بات للحروب اليوم تكتيكاتها وفنونها، فمع قرقعة السلاح وأزيز الرصاص وهدير الطائرات في الميادين، ثمة حرب من نوع آخر، حرب ثقافية نفسية تخاض رحاها في ساحات الوعي، سلاحها المصطلحات بما لها من أثر نفسي ومعنوي كبير. أحد مصاديق تلك الحرب نجدها مع تأسيس الكيان الصهيوني الغاصب عام 1948 يوم أدرج المؤرخ والمفكر السوري قسطنطين زريق مصطلح “نكبة” على القاموس السياسي العربي، كتعبير عمّا حل بالفلسطينين آنذاك، ليعود ويحضر مصطلح آخر بعد حرب 1967 وهو مصطلح “نكسة”، الذي ابتدعه الكاتب المصري الراحل محمد حسنين هيكل للتخفيف من وطأة هزيمة العرب أمام “إسرائيل” في حرب 1967 والإيحاء بأن ثمة أملًا في القيام من جديد.
أحد فروع حرب المصطلحات تسمية الحروب بأسماء متنوعة. تلك التعابير بحد ذاتها تختصر دلالات تحمل في طياتها:
أولًا: معاني الغطرسة والقوّة والغضب عند الصهاينة (عناقيد الغضب – الرصاص المصبوب – عمود السحاب – الجرف الصامد- السيوف الحديدية – حارس الأسوار..)، بما توحي به تلك التسميات من محاولات العدوّ لإظهار صلابته وتفوقه العسكري، في محاولة لكسب معركة الوعي بمواجهة أعدائه.
ثانيًا: تعبر عن المرحلة الزمنية التي أطلقت فيها (عملية الليطاني، سلامة الجليل..)، ففي تلك المرحلة الزمنية كان جيش العدوّ الصهيوني يروج أنه يجتاح لبنان بفرقة موسيقية، وكان هاجسه كما يزعم من تسميات عملياته “حماية الجليل”، لذا كان يقوم بالاجتياح لتأمين مناطق عازلة، وبمعنى آخر كان يستخدم المناطق اللبنانية المحتلة كدروع بشرية لحماية مستوطنيه. لكن سرعان ما انقلب السحر الصهيوني على الساحر بفعل المقاومة، فبتنا نسمع اليوم في العام 2024 انتقادات من جنرالات ومستوطني جيش العدوّ وهم يؤكدون أن “الحزام الأمني” بات في “إسرائيل” وليس لبنان (رئيس المجلس الإقليمي في الجليل الأعلى، غيورا زلتس – العميد في لواء “غولاني” سابقًا غيورا عنبر – رئيس مجلس “مرغليوت” إيتان دافيدي..). وبذلك تكون المقاومة قد نسفت بجهودها نظرية “الحائط الحديدي” العائدة للأب الروحي للصهيونية الحديثة زئيف جابوتنسكي والتي أرساها من عام 1923.
هنا يأتي دور المقاومة التي أبدعت في حرب الوعي، فخطت خريطة معرفية إدراكية بعد أول انتصار تاريخي لها، بنى سرديته على تجربة طويلة من العمل المقاوم، أثمرت نصرًا وتحريرًا مؤزرًا عام 2000، فكانت عبارة “إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت”، التي أطلقها الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله، أولى البشائر باستنهاض الوعي، لإخراجه من قمقم الهزيمة الذي قبع فيه منذ عام 1967، لتأتي حرب تموز 2006 وتكرس هذا النموذج وتظهر فاعليته ليس فقط في التحرير، إنما في صياغة استراتيجية دفاعية فاعلة، ليحل بعد ذلك السابع من أوكتوبر 2023، ويحاكي، بطوفان الأقصى، نظيره قبل خمسين عامًا فيفاجئ العدوّ كما فاجأته الجيوش العربية عام 1973، مسجلًا بذلك ثاني البشائر، بأن زوال “إسرائيل” بات قاب قوسين أو أدنى، وهو ما ارتسمت ملامحه في سرعة انهيار جيش العدوّ على تخوم غزّة يومذاك.
فرع آخر من حرب المصطلحات، يبرز في التوصيفات التي أطلقت على الجيش “الإسرائيلي” وعظّمته بأنه “الجيش الذي لا يقهر” و”أقوى جيش في الشرق الأوسط”. كلها كانت مدروسة بسياق حروب نفسية لكي الوعي العربي وإبقائه قابعًا في قعر الهزيمة والنكبات والنكسات، قانعًا ومقتنعًا أن لا سبيل للصحوة والنهوض، قدره الخضوع والخنوع والقبول بما يملى عليه (استجابة مثالية لشروط الهزيمة). هذا الانكسار ولد ثقافة الهزيمة (ثقافة الموت)، التي ولّدت بدورها قناعات باستحالة هزم المحتل، فـ”العين لا تقاوم المخرز”. ومن حجر الأساس هذا بدأ تضليل الشعوب لجعلها أكثر قابلية لتقبل نتائج الهزيمة والانقياد ضمن مشاريع تسووية تآمرية تربط استعادة الحقوق المغصوبة بما يسمىى “السلام”، تجميلًا لخيار الاستسلام.
سار بعض التيئيسيين المنهزمين في هذا النهج، فباعوا قضايا أمتهم وفلسطين في ركاب “أوسلو” و”كامب ديفيد”، و”وادي عربة”، ولولا 7 أكتوبر لاستكملوا الصفقة، وقايضوا ما تبقى منها بالتطبيع وفتات المساعدات الأميركية. فلولا المقاومة، التي أجهضت كلّ صفقات القرن، ومشاريع التسوية، وأعادت استنهاض الأمة الإسلامية من سباتها العميق لكانت غزّة والقدس والضفّة الغربية اليوم في عداد خبر كان. وحدها المقاومة ثبتت منذ التحرير عام 2000 أن “إسرائيل” أوهن من بيت العنكبوت، وبالإمكان هزيمتها وكسر هيبتها، وأن العين باستطاعتها أن تقاوم المخرز، وأن كلّ ما كتب وروّج له من مصطلحات وأفكار كان بأقلام مأجورة هدفه تثبيط معنويات الشعوب العربية والإسلامية وكسر إرادتها كي تسلم وترضى بالمحتل بمحيطها لا بل تطبّع علاقاتها الاقتصادية والتجارية والسياحية معه دون أي اعتبار أو قيمة لقضايا الأمة وحقوقها.
في حرب المصطلحات بين المقاومة والمحتل، كان جيش العدوّ يسعى دومًا لتمجيد قواته و””الموساد” بأساطير حول بطولاتها الخرافية، لاعبًا على الوتر النفسي بدءًا من أسمائها “غولاني” و”جفعاتي”،… لإرعاب وإرهاب أعدائه وإحباطهم على المستوى النفسي قبل إقدام قواته. وقد فهم حزب الله عدوَّه ودرسه جيدًا، وهو اليوم يحاربه بنفس السلاح، فيكفي أن يرتبط اسم فصيل من قوات الحزب باسم “الرضوان” ليدل ذلك على حجم الأثر النفسي لدى العدوّ الذي يتركه إرث الشهيد الحاج عماد مغنية حتّى بعد استشهاده، وهُم المطبوع في أذهانهم “أن دمه سيخرجهم من الوجود”.
هذا على صعيد التسمية، فكيف لو غصنا في عديد وعتاد تلك القوات وما تمتلكه من خبرات هائلة، فضلًا عن ارتباط اسمها بمعادلة “الجليل”، وما يعنيه ذلك من دلالة على أن مهمتها هجومية اقتحاميه للمستوطنات الشمالية، ما جعل المهمّة سهلة وقاب قوسين وأدنى من التحقق العملي، خصوصًا بعد ما جرى مثيلًا لها في 7 أكتوبر 2023 في غزّة؟
على طول خط مسار المقاومة، كانت تواجَه بحرب مصطلحات وأحجيات تُلقى في وجهها لحرف مسارها، أو توهينها، لكنّها لطالما كانت تندفع أكثر صلابة وقوة إلى الامام بإرادة واضحة خلف هدف محدّد، لتثبت في نهاية المطاف أن خيارها الخيار الصائب، فهم شككوا في قدراتها على التحرير فحررت، وشككوا في قدراتها على الدفاع فدافعت، وشككوا ولا يزالون في قدرتها على الهجوم فهاجمت، واليوم يقف الكيان كله على “إجر ونصف” بجشيه ومستوطنيه الذين لا يرغبون بالعودة خشية من إصبع السيد يوم يأمر قوة الرضوان باقتحام “إصبع الجليل”.
علي عوباني
أ.ش