سندس الأسعد
جيلُ التسعينات هو صلةُ الوصلِ بين جذوةِ التأسيس وبين نضج تجربة المقاومة باعتبارها الوليدة الميمونة للثورة الإسلاميّة؛ راكمنا بما قرأناه حكايا صقلت وعينا الجهادي العقائدي، وصاغت فهمنا لماهية هذه الثورة ولما خاضته في صراعها المشروع مع قوى الإستكبار الغربي وكيان الإحتلال الصهيوني المؤقت، ولأن الأدب -بحدِّ ذاته- وسيلة فنية تعبر عما يختلج بدواخل الكاتب من أحاسيس، وما يعايشه من تجارب، وما يراه من مشاهدات حيّة، كان للأدب المقاومِ بصمته الفريدة في وصل الشبابِ بتاريخهم وبقيمهم بل بذواتهم، مما يعزز فهمهم تأصلاً في مواجهة الثقافة الغربية المسمومة، وليكون مؤهلاً لإمتصاص القيم الربانيّة فضلاً عن أن يكون داعية لإرسائها وترسخيها، وليكون على بينة في مواجهة أي استحقاق مصيري ودحض الأوهام المضللة.
عملاً بوصية سيد شهداء المقاومة الإسلامية، الشَّهيد السَّيِّد عبّاس الموسَويّ(رض): “ذِكرياتُ الشُّهداءِ يَجبُ أَن تُشَكِّلَ مُناسبةً لإستِنهاضِ الهِمَمْ”، يحملنا الحديث عن أسلوب الأديبة هلا ضاهر أبعاداً ثقافيّةً “تبينيّةً” يتعين الإستغراق في تفاصيلها -الفاحصة والثاقبة- مليّاً، إذ يخترقُ أسلوبها الشعور الإنساني بقالبٍ لغويٍّ جميلٍ خلاقٍ وجاذب. كما تكرّس كتاباتها عراقة مجتمعِ المقاومة، الذي قاوم الإحتلال والإستكبار بقوّةٍ وثبات باذلاً مئات الآلاف من الشُّهداء.
كتبت هلا ضاهر: “التصريح” – “هديّة مسافر” – “شتلة بندورة” – “مكاتب بنت البوّاب” – “موت متجول” – “نقود للبيع” – “مذياع الجامع” – “أربعة أشياء” – “أخت الوزير”، “شتلة بندورة” – “الله يرحمه” – “يوم طويل في الملجأ” – “شرفة سلوى” – الخ.
من خلال هذا الفحص، نلحظ مدى التوفيق في بثّ العقيدة الجهادية وروح التضحية، وهي مهمة عظيمة وشاقة، يؤديها أدباء المقاومة – للأسف- في بيئة جغرافية غير مساعدة وظروف غير مؤاتية وغير مألوفة لدى مدعي “الثقافة” في لبنان، بيد أن “ضاهر” كرّست في أسلوبها العفوي ثقافة أصيلة، وهو رسالة سلوكية سليمة قبل أن يكون مادةً للنقد، بل تعبيراً صادقاً عن ثقافة أدباء المقاومة الملتزمين بإيضاح مشروعيّة الكفاح.
ولعل هذا الإلتزام هو أحد الأسباب الرئيسية التي حفظت على شمولية مشروعية المقاومة، بل عرّت كل أولئك الذين يصرون على وصمها بنعوت “مشبوهة” وإظهارها بموقع “الآخر” المختلف.
علاقة المقاومة بالثورة الإسلاميّة
“ضاهر” تبيّن علاقة المقاومة بالثورة الإسلاميّة المباركة، ودور الإمام الخميني(قدس) في صقل الوعي الشبابي، فتسرد في “مذياع الجامع”: “منذ اللحظة التي سمعت فيها صوت خشخشة صادرة من مئذنة الجامع، وهي في حالة تأهب، هي نفسها لا تدري ما الموضوع، لكن ترقبها الحذر وسط الصمت المسيطر على الحارة أصابني بالقلق. سألتها مرتين عما يجري وعن سكوتها المفاجئ فما كان منها إلا أن نهرتني بنبرة حاسمة:
– هس هس اسمعي هيدا مش وقت الأذان، يعني رح يذيع خبر مهم معقول تكون ماتت أم حسين؟ قلبي كان حاسس ما رح تقوم من هالمرض.
– يا أهالي بليدا الكرام، مات الخميني(قدس) والدفن في طهران.
قال الصوت المنبعث من المئذنة.
ما إن انتهى البيان المقتضب حتى أسلمت عيناي بصمت للدموع، ثم علا صوت نحيبي فجأة. أخذت جدتي تهدئ من روعي وهي في حالة من الذهول، تسألني عما أصابني، وحين أجبتها إني أبكي لسماعي بوفاة الخميني(قدس)، أجابتني وهي تضغط على أصابع يدي:
– وإنتِ ولي شو عرّفك بالخميني؟ هيه!
لم أكن أعرف الإمام الخميني(قدس)، لكنني كنت أبكي على أخي آدم، وأتذكر هيئة وجهه عندما كان يلفظ اسمه. هو الآن في بيروت، ترى كيف تلقى الخبر وهو الذي يحتفظ بصورته في خزانته، ويتحدث عنه دائما بحماسة ويقول إنه قائده. لطالما أخبرني الكثير من القصص عن انتصار الناس في إيران، وكان يفتخر أنه حمل السلاح مع المقاومة لمحاربة إسرائيل لتأثره بثورة إيران، ولسماعه خطابات الإمام عن الجهاد.
– يا ستي ليش قال خميني؟ ليش ما قال الإمام الخميني(قدس)؟
سألتُ جدّتي مستغربة، فأنا حين كنتُ أسمع عنه، كان أخي يسميه الإمام.
– هس، اسكتي دخيلك يا ستي هلاّ بياخدوكي على معتقل الخيام.
ردّت مسرعة بصوت منخفض بنبرة يشوبها الخوف”.
وفي مجموعتها القصصيّة “تحت ظلال الزيتون”، وهي عبارة عن سير صغار لم يختاروا “مستقبلهم بتكلف، ولم يبحثوا عنه في ركام عقد الحياة، أو بين ما اشتبك عليها من القلق، لينتقوه بصعوبة؛ هذا المستقبل هو الذي قرّر أن يأتي إليهم؛ ربما هم الذين سبقوه، ربما شاكس المستقبل حركة الزمن الصاعدة من الحاضر، فرجع إليهم، شبك يديه بأيديهم وصعدوا معاً إلى نصر جدید”، تقول ضاهر: “تحت ظلال الزيتون مجموعة قصصية سلسة، مرسلة منسابة موجّهة للناشئة، يقرأون فيها ما يشببههم، مقتطفات من سيرة طفولة وصبى سبقت غيرها إلى رجولة مبكرة. في يومياتهم، ألعابهم، ضحكاتهم قسمات وجوه لأطفال يُحسنون محاكاة الرجال، ويمهدون الرجولة تعزف بأصابع مدماة ألحان النصر”.
يقودنا هذا إلى القول أن أدب ضاهر -كحالِ الأدب المقاوم- إثراء للثقافة الإنسانيّة وحربٌ على حروب التمييع والتشويه، بل جهادٌ دفاعيٌ واجبٌ عن ثقافتنا وخصوصياتنا بوصفنا أمة لها تراثها الفريد في الفداء والحياة، حياة الكرامة. نجحت ظاهر في خوضِ نضالها الثقافي التي وصفت في القرآن بـ: “كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا (25)” (سورة إبراهيم).
أ.ش