لا يخلو شارع من شوارع العاصمة اليمنية صنعاء من جدران منقوش عليها لوحات غرافيتية تحمل في مضامينها أبعاداً سياسية وثقافية، وتأتي على هيئة قصص أو آراء أو الاثنين معاً، وإن كان ثمة عشوائية، فإن المضمون لا يمرّ من دون أن يكون له ارتباط بالوطن وقضايا الأمة ككل وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.
وللرسم على الجدران في اليمن قصة تبدأ فصولها الأولى مع ظهور الكتابة القديمة لحضارة جنوب شبه الجزيرة العربية في الفترة ما بين القرنين 12-10 قبل الميلاد، بدلالة القطع الأثرية من البرونز والمرمر التي تم اكتشافها في مستويات أثرية تعود إلى تلك العصور في عدة مواقع من اليمن، لكنها في الغالب اعتمدت على الرسوم النصية المعروفة بالنقوش المسندية أو الحميرية المنحوتة على جدران المعابد والقلاع.
واللافت في الأمر أن النقوش اليمنية القديمة لم تغفل الحرب، بل وثق بعضها، كنقش “زيد عنان 57″، جزءاً من الحروب التي عايشها اليمن القديم، سواء ما تعلق منها بالصراعات الداخلية والانقلابات للوصول إلى الحكم في الممالك والقبائل، أو تلك التي ارتبطت بالغزو والحملات الرومانية والحبشية والفارسية.
ولعل ذلك الامتداد الثقافي المستمر حتى اليوم انعكاس لفكر النضال والثورة والمقاومة لدى اليمني في مختلف فصول التاريخ، خاصة واليمن واحد من البلدان التي لم يسبق لأي احتلال أن أخضعه بشكل كامل لسيطرته، بل عادة ما كانت تعاني الدول المحتلة من استمرار المقاومة فكراً وعملاً، وهو ما يفسر ثراء التراث المادي واللامادي بالشواهد الدالة على ذلك.
ومنذ إعلان العدوان على اليمن عام 2015 والفن التشكيلي يسجل حضوراً متواضعاً، على مستوى إقامة المعارض التشكيلية، لكنه عادة ما كان يعبر عن مظلومية الشعب اليمني، غير أن محدودية انتشاره يجعله حصراً على فئة معينة من الجمهور هم رواد المعارض، خلال فترة زمنية محدودة، وهذا ينعكس بطبيعة الحال على مدى التأثير الناتج عنه. وذلك على عكس الغرافيتي الذي شهد اهتماماً متزايداً في صنعاء خلال ذات الفترة؛ باعتباره يأتي بالفن إلى الناس وليس العكس، من خلال تجاوزه جدران الصالات المغلقة لإيصال رسائل الفن إلى الجميع بواسطة الجدران الناطقة التي تضفي رونقاً جمالياً وبعداً ثقافياً للمدن.
الغرافيتي.. تحية ودعماً لغزة وفلسطين
مع انطلاق عملية “طوفان الأقصى” في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، خرج اليمنيون للتعبير عن وقوفهم مع المقاومة الفلسطينية وغزة حتى النصر. موقف صاحبه نشاط سياسي وإعلامي وثقافي وفني واسع، كان الغرافيتي جزءاً منه، فتحولت الجدران الصامتة في الشوارع إلى حوامل فنية تتناول في الغالب جرائم الاحتلال في غزة والدور الأميركي فيها، كما تقدم المقاومة سبيلاً للخلاص.
يعزو الفنان التشكيلي اليمني محمد الحاشدي، انتشار الأعمال الجدارية في الآونة الأخيرة إلى إدراك تأثيرها في المجتمع، فاللوحة الواحدة يطالعها آلاف المارة بشكل يومي، وهذا يرسخ في الأذهان أبعاد ومضامين يضفيها الرسّام على القصص والصور المنقوشة بأسلوب يخاطب الوجدان والمشاعر والعاطفة.
ويقول إن: “الجدران السوريالية التي نقلنا بواسطتها مظلومية اليمن خلال 9 سنوات، نعمل اليوم على تحويلها إلى لوحات متضامنة مع غزة وفلسطين، لنعبر من خلالها عن تضامن اليمني مع أرض المسرى وغايته في إحداث التغيير في واقع المعادلة والمساهمة في إيقاف المذبحة”.
أما عن المضامين التي احتوتها الجداريات فيضيف الحاشدي: “إن كثيراً من المبدعين يجتهدون على إنتاج أعمال تحمل في مضمونها أثر الحرب والحصار على غزة، وقوة المقاومة ضد العدوان وثباتها في أذهان الأجيال كفكرة عصية على الموت، ومنها ما يحاكي توحد الأمة على أبواب القدس وعظمة دماء الشهداء وتجذر القضية الفلسطينية وأثر المقاطعة كسلاح فاعل، لكننا نحرص على عدم تجسيد الخذلان العربي على الجداريات؛ حتى لا نجعل من تلك الجريمة فكرة مستساغة”.
أكبر معرض غرافيتي
ظل الغرافيتي في اليمن، ولفترة طويلة، مقتصراً على المبادرات الذاتية لبعض الفنانين، بينما كانت الأنشطة الرسمية محصورة في المعارض التقليدية.
ويقول وكيل وزارة الثقافة اليمنية التشكيلي خالد الجنيد: “أقمنا الكثير من المعارض التي عبرت عن المأساة اليمنية وعن فلسطين الأرض والإنسان والقضية خلال 9 سنوات من العدوان على بلدنا، وكان عدد المشاركين في تلك التظاهرات لا يتجاوز 15 رساماً ورسامة، لكن محدودية التأثير جعلنا نلجأ إلى الجداريات للوصول إلى الجميع، فكانت البداية في جدار السفارة السعودية؛ لما يمثله من رمزية للدولة التي وقفت على رأس العدوان، وهو إلى ذلك يطل على شارع حيوي يتوسط العاصمة”.
ويضيف: “بعد نجاح تلك التجربة وتحول المكان إلى مزار للكثير من المارة الذين يقفون للتأمل في لوحاته، لجأنا إلى تحديد جدران أخرى في أماكن عدة، وتحولت الرسومات من تجسيدها للجرائم والمظلومية إلى التعبير عن التصدي للعدوان بقوة”، مردفاً “على الرغم من أن فلسطين كانت حاضرة في كل معارض اليمن التشكيلية إلا أنها تتفرد اليوم باهتمام التشكيلي اليمني الذي وصل إلى مرحلة كبيرة من الوعي والإدراك للعدو الحقيقي للأمة، بعد أن كان البعض مغيباً عن الحقيقة بفعل الأيديولوجية والانتماء”.
يذكر أن وزارتي الثقافة والشباب والرياضة أقامتا مؤخراً معرضاً تشكيلياً كبيراً يمتد بطول ميدان السبعين، أكبر شوارع صنعاء، ضم 250 لوحة فنية جسدت غالبيتها العزة والكرامة والقوة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي ورموز تاريخية وأخرى حية من أبطال المقاومة الفلسطينية في كتائب “القسام” و”سرايا القدس”. كما جسدت شخصيات متنوعة من محور المقاومة كالسيد حسين بدر الدين الحوثي والسيد حسن نصر الله والقائد قاسم سليماني وشهداء اليمن ومحور المقاومة على طريق القدس.
أ.ش