أحد هؤلاء، هدى الخالدي (54 عاماً)، النازحة عن مدينة غزة، هي أمّ لتسعة أبناء وجدّة لأربعة أحفاد، تتولّى رعايتهم، بعدما اضطرّت للنزوح المتكرّر من مكانٍ إلى آخر. تقول هدى: «قضينا بداية الحرب في غزة، ثم دخلنا النصيرات عبر الممرّ الآمن، ولم يُسمح لنا بحمل أيّ شيء معنا، فاشترينا كل ما يلزم من الوسطى». وتضيف: «قبل شهرين تقريباً، قُصف البرج الذي نزحنا في إحدى شققه السكنية لدى أقارب لنا، وفررنا من دون أن نحمل معنا أيّ شيء، فيما أُصيب ثلاثة من أسرتي. جئنا إلى رفح بخفّي حنين والتجأنا إلى أهل الخير الذين ساعدونا في توفير أساسيات لنصب خيمة على الرصيف، وها نحن اليوم مهدّدون بنزوح جديد إلى المجهول». تضع هدى يدها على خدها، وهي تسأل: «أين سنذهب؟»، وهو السؤال نفسه الذي يراود جميع نازحي رفح المتكدّسين في مساحة لا تتعدّى الـ55 كيلومتراً مربعاً، أي أن 27 ألف إنسان يعيشون في كلّ كيلومتر مربع، وهو ما يُقدّر بأعلى كثافة سُكانية في العالم.ويعيش هؤلاء أوضاعاً مزرية داخل خيمٍ بلاستيكية، أو على الأرصفة والشوارع في تجمّعات غير منتظمة، فيما غيرهم يقضون أيامهم في مدارس مكتظّة بأضعاف طاقتها الاستيعابية، وقسم ثالث لجأوا إلى بيوتٍ تضمّ أصلاً عشرات الأسر داخل جدرانها. ويعني ما تقدّم أن أيّ صاروخ إسرائيلي يسقط هناك، قد يتسبّب في إزهاق آلاف الأرواح دفعة واحدة، في ظلّ الانفجار السكّاني في رفح. ويتجلّى هذا الانفجار خصوصاً في مركز المدينة، «دوار العودة»، الذي يتّسم بازدحام مروري كبير، علماً أنه يمتدّ من العودة شرقاً إلى منطقة العلم، وغرباً إلى شاطئ البحر. وإضافةً إلى ذلك، تسبّبت عمليات النزوح المتكرّرة في تردّي أوضاع الناس الإنسانية والمعيشية؛ ففي كل عملية نزوح جديدة، يضطرّ الغزّي للرجوع إلى النقطة الصفر، لناحية تأمين سُبل المعيشة كالإيواء والفراش والأغطية والملابس الشتوية وغيرها الكثير.
نموذج من أولئك، داليا اسليم (35 عاماً)، وهي أمّ لثلاثة أطفال، نزحت عن مدينة غزة إلى خانيونس في الأسبوع الأول من الحرب، بينما بقي زوجها هناك، وعرفت بخبر استشهاده مع ثلّة من الأقارب والجيران قبل نحو 40 يوماً. تعيش داليا اليوم ظروفاً استثنائية، بعدما نزحت هلعةً مرّة أخرى، قبل بضعة أيام، من محيط «مجمع ناصر الطبي» في خانيونس، إلى إحدى المدارس بالقرب من «مستشفى الكويت» في رفح، حيث لا تتوفّر لديها أدنى مقوّمات الحياة وأساسياتها في ظلّ هذا البرد القارس. تقول اسليم التي التجأت إلى أختها النازحة مع أبنائها الستة وأربع عائلات أخرى في أحد الفصول داخل مدرسة، إنّها أُنهكت واستُنزفت مادياً ومعنوياً بفعل تكرار عمليات التشرّد من مكانٍ إلى آخر، وقد فرّت من الموت في غزة، إلا أن ذلك تكرّر عدّة مرّات في خانيونس، والآن في رفح، فيما تخشى من نزوح خامس إلى الوسطى، كما فعل الكثيرون غيرها.
ويبدو مشهد نزوح الناس من رفح إلى الوسطى مروّعاً ومثيراً لقلق الكثيرين، على رغم تهديدات الاحتلال المتكرّرة بدخول برّي إلى الأولى ينذر بكارثة إنسانية. ولذا، يفضّل هؤلاء مواجهة الموت بصدورهم العارية، بعدما سُدّت كلّ الطرق أمامهم. ويقول مراد جبر (50 عاماً)، لـ»الأخبار»، إنه قرّر انتظار الموت في رفح ولا ينوي الرحيل منها، فيما يتساءل مستهجناً غلاء الأسعار، ولا سيما السولار: «هل يُعقل أن تكلفة نقل عائلة باحتياجاتها من رفح إلى الوسطى تصل إلى ألف شيكل (280 دولاراً)؟!». ومراد هو أحد سُكان منطقة الشابورة في مدينة رفح، وقد خرج وعائلته قبل بضعة أيام تحت وابلٍ من القصف والقذائف على إثر عملية تحرير أسيرين إسرائيليين من المنطقة التي يقطنها، فيما عاد إلى بيته الذي تضرّر جزئياً، بعدما أُصيب عدد كبير من أفراد أسرته، غير أنّه آثر البقاء في منزله في ظلّ عدم وجود بديل ينزح إليه.
أ.ش