,ندّد بما سمّاه صمت العالم، متّهماً الولايات المتّحدة بالتواطؤ مع الإبادة الحاصلة في القطاع، ومعرّياً ادعاءات أوروبا بالدفاع عن حقوق الإنسان. أخيراً، حثّ الجمهور على تقديم شهادته حول ما يحدث في غزة، مُصرّاً على أهمية توثيق الشهادات بصفتها وسيلةً للمقاومة الأخلاقية والتاريخية في ظلّ الاستعمار الاستيطاني
قال الفيلسوف الألماني ثيودور أدورنو (1903 ــــ 1969): «بعد أوشفيتز، كتابة الشعر أمر مستحيل». لكن أدورنو رحل قبل أن يرى الأفعال الوحشية في غزة لمن يدّعون أنّهم أحفاد الناجين من أوشفيتز! نتساءل يومياً ماذا حلّ بالقِيم وحقوق الإنسان والكليشيهات التي دائماً ما تشدّق بها الغرب أمام هول ما يحدث في فلسطين من مجازر ومآس يشيب لها الولدان. لقد صمتت معظم النخب الثقافية أمام هذه المقتلة، وبعضها اختار الوقوف في صف القاتل وتبرير الإبادة التي يتعرض لها الفلسطينيون على غرار الفيلسوف الجنوب أفريقي ديفيد بيناتار الذي اعتبر “إسرائيل” ضحيةً لهجمات «حماس» في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023. أما بعضهم الآخر، ففضّل أن يتخذ موقفاً رمادياً زئبقياً واضعاً الاحتلال و«حماس» في كفة واحدة، كالفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجك، أو حتى بعض الأدباء العرب المعروفين عالمياً كالطاهر بن جلون وياسمينة خضرا.
لحسن الحظ لا زالت بعض الأصوات الحرّة تُسمع في هذا العالم الوقح، لعل أهمها يعود إلى الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران (1921) المُتحدِّر من أصول يهودية إسبانية الذي يُعد من أهم مفكّري القرن العشرين. هذا الفيلسوف المنتمي إلى المدرسة البنائية، صاحب تاريخ طويل من النضال الفكري والسياسي. ناهض الفاشية أثناء الحرب الإسبانية والتحق بالمقاومة الفرنسية ضد ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، ثم انضم إلى الحزب الشيوعي الفرنسي، ليعود وينسحب منه في عام 1951. ألّف موران عدداً من الكتب أشهرها «المنهج» الذي أمضى 35 عاماً في كتابته. كما قدّم في حياته الطويلة إسهامات جليّة في علم الاجتماع والفلسفة والسياسة، وتجاوزت أعماله التخصّصات وأثرت بشكل كبير في التفكير الفلسفي المعاصر، وخصوصاً في ما يتعلق بفهم الأنظمة المعقّدة والعلاقات بين الأبعاد المختلفة للواقع.
في الجزء الثاني من خطابه، ندّد صاحب «ثقافة أوروبا وهمجيتها» بما سمّاه صمت العالم، مشيراً إلى غياب ردود الفعل والإدانات الدولية القوية تجاه ما تقوم بها «إسرائيل»، معتبراً هذا الركود الجماعي مثيراً للقلق، يمكن تفسيره كتواطؤ صامت مع الاحتلال. لم يتلكّأ موران عن اتهام الولايات المتحدة بشكل خاصّ، منتقداً الدعم اللامشروط الذي تقدّمه إلى “إسرائيل”، ما قد يُسهم، في رأيه، في مساعدة الكيان على الإفلات الدائم من العقوبة. كما انتقد صمت البلدان العربية، مشيراً إلى شعوره بخيبة الأمل إزاء غياب أي تضامن من قبل هذه الدول مع الفلسطينيين. لم يستثنِ طبعاً الدول الأوروبية من النقد القاسي، مشكّكاً في مصداقيتها وادعائها التفوّق الأخلاقي والدفاع عن الثقافة والإنسانية وحقوق الإنسان، ولفت إلى التعارض بين المبادئ المعلنة والأفعال الحقيقية للدول الأوروبية في هذا السياق. لم يتوان موران كذلك عن التعبير عن الشعور بالعجز الجماعي أمام الوضع المأساوي، مؤكداً على صعوبة التصدي بفعالية من قبل المجتمع الدولي لإنهاء ما يراه تفاقماً شديداً للعنف.
حثّ موران في الجزء الأخير من خطابه الجمهور على تقديم شهادته حول ما يحدث في غزة، مُصرّاً على أهمية توثيق ومشاركة الأحداث الجارية ونشرها على أوسع نطاق. اعتبر الفيلسوف هذه الشهادات وسيلةً للمقاومة الأخلاقية والتاريخية، وتوعية الآخرين حول الواقع المرير للفلسطينيين. دعا كذلك إلى المقاومة الفكرية، والحفاظ على الوضوح العقلي أمام التأثيرات الخارجية المحتملة للخداع الذي يمارسه الاحتلال، ونبّه إلى أهمية المحافظة على فكر نقدي يقظ تجاه المعلومات أو الخطب التي قد تشوه الواقع وتنقل صوراً مغلوطة عما يحدث في غزة. إضافة إلى ذلك، شجّع على عدم نسيان المجازر والحفاظ على هذه الأحداث الدامية وتخليدها في الذاكرة. في الختام، حضّ الجمهور على مواجهة الواقع بشجاعة، مشيراً إلى أنّ الحقيقة قد تكون في بعض الأحيان قاسيةً، لكنها ضرورية لفهم الأحداث.
تمت مشاركة رسالة موران القوية عشرات الآلاف من المرات على «منصة إكس»، وأشاد زعيم حركة «فرنسا الأبية» جان لوك ميلانشون بالخطاب على صفحته قائلاً إن«إدغار موران يفكر ويتحدث بشكل عادل نيابةً عن كل أولئك الذين لا يزال لديهم شعور إنساني في مواجهة الإبادة الجماعية في غزة». تجدر الإشارة إلى مشاركة الفيلسوف الفرنسي مع خمسة مفكرين بارزين على الساحة الثقافية الفرنسية في التوقيع على مقال جديد في «لوموند»، أظهر فيه موران التزامه بمتابعة النقاش العام حول ما يحدث في غزة ورغبته في التأثير بصُنّاع القرار، داعياً الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى المطالبة الحثيثة بوقف إطلاق النار والأمم المتحدة إلى إلزام “إسرائيل” باحترام القانون الدولي.
في النهاية، لا يسعنا القول إلا أنه في زمن تصاعد العنف والمأساة والتنكيل بالأبرياء، تظل صرخة موران نموذجاً للنضال من أجل الحقيقة والعدالة وإنهاء الاستعمار الاستيطاني على أرض فلسطين، ودعوة إلى التأثير والتغيير في وجه آلة الحرب الهمجية على أمل أن تحتذي به بقية النخب الثقافية والفنيّة، وخصوصاً في عالمنا العربي.
أ.ش