لم أكن أعرف حين التقيته وقد تربعت ابتسامة على وجهه حتى بدا وكأنه حديقة زهر، سبب تلك السعادة، لقد كان حمدي سعيداً حقاً وهو يخبرني بأنه نجح بعد أكثر من شهرين على استشهاد عائلته كلها، في انتشال جثامينهم من أسفل ركام المنزل، وواراهم الثرى أخيراً.
طلب مني أن أبلغ شقيقه عمر بالنبأ: “يوسف قلو دفنا أختك سجى وإمك وأبوك وأختك وولادها الخمسة، الحمد لله قدرنا نطلعهم”. قال ذلك، وقد غمرت وجهه بهجة ولمعت عيناه على نحوٍ لم أشاهده عليه منذ ذلك المساء.
قبل نحو 75 يوماً من لقائي الأخير بحمدي، نفذ الطيران الحربي الإسرائيلي حزاماً نارياً في منطقة السكة وبلوك 5، شرقي مخيم جباليا، طاول القصف آنذاك، أكثر من 17 منزلاً، تحولت جميعها إلى مقابر لسكانها، انقضت أيام الهدنة السبعة، وتوغلت دبابات الاحتلال في المنطقة نفسها التي شهدت القصف، ومذاك، لم يحظَ الشهداء بدفء التراب.
رحلت كل العائلة، نجى وليد، وشاءت الأقدار ذاتها أن يكون شقيقه الزميل عمر، في رحلة عمل في بيروت، وهكذا، لم يتبقَ من العائلة سواهما، وأصبحت أنا، حلقة الوصل الوحيدة بين الشقيقين، في ذاك المساء، كان عليّ أن أخبر عمر، أن العائلة كلها رحلت، وقبل أيام، كان عليّ أيضاً أن أتكبد عناء زف البشرى: “دفنا أهلك يا عمر”.. يا لسعادة ما أنا فيه!
وعمر، الذي كتب مراراً عبر صفحته الخاصة في “فيسبوك” عما يعيشه مغترب مثله، لم تعطه الحياة فرصة لا للحزن ولا للوداع، فقد علق على الخبر كاتباً: “بعد أكثر من سبعين يوماً على اللحظة العظمية، جرى إخراج جثامين أهلي وبقية الشهداء من قلب الركام، أي ظلم هذا الذي نعيشه، حد أن تدس الحياة في جنبات خبر كهذا الخبر، شيء من الطمأنينة.. لن نغفر ولن ننسى”.
غيرت الحرب شكل البشريات وطبيعة المناسبات التي تستحق الفرح، ذلك الأخير، ليس هو ذاته المعهود، ليس مرتبطاً بالزواج أو النجاح أو الميلاد، إنما بتفكك حلقة واحدة من حلقات الهموم التي تتكدس فوق الأكتف، ويفترس التفكير فيها العقول.
لذا، ستتفهم لماذا وزعت الحاجة أم محمد التمر على كل المارة الذين مشوا من أمامها، وهي تجلس على كرسيها على عتبة البيت، في مخيم جباليا: “والله يا بنية، بنتي استشهدوا كل ولادها، وبقيت لحالها مصابة بكسور في الجمجمة والأطراف، ومن شهرين بنحاول نطلعها تتعالج في مصر، هيا برفح استضافوها ناس أوادم، واليوم الصبح سافرت، لو عندي غير كيلو هالتمر في البيت، كان وزعته، شكراً لله على فضله وفرجه”.
في الشارع ذاته، كان يقف حسين، بذات الأناقة التي اعتدتها عليه أثناء دراستنا الثانوية قبل زهاء ثمانية عشر عاماً، أن تتصادف مع أشخاص انقطعت أخبارهم، ولا يزالون أحياء، هو حدث كفيل بالانتقال بحالتك المزاجية إلى مربعٍ آخر: “لسا نفس العطر يا أبو علي، لاكوس كلاسيك، فعلاً خسئت “إسرائيل” وجيشها”، قلت له وهو يغمرني بفيضٍ من أحضان، قبل أن يحكي بدون أن تفارق وجهه تلك الابتسامة العذبة: “راحوا اخواني الستة، باقي أنا عايش، طلعوني من تحت ركام البيت، من شهرين وأنا في المستشفى، تحاصرت في الإندونيسي وفي كمال عدوان، ولسا في العمر بقية”.
قال الشاب الذي أمضى حياته العملية متنقلاً من بلدٍ إلى آخر، وهو يعمل مبرمجاً في كبرى شركات الهايتك، وأكمل قبل أن أداهمه بعناقٍ آخر: “الشباب ما قصّروا، استشهدوا بعد ما أبدعوا، قاسم وأحمد وعاصم – أسماء مستعارة – خاضوا مواجهات شرسة، بتعرف أحمد أصغر واحد في اخواتي، جدع من النخبة اشتغل شغل بيرفع الراس (..) سعيد والله بنهاية حياتهم المشرفة، وكل ما أسمع شو عملوا في الجيش، برفع راسي أكثر، بقدر أقلك، جابوا حق إمي وأبوية وخواتي كلهم قبل ما يروحوا لوجهه الكريم”.
يوسف فارس
أ.ش