"طوفان رمضان"..

لماذا يهاب الاحتلال طقوس الأقصى في الشهر المبارك؟

يستند الرباط والتمرد والمقاومة والفزعة للمسجد الأقصى إلى بُعد وطني وديني وروحي واجتماعي وثقافي، إذ يُعتبر الأقصى رمزًا، كونه مقدس.

2024-03-05

قبيل أيام قليلة دعا ما يسمى بوزير “التراث” الإسرائيلي عميحاي إلياهو إلى محو شهر رمضان، قائلاً في تصريحات لإذاعة “الجيش” الإسرائيلي: “يجب محو المصطلح المسمى شهر رمضان، ومحو خوفنا من هذا الشهر”. وردّ ذلك في تعليقه على التخوف من تصاعد التوتر في الضفة الغربية والقدس المحتلة خلال شهر رمضان بالتزامن مع العدوان على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر لعام 2023.

 

تُعبر تصريحات الوزير الإسرائيلي عن حالة عامة تسود المنظومة الإسرائيلية ابتداءً من رأس الحكومة وصولاً إلى كافة أطياف المجتمع؛ وهي حالة الخوف والقلق من إمكانية التصعيد والمواجهة في هذا الشهر؛ نظراً لخصوصيته الدينية والاجتماعية لدى الفلسطينيين عموماً؛ وتزامن توقيته مع تراكمية حالة ممنهجة من سياسات الاحتلال القمعية التي ضيقت الخناق على المقدسيين منذ بداية الحرب الجارية على غزة.

 

فهناك ارتباطٌ وثيق ما بين السياسات الاعتدائية التي يلجأ إليها الاحتلال الإسرائيلي لضبط تحرك الفلسطينيين والتضييق عليهم؛ وما بين أنماط الصمود والمقاومة التي يبتكرها الفلسطينيون. ويمكن القول إن مجمل الأعمال الاستعمارية التي مارستها “إسرائيل” بحق مدينة القدس المحتلة مؤخرًا، يمكن إدراجها تحت مصطلح “تطهير الهوية الفلسطينية في القدس”، أي تطهير “الفلسطنة “والتي تشمل: التطهير العرقي، والتطهير المكاني، والتطهير الاجتماعي، والتطهير الثقافي والإسمي.

 

وبرزت الممارسات الاستعمارية في مدينة القدس المحتلة منذ السابع من أكتوبر، من خلال تجريم الجلوس في منطقة باب العمود لما يحمله هذا الحيّز الجغرافي من حمولات سياسية واجتماعية ذات طابع مقاوم ومضاد. فمنذ خمسة شهور، انتُزِع من المقدسيين حق الجلوس والوجود هناك، وقد حاول الكثيرون التمرد على هذا الإجراء باعتباره مجحفاً ومستفزاً للغاية، لكنهم قوبلوا بالضرب والاعتداء والاعتقال في بعض الأحيان.

 

يأتي ذلك مع انتشار موجة تهم التحريض التي ابتدعها الاحتلال لتكميم أفواه المقدسيين وإدانتهم وتكبيل حناجرهم وخلق حالة من الإرهاب النفسي في دواخلهم، قد تساهم في خلق أدوات رقابة ذاتية يمارسها المقدسيون تجاه أنفسهم، بمعنى أنهم أصبحوا يفكرون قبل أن يتكلموا أو يفكروا أو يكتبوا.  يترافق كل ذلك مع محاولات مستمرة لتكثيف السيطرة الزمانية والمكانية على المسجد الأقصى المبارك ووضع شروط تعجيزية على دخول المصليين للبلدة القديمة والمسجد الأقصى.

 

بناءً على ما سبق، يشكّل شهر رمضان هذا العام فرصة لاستنهاض الناس وتحريكهم، وهذا ما تخشاه “إسرائيل” حكومةً ومستوطنين، فبعد أن قمعتهم وأرهبتهم في القدس والأراضي الفلسطينية المحتلة عام 48، وبعد أن قطّعت أوصال القرى في الضفة الغربية، تريد أن تضمن ألا يستثمروا رمضان في مواجهة هذا القمع والعدوان.

 

 

المقدسيون وفعل التمرد 

 

لقد أسس المقدسيون بفعل المقاومة وتمردها، ثقافة التمرد بدلاً من ثقافة الهزيمة، فقد أسقط المقدسيون والفلسطينيون في أماكن وجودهم في فلسطين التاريخية نموذج الخوف، إذ لم تعد تجدي سياسات الرعب الاستعماري وممارساته السادية.

 

فـ”جيش” الاحتلال الذي صُوّر على أنه “جيشٌ لا يقهر”، قُهر على درجات باب العمود والشيخ جراح والمسجد الأقصى خلال هبة الكرامة التي ترافقت مع معركة سيف القدس عام 2021، وما قبلها هبة باب الأسباط عام 2017 لإيقاف مشروع البوابات الالكترونية، وكلاهما أسسا لمعادلة ردع جديدة  كسرت من خلالها الإرادة الاستعمارية وسياساتها، وساهمتا في استنهاض خطاب التحرر والوحدة والكرامة بعد عقود من التيه السياسي.

 

ولا شك أن تداعيات وتأثيرات هذه الأحداث مروراً بحدث العبور الكبير الذي حصل في السابع من أكتوبر قد ترسخت بشكلٍ أو بآخر في وعي المقدسيين. وانطلاقاً من احتماليات ترجمة هذا الوعي المقاوم بشكل فردي وجماعي على الأرض، يقوم الاحتلال بمحاولات مستمرة لشيطنة شهر رمضان وخلق حالة من الخوف اتجاهه حتى من قبل المقدسيين أنفسهم، وذلك بهدف ردعهم عن القيام بأي فعل نضالي مضاد وخلق حاجز ذاتي يمنعهم من التحرك (شرطة الأفكار).

 

 

رمضان وطوفان الأقصى 

 

يستند الرباط والتمرد والمقاومة والفزعة للمسجد الأقصى إلى بُعد وطني وديني وروحي واجتماعي وثقافي، إذ يُعتبر الأقصى رمزًا، كونه مقدس، وهذه الرمزية لُمست بشكل واضح في هبة باب الأسباط عام 2017 عندما رفض المقدسيون والفلسطينيون تركيب البوابات الالكترونية، وانتصرت الهبّة وتبيّن أن سر تماسك الجماهير وقوتها قد تمثل في مكانة المسجد الأقصى ورمزيته في وعي ووجدان الفلسطينيين كمقدس وطني وديني وثقافي، حيث يشكل المسجد الأقصى جزءاً من الهوية الفلسطينية.

 

وما يزيد من حساسية الوضع حالياً هو أن أهم أهداف معركة طوفان الأقصى التي انطلقت في تاريخ السابع من أكتوبر لعام 2023، كانت تتعلق بالمسجد الأقصى المبارك، وما يدور حوله من انتهاكات مستمرة واقتحامات دائمة للمستوطنين، يرافقها عمليات ممنهجة لإفراغه من روّاده الفلسطينيين، ما يجعل أي انتهاك وتصعيد مباشر يقوم به الاحتلال سيزيد الأوضاع حدّة، تحديداً أن حرب الإبادة ما زالت جارية والدم لم يتوفق والجوع سيد الموقف.

 

ومع اقتراب حلول شهر رمضان الأسبوع المقبل، اتخذ رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلية بنيامين نتنياهو قراراً بتقييد دخول الفلسطينيين من داخل الخط الأخضر والقدس إلى المسجد الأقصى لأداء الشعائر الدينية، متماشياً بذلك مع مقترحات وزير “الأمن القومي” إيتمار بن غفير، وخلافاً لتوصية الأجهزة الأمنية.

 

وعلّق مكتب نتنياهو بأن “إسرائيل ستضع بعض القيود على دخول المصلين إلى المسجد الأقصى خلال شهر رمضان المقبل وفقاً للظروف الأمنية، وستتخذ القرار حسب الظروف الأمنية”. وطالب وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير الحكومة بمنع دخول فلسطينيي الضفة الغربية إلى المسجد الأقصى خلال شهر رمضان بشكل مطلق، ومنع دخول الفلسطينيين من القدس والأراضي الفلسطينية المحتلة عام 48 ممن هم تحت سنّ 70 عاماً.

 

يحاول الاحتلال أن يستثمر الحرب الإسرائيلية الحالية على قطاع غزة وحالة التشرذم الداخلية في المجتمع الإسرائيلي ومخاوفه لتثبيت أمر واقع في المسجد الأقصى، إذ تهدف الحكومة الإسرائيلية من وراء ما سبق ذكره إلى كسر الخطوط الحمر فيما يخص المسجد الأقصى، والقفز خطوات إلى الأمام في هذا الملف مدفوعاً برؤية بن غفير.

 

إن مقاومة المحتل لا تقتصر على شهر رمضان المبارك، وإن كان هذا الشهر هو شهر للتضحية والجهاد، فمقاومة المحتل لا تحتاج إلى مواقيت، كما أن سيرورة العمل المقاوم المستمرة في قطاع غزة وعموم الضفة الغربية والقدس المحتلة تؤكد أن مسرح المقاومة هي كل الجغرافية الفلسطينية، وهي مقاومة ستتواصل حتى تحرير كل شبر من أرض فلسطين المحتلة..

 

أ.ش

المصدر: الميادين