لم يكن مستغرباً ما أعلنته دائرة الإحصاء الروسية، لجهة أنّ النمو السنوي في البلاد تسارع إلى 5.5 بالمئة، الأمر الذي يُعدّ أسرع وتيرة نمو في الاقتصاد الروسي منذ أكثر من عقد من الزمن، وهذا يدلّ إلى أنّ القطاعات الرئيسية في الاقتصاد الروسي، تكيّفت وحققت انتعاشاً فاق التوقعات، رغم حُزم العقوبات الأميركية والأوروبية، والتي جاءت بعد العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، في المقابل فإنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وقبيل الحرب بأشهر، عمل على اتخاذ خطوات اقتصادية ساهمت بل وأبطلت تأثير وفاعلية العقوبات، فالنمو الاقتصادي في روسيا وارتفاع الطلب الاستهلاكي، المدعوم بالإنفاق الحكومي الكثيف، للشركات مثل البنوك وشركات صناعة السيارات وشركات الطيران، سمح بإيجاد طرق للتأقلم والازدهار في بعض الحالات، على الرغم من العقوبات الأميركية والأوروبية التي تهدف إلى إلحاق الضرر بالاقتصاد الروسي.
المؤشرات الاقتصادية الروسية تُشير صراحة إلى حالة من التعافي الاقتصادي وازدهار بعض القطاعات الاقتصادية، الأمر الذي لا يدع مجالاً للشك بأنّ العقوبات التي توعد بها الرئيس الأميركي جو بايدن، والذي قال بأنها مصمّمة لخفض اقتصاد روسيا إلى النصف وتحويل الروبل إلى «ركام» كعقاب على حرب روسيا في أوكرانيا في فبراير/ شباط 2022، باتت دون جدوى، لا سيما أنّ المراقب لمسار الاقتصاد الروسي يدرك تماماً بأنّ روسيا تمكّنت وعبر حزمة مضادة للعقوبات الغربية، إلى تحييد أثر العقوبات، ووضعها في إطار اللا تأثير.
في جانب آخر وتعزيزاً لمقومات الاقتصاد الروسي، فقد سعى الرئيس فلاديمير بوتين، إلى تعزيز العلاقات مع دول مثل الصين والهند في الوقت الذي خفض فيه الاتحاد الأوروبي الروابط التجارية مع روسيا، بما في ذلك واردات النفط والغاز، في جولات متكرّرة من العقوبات، لكن المفارقة وبحسب تقارير عديدة أكدت أنّ أوروبا لا تزال تعمل على استجرار الغاز الروسي، والذي لا يمكن الاستغناء عنه أوروبياً، ما يعني التفافاً واضحاً على السياسات الأميركية أولاً، وثانياً فإنّ أوروبا تدرك أنّ السياسات الأميركية تجاهها هي في الأصل تدميراً بطيئاً لعناوين الاقتصاد الأوروبي، في وقت لم تعمل الولايات المتحدة على إسعاف شركائها الأوروبيين ببدائل عن الغاز الروسي.
في جانب آخر وضمن السياق الاقتصادي الروسي، فقد وصل الروبل إلى أدنى مستوياته التاريخية مباشرة بعد بدء الحرب في فبراير/ شباط 2022، لكنه سرعان ما تعافى نتيجة جملة من الإجراءات التي اتخذها المركزي الروسي، لكن الحكومة الروسية أعادت فرض بعض الضوابط على العملة بعد أن تراجع الروبل مرة أخرى إلى 100 مقابل الدولار، مما أدّى إلى انتعاش جعلها الأفضل أداءً بين الأسواق الناشئة في الشهر الماضي، وفي ذات السياق فإنّ القطاع المصرفي الروسي يقدّم أحد أبرز الأمثلة على كيفية تمكن الاقتصاد من التغلب على الضربة الناجمة من العقوبات. فمن المتوقع أن يجني أكبر بنك روسي، وهو «سبيربنك» المملوك للحكومة، أرباحاً قياسية هذا العام، رغم عزله من نظام المدفوعات الدولي سويفت، وفرض عقوبات عليه من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وفي تصريحات للرئيس التنفيذي لـ «سبيربنك»، هيرمان غريف، توقع فيها أن يكون العام الحالي هو الأكثر نجاحاً في تاريخ البنك.
مصرف «سبيربنك» ليس الوحيد في تحقيق الأداء المتميّز، إذ تجاوز إجمالي أرباح القطاع المصرفي للأشهر التسعة الأولى من العام السابق الرقم القياسي السنوي السابق المسجل قبل الحرب، في عام 2021، وقد تصل أرباح البنوك بحسب تقارير إلى أكثر من 3 تريليونات روبل (حوالي 33 مليار دولار) في عام 2023، بحسب تصريحات لـ فاليري بيفن، العضو المنتدب لوكالة التصنيف الروسية أكرا (ACRA).
حقيقة الأمر أنّ العقوبات الغربية على روسيا ورغم دوافعها السياسية، إلا أنّ الولايات المتحدة عملت على تسييس ملف العقوبات بغية الضغط على روسيا، ولإجبارها على تقديم تنازلات سياسية سواء في أوكرانيا حيث المسرح الأميركي الرامي لمحاصرة روسيا جيوبوليتيكياً، أو في سورية حيث الاستراتيجية الأميركية الرامية إلى تقسيم الجغرافيا السورية وإجبار روسيا في هذا الإطار على التماهي مع السياسات الأميركية، لكن روسيا وضمن استراتيجيتها المضبوطة بدقة في شتى المجالات، فإنها تمكنت من وضع العقوبات الأميركية والغربية في قفص بارد، وهذا ما يفسّر التقارير الاقتصادية والأرقام التي تؤكد انتعاش الاقتصاد الروسي، وتحديداً في قطاعي البنوك والصناعات الثقيلة والطاقة، فضلاً عن قطاعات حيوية أخرى.
ختاماً وباختصار شديد، على الولايات المتحدة ابتلاع عقوباتها، فـ أوروبا لا يمكن تدفئتها إلا عبر الغاز الروسي…
د. حسن مرهج
أ.ش