. وقد أوضح قائد المقاومة معنى الردّ على استمرار العدوان الإسرائيلي وتوسعته إلى السقف الذي يُلوّح به، بأن الأمر لن يقتصر على عدم عودة 100 ألف أو 200 ألف مستوطن، وإنما على العدوّ أن “يهيئ الملاجئ والفنادق والمدارس والخيم لمليونَي مُهجّر من شمال فلسطين المحتلة”. وبذلك، سيكون على قيادة العدوّ التعامل مع هذا السيناريو على أنه حقيقة قائمة، مع ما قد يترتّب على ذلك من قرارات وخيارات وتداعيات استراتيجية على مجمل المشهد الميداني والسياسي والإقليمي.
لا أفق لأيّ محاولة تأثير على تقديرات قيادة حزب الله وخياراته بالحفاظ على معادلة الردع ومواصلة معركة إسناد غزّة
ولهذا الالتزام العلني من السيد نصر الله خصوصية استثنائية كونه أتى بعد متغيّرات جوهرية تشهدها البيئة الإقليمية – الفلسطينية، ستكون لها مفاعيلها المباشرة على أيّ معادلات لا تزال في طور التشكل، وأثرها المباشر على مستقبل الوضع في لبنان. وانطلاقًا من هذه الرؤية، يأتي تأكيد السيد نصر الله لمسألة أن “من يتصوّر للحظة واحدة، من أجل حسابات العدوّ وحسابات الصديق وكلّ الذين يأتون وسطاء، أنّ المقاومة في لبنان… تشعر ولو للحظة واحدة بخوف أو مأزق أو ضعف أو ارتباك، هو مُشتبه ومُخطئ تمامًا ويبني على حسابات مُخطئة تمامًا”.
ولعلّ من أشد المواقف تأثيرًا في وعي قادة العدوّ وحساباته أيضًا، أن الأمين العام لحزب الله لا يرى سوى نتيجة واحدة لهذه المعركة، وهو أنه ليس أمام العدوّ سوى “أن يُمارس فعل الهزيمة ويوقف العدوان على غزّة… انتصار غزّة والمقاومة في غزّة ومعها كلّ محور المقاومة”. ويعني ذلك، من منظور إسرائيلي، أنه لا أفق لأيّ محاولة تأثير على تقديرات قيادة حزب الله وخياراته المسقوفة بالحفاظ على معادلة الردع التي تحمي مستقبل لبنان والمقاومة، والتصميم على مواصلة الضغوط على كيان العدوّ كجزء من إسناد المقاومة في قطاع غزّة.
وكتعبير عن حضور هذه الرسائل والمعاني لدى الخبراء المختصين، ومن ورائهم الجهات الرسمية، أتى تحذير قائد الفيلق الأركاني (مؤلف من عدة فرق نظامية واحتياطية) السابق (2010 – 2014)، اللواء غرشون كوهين، من “حنكة السلوك الاستراتيجي” للأمين العام لحزب الله، مشيرًا إلى ضرورة تحليل الطريقة الخاصة التي تجعل منه تهديدًا خطيرًا جدًا ل”إسرائيل”. وتوقّف عند ترجمة محور المقاومة كقوة فعلية حاضرة في معادلات المنطقة، مشددًا على استحالة معرفة كيف ستنتهي الحرب في الشمال، وصعوبة تقدير الضرر الذي سيلحق بقدرات حزب الله إذا هاجمه الجيش الإسرائيلي، مؤكدًا أن الحزب سيبقى في كلّ الأحوال قادرًا على تهديد “إسرائيل” بالأسلحة الحديثة. وانطلاقًا من هذه الفرضية، ينبغي فحص العقيدة الأمنية الإسرائيلية المُحدَّثة.
علي حيدر