يقدّم «هذا ليس معرضاً» الذي يستضيفه المتحف الفلسطيني في بيرزيت، تجربةً مزعجة لزوّاره. آثار الركام تتمدد على طول مسار المعرض، وعلى الواجهة الرئيسية المقابلة للمدخل، شاشة عملاقة تعرض مقاطع فيديو من مشاهد الإبادة والقتل في غزة. جمع المتحف الأعمال الفنية التي نجت من المذبحة في القطاع، ليقدّمها في معرض مستمرّ طالما أنّ الإبادة مستمرّة. مع ذلك، فإنّ اللون الأزرق الذي يرمز إلى الحداد، يعبّر أيضاً عن جغرافيا أرض فلسطين، والأمل بتحريرها من النهر إلى البحر!
يحتضن المتحف الفلسطيني في بيرزيت حالياً معرضاً فنياً بعنوان «هذا ليس معرضاً» يضمّ أكثر من 300 عمل فنّي قديم وجديد لفنانين غزاويين محترفين ومبتدئين وفقاً لمدير المتحف الفنان عامر الشوملي. تأسّس هذا المتحف في عام 1997 تخليداً للذكرى الخمسين لنكبة فلسطين بهدف توثيقها، لتتغيّر فكرته مع الوقت، إذ لم تعد تقتصر على الحفاظ على الذاكرة، بل تجاوزها نحو النهوض بالثقافة الفلسطينية والاحتفاء بها. ينظر الفلسطينيون إلى نكبتهم كفعل كارثي مستمرّ عصيّ على الاحتواء المتحفي، فالتحدّي ما زال جاثماً على صدورهم وتطلعاتهم بوحشيّة غير مسبوقة، مستفزّاً أقصى أشكال الصمود والمقاومة. استمرار نكبة فلسطين لأكثر من 75 عاماً سمح بهذا الاستدراك بين الذاكرة والتجدد، فقضية تحرير فلسطين والعودة إليها واستعادتها، طالت لكنّها لم تنته، وذاكرة نكبة فلسطين وأرضها وبيوتها وبيّاراتها التي سلبت، وشعبها الذي قُتل وطُرد، هي ذاكرة مفتوحة على الحاضر والمستقبل، وليست ذكرى أقفلت.
يتعرّض الفلسطينيون وقضيّتهم لمحاولات محو وطمس وإبادة مستمرة ظهرت بأقصى وأقسى أشكالها منذ تشرين الأول (أكتوبر) الماضي في حرب مسعورة يشنّها العدو على قطاع غزّة. في حرب الإبادة، لا يستهدف العدو الإنسان الغزّاوي ومقوّمات وجوده فقط، بل أيضاً ذاكرته وصوته وهويته الثقافية. هكذا، أبيدت المتاحف والمراكز الثقافية والكليّات والجامعات والمكتبات والمعمار الأثري ودور العبادة والمعارض الفنيّة والمجموعات التشكيلية والمراسم والفنانون وأعمالهم. شكّل فعل الإبادة صدمةً للفلسطينيين في جميع أماكن تواجدهم خارج غزّة. الضفّة الغربية التي تعرضّت عبر سنوات لسياسات ممنهجة بهدف التحييد والإخضاع عبر تدمير البنى الاجتماعية وكيّ الوعي وهندسته والعقوبات الجماعية والإلحاق الاقتصادي وتفكيك شبكات الصمود والمقاومة، وقعت أسيرة الشعور العالي بالعجز وعدم القدرة على تحقيق استجابات قويّة ومؤثرة وضاغطة نحو وقف الإبادة الفوري، رغم استمرار أعمال المقاومة الضفاويّة وأعداد الشهداء والأسرى وحجم الدمار والحصار الكبير الذي طالها.
إلّا أنّ العجز عن فعل ضفّاوي يرقى إلى الحدث الغزّاوي الآني، لم يمنع المتحف الفلسطيني من الفعل بقدر الإمكان، في تظاهرة تبعث رسائل الأمل لغزّة وفنانيها، وتعلن استمرار حياتهم رغم الموت، ومواجهة سياسات نزع الإنسانية عن الفلسطيني وشيطنته بتوكيد البعد التاريخي والحضاري والإبداعي لقضية فلسطين. قدم المتحف الفلسطيني جسده امتداداً لمؤسستين من غزّة هما «مجموعة التقاء الفن المعاصر» و«محترف شبابيك للفن المعاصر» اللتين يعود لهما فكرة وتصميم المعرض، فاختفى الشعار الرسمي (اللوغو) للمتحف الفلسطيني من واجهات المعرض، لتعلو شعارات المؤسستين من غزّة، كأنها رسالة تقول: إن أبيد جسدكم، نحن جسدكم… لسنا نتضامن مع غزّة، نحن غزّة.
توثيق المذبحة
عند سؤاله عن مساحة «نساء غزة»، يعلّق بهاء الجعبة، مدير وحدة المجموعات والترميم في المتحف الفلسطيني والقيّم التراثي على المعرض، «بأنّ الحروب المتتالية على القطاع غيّرت من صورة غزّة في المخيّلة الجماعية والوعي اليومي للفلسطينيين، حتّى كدنا ننسى عمق تاريخ هذه البقعة الجغرافيّة ودورها الحضاري في صناعة هويّتنا وموروثنا. يأتي هذا المعرض ليُعيد إلينا الصورة الحقيقيّة والأصيلة لغزّة وقضائها، بتاريخها العريق، وتراثها الغني، ومقولتها الإنسانيّة، وبأسماء مُدُنها وقُراها قبل ما بات يُعرف اليوم باسم «غلاف غزّة» التي هجّر الاحتلال الإسرائيلي أهلها ليصبحوا لاجئين في مخيّمات القطاع، وبنى مستوطناته على أنقاضها». ويضيف: «يضيء المعرض على الجانب المنسي من حكايات نساء غزّة اللواتي أصبحن رمزاً للفقد والخسارة، فالمرأة الأمّ هي أكثر من يَفقد ويُفقد، ويسهم في إبراز منجزنا الحضاري كجزء من حكاية طويلة من الإبداع واللجوء والنزوح والتضامن والترابط بين المدينة والقرية والبادية، خارج الحدود السياسيّة التي فرضها الاحتلال، مظهراً التنوّع في أشكال التطريز وبُنية الأثواب والقماش المغزول في المجدل والحُليّ في غزّة وقضائها، ليعطي صورة صادقة عمّا أنجزته المرأة الغزيّة، وما أضافته إلى التراث الفلسطيني وما يرتبط به من عادات وتقاليد. نعرض هنا أثواباً من المجدل وهربيا وغزّة ودير البلح وخانيونس، وأغطية رأس وبراقع بدويّة من جنوب وادي غزّة، وحُليّاً من مناطق مختلفة».
أمّا عن مساحة «المفقودون»، فتقول الفنانة الفلسطينية الشابة راما الأشقر، بأنّ «المساحة تعرض مجموعة من أعمال تيسير بركات أنتجت على فترات زمنية مختلفة، وتتحدث عن المفقودين تحت الركام في غزّة. في بعض الأعمال، قد تلمح شخصاً أو شبحاً ذا عيون جوفاء، كأنّه ينظر في كل شيء ويسائل كل شيء، وليس واضحاً ما إذا كان هذا الشخص أحد المفقودين الذي ينظر ويسائل عجزنا وقلّة حيلتنا ويستفزّ تحرّكنا واحتجاجنا، أم أنّه شخص ينظر خارج اللوحة بحثاً عن المفقودين، كأنّه يفتّشنا بحثاً عنهم، كأننا نحن المفقودون وهم الموجودون». أليس في هذا نداء استغاثة من غزّة التي تفتقد فعل الضفة الغربية وفعل العالم لإيقاف الإبادة؟ العالم مفقود بالنسبة إلى مفقودي غزّة! تستطرد الأشقر: «أصحاب هذه الأعمال يتعرضون الآن للإبادة. منهم من استشهد، ومنهم من فقد عائلته وأحبابه، ومنهم من خسر أعماله وتدمّر مرسمه، بالتالي فإنّ هذه اللوحات ناجيات. بعضها يُعدّ العمل الأخير الناجي من الإبادة».
نجح المعرض في تعريف راما الأشقر الفنانة العشرينية، ببعض أبناء وبنات جيلها من فناني غزّة. تتواصل معهم دوماً بحدود توافر وسائل الاتصال والإنترنت في غزة. تتساءل عن شكل حياتهم ومستقبلهم بعد كل هذا الدمار والقتل. ترى أنّ الفنّ الغزاوي مجهول لا صوت له ولا منبر، بسبب سياسات التقسيم الجغرافي والتفتيت الديموغرافي التي مارسها المشروع الصهيوني على عقود، والحصار الطويل الذي فرض على غزّة ووضع أهلها في أكبر سجن عرفه التاريخ. الفن بطريقة ما، يشكّل احتجاجاً ضد تقسيم الأرض وعزل الإنسان وتفتيت الهوية.
كيف تفقد شعباً كاملاً؟
تحمل إحدى اللوحات اسم «التيه» وعليها رسم لآليات عسكرية ومركبات، إضافة إلى أكثر من 16 رسماً من الأكريليك وعلى القماش تحمل كل منها عبارات اختارها الفنان للتعبير عما يجري في غزة ومن بينها: «كيف تفقد أكثر من سبعة آلاف إنسان؟ أمطرهم بالغارات واحداً تلو الآخر، وأمنع انتشالهم من تحت الركام»، أو «كيف نفقد شعباً من مليونين ونصف المليون إنسان؟ أقطع عنهم الاتصالات والكهرباء والماء والحياة».