يبلغ أمير عامين. انتشرت صورته بثيابه الخضراء يتوسطها رسم لـ «ميكي ماوس»، الابن الأول لوالت ديزني، الذي لم تخجل شركته من التبرّع بـمبلغ مليوني دولار للمنظمات التي تقدم الإغاثة للصهيونيين. تدعم المؤسسة احتلالاً يقتل الأطفال، وهم مستهلكوها الأساسيون. شقيقه حسن، ابن الثانية عشرة، يظهر بصورته الأخيرة بثياب الكشاف.
استشهدا ووالدتهما أمس في غارة صهيونية على منزلهم في بلدة الصوانة في جنوب لبنان. لم تنتشر صورة الأم، ربما لأنّ موت الصغار أشد وطأة من الكبار. صور أطفال غزة وأطفال الجنوب ثقيلة علينا، للقرب الجغرافي، والعلاقة التاريخية، وصلة الدم والقرابة، وتشابك الصراع مع عدوٍ واحد. لأنهم أبناؤنا، أصدقاؤنا وأقاربنا. منذ عام 1948، لم يحظ أطفال الجنوب بطفولة شبه طبيعية. اعتادوا أصوات الطيران، والقصف والدمار والتهجير الدائم.
لا ألعاب لأطفالنا، ولا حلوى، بل موت وبكاء، وجنازة طويلة لا تهدأ، نشيّع صغارنا، وموت طفل هو صعود نجمةٍ إلى السماء. تعلقوا أمامنا، منذ مجزرة قانا الأولى عام 1996 والثانية في عدوان تموز 2006. من أعطى الحق بقتل الصغار؟ ظلم البشرية، ولا عدالة الطبيعة، ووحشية المحتل. وإن كان الموت سُنة الحياة، فموت في الحرب أفظع صوره.
تتمتع صور جثث الأطفال بقوة عاطفية وسياسية رهيبة، لأن معظم الناس يتفقون على أن موتهم أمر لا يطاق. صورة جثة الشهيد أمير محسن قاسية، لكن غير ضرورية، ولا تخدم في الحرب ضد الصهاينة. هم لا يخجلون بإجرامهم، يرسلون أطفالهم لتوقيع الصواريخ التي ستقتل أطفالنا. وإن كنا نمتاز عنهم، بأننا أصحاب قلب وإنسانية.
بعد قصف رفح في 12 شباط (فبراير)، وصلتنا صور الإجرام الصهيوني، وأقصاها، صور لنصف جثة طفلة صلبت على حائط. لا نعرف من هي، وفي رمزيتها، تظهر صورة السيد المسيح الذي أمر بيلاطس البنطي بجلده وصلبه، وتخلى عنه العالم، كما تخلى اليوم عن فلسطين كلها، وعن شعب المسيح، هو الذي قال للنساء اللواتي كنّ يندبنه «يا بنات أورشليم لا تبكين عليّ، بل ابكين على أنفسكن وأولادكنّ. فإن كانوا قد فعلوا هذا بالغصن الأخضر، فماذا يجري لليابس؟» لا وقت لنساء فلسطين للبقاء على أنفسهن، ورثاء أزواجهن وأطفالهن، لا قدرة على مساندة عزيز، بين القصف والقصف، يسير عدّاد الشهداء، والعالم يعد.
ليست هذه الصور الوحيدة للحرب على قطاع غزة وجنوب لبنان، لكنها الأقصى. كثيرة هي مشاهد الأطفال تحت الأنقاض، في نعوش حملها ذووهم، وأخرى لصغار يهربون من الموت، يبكون ويرتجفون خوفاً، ومنهم من تسمّر مكانه من كثرة القلق والتشنج.
متابعة صور الشهداء والحرب تدجّن الدماغ، ويغدو الموت فعلاً عادياً ويوميّاً. يجب أن لا نعتاد المشهد، لكننا اعتدناه، لتأتي “إسرائيل” بالمزيد من الإجرام كي لا نعتاد.
تقتل إسرائيل أطفالنا في غزة وجنوب لبنان، وتنتشر صورهم، حزناً وغضباً، ولو أتى الأمر على حرمة الموت. من أعطى الصلاحية بنشر صور أشلائهم؟ الغضب واللامسوؤلية، والحاجة إلى التقاط شعبية على دم الصغار، وفي سيناريو متفائل، للقول للعالم بأنّ أطفالنا سلبت منهم إسرائيل الحياة.
غالباً ما تمتنع وسائل الإعلام عن نشر الصور التي يمكن التعرف فيها إلى وجوه الموتى، احتراماً للضحايا وعائلاتهم، لكن هذه القيود الأخلاقية غير موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي. تمتلئ هذه المواقع بالدم، بصور الأطفال الشهداء، بصور آبائهم الحاملين أشلاء صغارهم.
كانت وسائل الإعلام تفكر ملياً في الصور التي يمكن نشرها للعامة. لقد رُسمت الخطوط ثم تمّ تجاوزها، لكن كل المفاهيم المتعلقة باحترام الموتى، تمزقت مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي.
ربما يريد ناشرو هذه الصور إظهار فظاعة الحرب، وقد يكونون في الواقع مذهولين حقاً، ويشعرون أن الحاجة إلى نقل هذه المعلومات المرئية، تضعهم على أرضية أخلاقية عالية لا تقبل الجدل.
بعد حرب الخليج الفارسي، كتب الفيلسوف الفرنسي جان بودريار سلسلة مقالات، نشرت عام 1991، قال فيها إنّ هذه الحرب لم تحدث في الواقع، وكانت حجته أن ما حدث لم يكن حرباً بقدر ما كان مذبحة جوية من جانب واحد، تم مسحها عبر السيطرة الإعلامية المكثفة.
إن ما رآه الناس في الغرب، كان يسمّى البث المباشر للصواريخ، والهجمات الجوية التي تغذيها أشكال جديدة من التكنولوجيا، سواء كان صاروخ باتريوت أو القاذفة الشبح.
يومها صوّرت الحرب، ونقلت للمشاهد الغربي كأي منتج آخر، لينال الاهتمام كأي سلعة، بين مرحّب ورافض ولا مبال. البائعون كانوا على شكل جنرالات وخبراء عسكريين. بيعت حرب الخليج الفارسي للشعب الأميركي كعرض للتكنولوجيا العسكرية الأميركية، فيما الحرب على قطاع غزة وجنوب لبنان هي بمثابة إنتاج للصور المروعة.
أوضحت الحرب الأخيرة أنّ العالم يستجيب لصور الأطفال المقتولين، فهي تحمل قدراً هائلاً من الثقل، لكن يجب التعامل معها بمسؤولية، من دون إخفائهم باسم الجدية والأخلاق، فالمحرّمات المتعلقة بإظهار آثار هذا العنف بشكل مطلق، ليست مجرد علامة على المجتمع المتحضر أو الذوق الرفيع، إنما هي نظرية أولئك الذين يريدون إبقاء كل شيء مجرداً، لا يريدون الانتباه لأي أمر خارج دائرة اهتماماتهم الضيقة.
لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن تكون الصورة مجرد وسيلة لتصوير الرعب فقط. لكن لا ينبغي لنا أن ننكر هذه الصور عن القراء، لتجنّب إزعاجهم في حياتهم السلمية ببساطة، بينما تحدث جرائم بشعة في أماكن أخرى.
يجب على كل شخص يعيش في سلام أن يقرر ما إذا كان يريد أن يرى أهوال الحرب والدمار. وبوسعه أن يغضّ الطرف عن ذلك، ولكن لا ينبغي للرقابة الذاتية أن تعادل الافتقار إلى التعاطف أو الاحترام.
أحدثت صور الشهداء الأبرياء التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، صدمةً للرأي العام الغربي. لم تتمكّن القوات الصهيونية بكل جبروتها من منع انتشارها. لكن كل هذا الغضب لم يوقف المذبحة.
نشر الصور جزء من حالة الاعتراض والرفض لسلطة المحتل. دليل للذاكرة والتأريخ للحرب ووثيقة حرب. لكن النشر على نطاق واسع من دون قيود، يضرّ أكثر مما يفيد. لا عدل في نشر صور أشلاء أطفال والقول لذويهم وأقاربهم بأنّ المشاهد الأخيرة لأحبائهم باتت مادة للتبادل الافتراضي.
مَن رحل، لن يشاهد نفسه على الشاشة، ولا يفكر الناشر باحتمال وجود أحد من أفراد أسرته مكان الشهداء. دروس الأخلاق في فترة الحروب، ضرب من الفوقية، لكنه تذكير ضروري بالخيط الفاصل بين التأريخ والمتاجرة.
ثقل الصورة لا تتحدد بوضوح المعنى، أي صور أكياس الجثث كفيلة بنقل الرعب وما خلفه من قتل ودمار، فالمجهوليّة التي تعطيها الحقائب والفراغ الأبيض، تلعب على مخيلة المشاهد، من دون أي تدخل سياسي أو تحيزات أو روايات.
يمكن أن تحتوي الأكياس البيضاء على أطفال أي شخص، من أي بلد، فإخفاء الهوية أمر عالمي، تخلق نوعاً من لُحمة بين المتلقّين، هنا لا تفصيل للموت، ولا صراعات واتهامات.
لننشر صورهم فرحين، وهم يلعبون ويدرسون، وإن كانت بعض الصور ستأخذ جوائز عالمية في التصوير لبُعدها الرمزي وقدسيتها، لكن الأفضل إبقاء أطفالنا في الذاكرة كما كانوا قبل فرض المشيئة الصهيونية عليهم.
أ.ش
غادة حداد