بعد أيام قليلة، يحتفل العالم العربي بعيدي الأم والطفل، لكن هذا العام تحلّ هذه المناسبة على أمهات غزة وأطفالهن، وهم بين مقتول، ومهجّر، ومشرّد جائع، يسعون للحصول على جرعة ماء أو حليب أو حتى كسرة خبز، بعد أن منع عنهم “جيش” الاحتلال الإسرائيلي وقيادته السياسية المقومات الأساسية للحياة.
اللافت هنا، ليس الشراكة الأميركية الغربية مع بعض الدول العربية في الإبادة والتجويع اللذين تمارسهما “إسرائيل” على الشعب الفلسطيني، بل الصمت المطبق للمؤسسات والمنظمات الإنسانية، والجهات الرقابية المعنية بتطبيق القوانين الدولية، وخصوصاً قانون الحرب.
وأكثر من ذلك، اختفت أصوات الجمعيات النسوية والحقوقية الأجنبية أو العربية، المموَّلة من جهات غربية، وتجاهلت الجرائم ضد الإنسانية التي نفذها الاحتلال الإسرائيلي، كالقتل المتعمد لأكثر من 15 ألف طفل فلسطيني، وارتكاب الفظائع بحق النساء، وخصوصاً الحوامل وحرمانهن من الرعاية الصحية، مع العلم بأن مبادئ قانون الحرب الراسخة، تشدد على أن النساء والأطفال يتمتعون بحماية خاصة تعود إلى اتفاقيات جنيف لعام 1949.
القانون الدولي والفشل في حماية النساء والأطفال
لطالما كانت الأمهات الحوامل، على وجه الخصوص، أهدافاً رسمية للحماية بموجب القانون الإنساني الدولي، بدءاً من البروتوكول الإضافي الأول الذي يعطي الأولوية للنظر في أوضاعهن، والإفراج المبكر عنهن عند الاعتقال (المادة الـ76)، وصولاً إلى القانون الذي ينطبق على وجه التحديد على الأراضي المحتلة، بحيث تشترط اتفاقية جنيف الرابعة وجوب حصول الأمهات الحوامل على أغذية إضافية بناءً على احتياجاتهن الفسيولوجية (المادة الـ89).
وعند مقارنة هذه القوانين مع الوضع الكارثي القائم في غزة، نجد أن الأمن الغذائي أصبح مفقوداً بالكامل، إلى درجة أن الاحتلال لم يعد يكتفي بعرقلة وصول إمدادات كافية من المساعدات الإنسانية، وإنما أصبحت القوافل التي تحمل المواد الغذائية للنازحين قسراً، وأماكن توزيعها، أهدافاً ثابتة للصواريخ والقذائف، كما جدث في 29 شباط/فبراير الفائت، حين استيقظ العالم على مجزرة إسرائيلية جديدة قرب دوار النابلسي شمالي قطاع غزة، استشهد فيها أكثر من 104 فلسطينيين، وأصيب أكثر من 700 آخرين، بعد أن استهدفت الاحتلال تجمعاً لمواطنين ينتظرون الحصول على مساعدات.
وتبعا لذلك، باتت النساء الحوامل في غزة يجدن صعوبة كبيرة في الحصول على قليل من الغذاء “الإضافي”، إلى حدّ أنهن يعانين المجاعة، والنقص الشديد في المياه.
في المقابل، على الرغم من أنّ المادة الـ127 من اتفاقية جنيف الرابعة تنص على أنه لا يجوز نقل النساء إذا كانت الرحلة “تلحق بهن ضرراً جسيماً”، غير أن الواقع يشير إلى أن كل السكان المدنيين تقريباً في غزة، بمن فيهم النساء، أُرغموا على النزوح القسري تحت النار.
أكثر من ذلك، في حين تؤكد اتفاقية جنيف الرابعة ضرورة التزام توفير الرعاية الطبية للنساء الحوامل (المادة الـ91)، سجلت الأمم المتحدة قيام “جيش” الاحتلال بشنّ أكثر من 600 هجوم عسكري على المستشفيات والمرافق الطبية في غزة في أوائل كانون الثاني/يناير، والأسوأ أن الاستهداف المستمر للمرافق الطبية ما زال قائما حتى الآن.
ازدواجية المعايير الدولية
في الحقيقة، إن العنف الإنجابي والتوليدي للمرأة الفلسطينية ليس جديداً، ووثّق الباحثون والخبراء منذ فترة طويلة حجم هذا العنف، بحيث تتنقل النساء اللواتي يعشن تحت الاحتلال في أثناء الولادة والأمومة في ظل أصعب الظروف. لكن الضرر اللاحق بالمدنيين، وعواقبه على الحوامل والمرضعات والأمهات الجدد، كانت غير مسبوقة في غزة.
صحيح أن قادة الأمم المتحدة وبعض الدول لم ينفكّوا، في الأسابيع الأخيرة، عن مطالبة “إسرائيل” بحماية المدنيين في غزة، لكن التركيز المستمر سياسياً وقانونياً على المخاطر والمصاعب التي واجهتها وتتعرض لها الأمهات والنساء الحوامل في غزة، أو اللاتي يلدن أو بعد الولادة، بقي في حده الأدنى، بينما النتيجة هي غياب الاحتجاجات والإجراءات المتعلقة بالمعايير الأساسية لحماية المرأة الفلسطينية، كون الأمر يتعلق بـ”إسرائيل”، بينما نرى على المقلب الآخر حملات التجييش والتحريض ضد دول الجنوب العالمي، تتولاها جهات أممية و منظمات دولية وحقوقية أو جمعيات المجتمع المدني، لمجرد شبهة وقوع عنف بحق النساء فيها.
ما تجدر معرفته، إن هذه الفجوة ظهرت، بصورة خاصة في الدول (الغربية)، التي تدعي أنها مناصرة لأجندة المرأة والسلام والأمن، أو تدعي أن لديها سياسة خارجية نسوية، وهي هوّة تؤكد كذلك الانتقائية وازدواجية المعايير وعدم الاتساق في مجال المرأة والسلام والأمن.
التهميش القانوني للنساء في غزة
عملياً، تُعَدّ الحرب على غزة حالة فريدة توضح إلى أي مدى يظل العنف الذي يعانيه المدنيون الحوامل والمرضعات الصغار، والنساء اللواتي يلدن، اللواتي يكافحن (مع أطفالهن) من أجل البقاء في قيد الحياة بعد الولادة، على هامش المحادثات السياسية العالمية بشأن التزامات الاحتلال بشأنهنّ.
ففي تشرين الثاني/نوفمبر 2023، قدّرت منظمة الصحة العالمية أن هناك 50,000 امرأة حامل في غزة. ليس هذا فحسب، فمنذ انطلاق الحرب الدموية على القطاع في 7 تشرين الأول/أكتوبر، تشير التقديرات إلى أن ما يقرب من 20 ألف طفل ولدوا في ظل الكارثة الإنسانية التي حلت بغزة.
والمؤسف أنه مع ولادة طفل واحد كل عشر دقائق في غزة، تتغاضى البلدان صاحبة شعارات حقوق الإنسان والطفولة زوراً، عن الحماية التي ينبغي للقانون الدولي أن يوفرها لهؤلاء الأطفال وأمهاتهم في الوقت الحقيقي. وبدلاً من ذلك، يتم تهميش الأمومة في هذه الحرب الفتاكة، كما هي الحال في صراعات أخرى، بينما يلتزم “أبطال” المرأة والسلام والأمن البارزون ذوو التأثير في الاحتلال الصمت، بشأن القانون والممارسة الحربية الإجرامية للكيان الغاصب.
في المحصلة، لا اتفاقيات جنيف الأربع، ولا البروتوكولان الإضافيان للأمهات والمواليد، ولا نصوص قانون الحرب، ولا الأمم المتحدة، استطاعت كلها أن تؤمن الحماية للنساء أو توفر أدوية الأمومة (أساسيات الحمل ومستلزمات الولادة في حالات الطوارئ)، فبات قبول الإجهاض نتيجة حتمية تتبع قرارات الاستهداف في المناطق المدنية ذات الكثافة السكانية العالية، وبالتالي بات جزءاً من حساب الضرر الذي يلحق بالمدنيين الفلسطينيين.
وعليه، هذا يدفعنا إلى القول إن أمومة النساء وحياة الأطفال في فلسطين تحولتا الى أرقام في عداد الموت، اعتاد العالم قراءتها يومياً من دون أن يهتز ضميره الميت أصلاً.
أ.ش