دراسة نموذج السعودية في العلاقة بين الدين والسياسة

الهيمنة التدريجية للمؤسسة السياسية على المؤسسة الدينية

اليوم، أصبحت العلاقة بين الدين والسياسة من أهم أسئلة المجتمعات الإسلامية. لهذا السبب، يعتزم موقع (شعوبا) فحص الأنماط المختلفة الموجودة في هذا الصدد في العالم الإسلامي. إن نموذج المملكة العربية السعودية نموذج خاص وفريد ​​من نوعه في هذا المجال. نموذج أظهر في البداية نوعًا من التوازن بين مؤسسة الدين ومؤسسة السياسة، ولكن شيئًا فشيئًا تغلبت مؤسسة السياسة على مؤسسة الدين وجعلت مؤسسة الدين تابعة لها. في هذا المجال أجرينا محادثة حول هذا النموذج وتطوراته مع الدكتور ياسر القزويني الحائري ، الأستاذ بجامعة طهران والباحث في التيارات الدينية:

2023-01-01

السعودية تعرف في الرأي العام بأنها دولة وهابية. برأيکم هل يمكن أن نعتبر هذه الحكومة، حكومة دينية من ناحية علمية وهيكلية؟

منذ تأسيس المملكة العربية السعودية وتشكيل الحركة الوهابية في القرن الثامن عشر وبعد ذلك إنشاء الحكومتين السعودية الثانية والثالثة، عمل جناحان دائمًا معًا: الجناح الديني والجناح السياسي. وهذا نموذج فريد للحکم. قضية أخرى موجودة ومهمة للغاية وتبقى أحيانًا مخفية عن الأعين ونتجاهلها، هي قضية آلية الخلافة في السعودية. إنّ آلية الخلافة في السعودية هي آلية الولاء والبيعة. بمعنی حينما يموت ملك أو حاكم ويخلفه ولي عهده، يقوم مختلف الناس من نخب المجتمع والجماهير بمبايعته. آلية الخلافة مهمة للغاية ويمكن التحدث عنها و عن تفاصيلها كثيرًا .

تأتي آلية الخلافة في السعودية من تقليد ديني. بالطبع، اتخذت مسألة البيعة أشكالًا مختلفة في فترات مختلفة. على سبيل المثال في عهد الملك فهد، شهدت مسألة الخلافة تغيرات وفي عهد الملك عبد الله، تشکلت هيئة البيعة. على أي حال، لا تزال آلية الخلافة في السعودية تقوم على البيعة، والبيعة هي مشتقة بالكامل من البنية التقليدية للخلافة في الفترات الإسلامية الماضية وهم أيضا فخورون بهذا.

كنت أتصفح مقالاً قصيراً على موقع شبكة العربية يعيد البيعة للملك سلمان إلى بيعة العقبة الأولى ثم بيعة العقبة الثانية ثم البيعة للخلفاء ثم يعود إلى البيعة للملك سلمان! طبعاً نعلم أن شبكة العربية هي منصة لوجهات نظر الحكومة في السعودية. ولهذا السبب يفتخر الكاتب بنفسه وبالسعودية بأنها الدولة الوحيدة التي ما زالت آلية الخلافة فيها آلية البيعة. يمكن أن تكون آلية الخلافة أهم جزء من الآلية السياسية لأنّها الآلية التي يتم من خلالها استبدال واستخلاف الناس ويمكن لهذه الآلية السياسية أن تستمر. وتقوم هذه الآلية على البيعة المستمدة بالكامل من تقليد ديني.

هل من الممكن أن لا يبايع شخص ما لولي العهد؟

إنها تعتمد على الفلسفة السياسية لأهل السنة، والتي تقوم على حکم “من مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية”. في الواقع، في نظر السنة وفلسفتهم السياسية، يبدو الأمر كما لو أنه يجب على الجميع مبايعة أمير أو خليفة أو حاكم. وانطلاقاً من هذا المبدأ، في تفسير علماء السلفيين الكلاسيكيين وكذلك جزء كبير من علماء السنة في الماضي، فإنّهم يعتبرون الحاكم شرعيًا في كل الأحوال، حتى لو ارتكب خطيئة الزنا في العلن. وربما تكونون قد رأيتم وسمعتم في أمثلة على هذا. انطلاقا من هذه الفلسفة السياسية و من وجهة النظر الهيكلية و الشكلية التي هي في حد ذاتها قضية مهمة، على أي حال، فإن آلية تداول السلطة في السعودية تقوم على مسألة البيعة وهذا هو شرعنة للحاکم.

بمعنی آخر، بناء على نفس الرواية تبقی لنا سؤالاً وهو: من الذي يجب أن يبايعه الشخص السني المعتقد؟ على وجه الخصوص، في عالم اليوم، لا يوجد الكثير من المطالبين بالبيعة. حينما ننظر إلى إمارة أفغانستان الإسلامية، يوجد جماعة مثل القاعدة موالية لطالبان وجماعة مثل داعش تدعي الخلافة وتعتقد بأن البيعة يجب ان تمنح لخليفتها. وبرأيي في نطاق الحكومات، السعودية وحدها هي التي تعتمد في آلية نقل السلطة على البيعة. في هذه الأثناء، من أجل تنفيذ هذا الحديث، أي “من مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية”، يجب أن يكون هناك بيعة بأي نحو، سواء كانت رسميّة أو غير رسميّة. يكفي أن يكون لها شكل من البيعة والولاء، وأنت سمّها ما تشاء. على أي حال، المهم هو هناك آلية الآن تعمل بشكل من الاشكال.

ما هو الدور الذي تلعبه مؤسسة الدين في السياسة السعودية؟ علی وجه الخصوص ما هو دور مؤسسة علماء السنة في السعودية؟ هل هو مجرد آلية للشرعنة أم للتبرير أم أن له دورًا تصحيحيًا وإصلاحياً أم أنه حلقة الوصل بين الشعب والحكومة؟ ما هو دورها بالضبط وما هي وظيفتها؟

يبدو أنه متغير في الزمان والمكان ؛ بمعني أنه لا يمكن إعطاء إجابة ثابتة لهذه المسئلة ، وهذه المسئلة متغيرة بشکل متزامن وغير متزامن. إذا أردنا النظر في مسارها الزمني، على أي حال، كانت المؤسسة الدينية الرسمية قوية جدًا في البداية. في الأساس، يرتبط اسم السعودية بمحمد بن عبد الوهاب كمؤسس لهذه المؤسسة الدينية.فإذن إذا تنظرون إلى تاريخ المملكة العربية السعودية، فإن أول شخص يذکر إسمه حتى قبل عام أو عامين هو محمد بن عبد الوهاب. إلی أن جرت مناقشة يوم التأسيس وتم الاحتفال بـ 22 فبراير تحت عنوان يوم التأسيس منذ العام الماضي. وفي هذا اليوم من سنة 1727، بدأ محمد بن سعود حكمه في الدرعية. وبهذه الطريقة تجاهل السعوديون معاهدة الدرعية بين محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود التي كُتبت عام 1744.

أو مسألة أخرى هي كلمات محمد بن سلمان في هذا المجال، الذي قلص دور محمد بن عبد الوهاب إلى مستوى أحد المقربين من محمد بن سعود، أي أنه قلب الموقف تمامًا. فبينما قبل عام أو عامين، كان محمد بن سعود يُعتبر من تلاميذ و حواري محمد بن عبد الوهاب، ولكن من الآن وفقا لقول محمد بن سلمان، سيعتبر محمد بن عبد الوهاب من تلاميذ و حواري محمد بن سعود! قال محمد بن سلمان: لأن المتعلمين في تلك الفترة كانوا من تلاميذ محمد بن عبد الوهاب، فقد كتبوا التاريخ بحيث أصبح دوره بارزًا جدًا.

على أي حال، تُظهر هذه القضايا أن المؤسسة الدينية قد مرت بعملية في التأثير على الحكم والسياسة، والتي كانت قوية جدًا في البداية، ولكن مع تقدمنا ​​من القرن الثامن عشر إلى القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين، فإن قوة المؤسسة الدينية اخذت تتناقص، لتهبط اليوم إلی الحضيض.

وهذا في حالة عدم التزامن. لکن في حالة التزامن لدينا تيارات مختلفة بين الإسلاميين وبين أولئك الذين يدعون الإسلام في السعودية. صحيح أن الحراك الرسمي كان مطيعا للحكومة تماما، لكنه لعب دور الناقد في بعض الفترات. قيل من قبل أن سلطة المؤسسة الدينية قد تناقصت في مسار تنازلي ولم يعد لديها القدرة على انتقاد الحكومة. حتى في فترات مثل عهد الملك سعود أو فترة الملك فيصل اللاحقة أو حتى عهد الملك خالد، كان هناك شيوخ لديهم القدرة على انتقاد الحكومة، لكن مع مرور الوقت، ذهبنا نحو تقليص سلطة المؤسسة الدينية.

في حالة التزامن لدينا العديد من التيارات شبه الرسمية أو غير الرسمية الفعالة جنبًا إلى جنب مع التيار الرسمي. على سبيل المثال، جاءت حركة التيار السروري أو الإخوان إلى السعودية من دول مثل سوريا ومصر في فترة، وكانوا مؤثرين جدًا في المؤسسة التعليمية في هذا البلد. من الواضح أن هذه التيارات لها نظرة نقدية، وهذه النظرة النقدية في تيارات مثل القاعدة وداعش هي أكثر من مجرد انتقاد، وأدت إلى مواجهتها مع الحكومة، واتخذت شكل الجهاد والنضال.

ماذا يتوقع المجتمع السعودي والرأي العام من مؤسسة الدين؟ هل هو مقتنع بالعلاقة الحالية بين الدين والسياسة وأن مؤسسة الدين أصبحت خاضعة بالكامل لمؤسسة السياسة أم أنه يتوقع أن يكون للمؤسسة الدينية دور أكثر فاعلية أو دور إنتقادي؟

مع الأسف إن التحليل السياسي لأفكار الرأي العام السعودي ليس بسيطاً. اليوم تغريدة بسيطة للغاية علی تويتر، ستدخلك في السجن. حتی إنهم يعتقلون الأشخاص الذين كانوا من أنصار محمد بن سلمان. شخص مثل السيد خاشقجي رأينا ما حدث له وهو الذي كان من أولئك الذين حاولوا إضفاء الشرعية على الحكومة السعودية – على الرغم من أنه كان لديه وجهة نظر عن الإخوان – لکن لم يعتبر نفسه معانداً أو مخربًا للنظام.

فلهذا رغم الاختناق الذي تعيشه السعودية، يصعب الوصول إلى الرأي العام. في هذا المجال سأقدم لكم نظرية. كان السيد خلدون حسن النقيب من المنظرين السياسيين في العالم العربي وله نظرة سياسية مهمة. إنه كويتي وبالطبع ليس مشهوراً في إيران. هذا الرجل يؤمن بنوع من الحكم في الدول العربية، خاصة في دول الخليج الفارسي، الذي يسميه الحكومة المهيمنة.

في هذه الحكومة، تعمل المؤسسات المدنية مثل القبائل والتجار والأديان والطبقة الوسطى، مثل العمال – بالطبع، في البلدان التي لديها عمالة داخلية – بدلاً من نقل أصوات الناس إلى الحكومة، بمثابة حكومة عميقة. في الواقع، تتواصل الحكومة في هذه البلدان مع نخب هذه المؤسسات من خلال آليات الحكومات الريعية واستخدام الثروة النفطية، وتستخدم الطبقة الوسطى كدولتها العميقة (deep state). بمعنى آخر، تسيطر الحكومة من خلال هذه المؤسسات على الشعب والمجتمع بشكل عام، ليس فقط بطريقة ناعمة، ولكن أيضًا بطريقة قاسية. وإذا كانت الحكومة تريد قوة للشرطة أو الحرس الوطني، فستعتمد على هذه المؤسسات.

عمليا، نتيجة هذا الرأي لخلدون حسن النقيب، الذي اقترحه في الثمانينيات والتسعينيات، لا تزال صالحة في بلد مثل السعودية لحد الآن، ولا نواجه کتلة وجماهير يمكن أن تحتج. خاصة الکتلة التي لها شعور وطني، وهذه القضية أصعب بكثير في السعودية، حيث نواجه أيضًا نوعًا من أزمة الهوية. في الحقيقة، أدى الارتباط بين الحكومة وهذه المؤسسات إلى اختزال المجتمع بمستوی هذه المؤسسات. بمعنى آخر، قد يعتبر السعودي نفسه أكثر انتماءًا لقبيلته، أو إلى دينه، أو إذا كان تاجرًا، فقد يعتبر نفسه منتميًا إلى تلك المجموعة من التجار وأسر التجار، وعلى هذا الأساس، فإن تكوين كتلة متطلبة أساسًا أمر غير ممکن في السعودية ولم تتشكل بعد، لكي نذهب و نقول في أي اتجاه يذهب الرأي العام أو لا يذهب! بالإضافة إلى ذلك، لا يمكننا الحصول على معلومات دقيقة للغاية من هذا المجتمع بالنظر إلى الاختناق و الاضطراب الموجود في السعودية اليوم.

ما هو تأثير العلاقة بين الدين والسياسة في السعودية على تقليل التدين أو زيادته في المجتمع؟ هل من الممكن على الإطلاق التحقيق لمعرفة جواب هذا السؤال بأن هذه العلاقة قد تسببت في زيادة التدين أو انخفاضه؟

برأيي في السابق کنا مواجهين التطرف والإفراط والآن وصلنا إلی فترة التفريط. في الماضي، كان رمز هذا الوجود هو ما يسمى هيأة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذي تم إيقافه تمامًا قبل بضع سنوات. لكننا اليوم وصلنا إلى ما يسمى هيأة الترفيه وتظهر هذه القضية أن الحكومة نفسها تشجع بطريقة ما على عدم التمسك بالدين. يعني أن المجتمع السعودي واجه تطرفا في الشأن الديني في فترة، واليوم ذهبت الحکومة السعودية إلی جانب آخر و على العكس من ذلك.

في الواقع، تتحكم الحکومة في المطالب التي ربما تكون قد تشكلت كرد فعل من قبل بعض أفراد المجتمع، وخاصة الأجيال الجديدة، والأجيال التي تقضي معظم وقتها في الاجواء الافتراضية وما شابه. الآن رمز الجيل الجديد للمملكة العربية السعودية هو محمد بن سلمان، الذي يمكنكم مشاهدة تناقضات كثيرة في سلوكه. مثال يوضح الوضع في السعودية هو الوضع الأسري ومسألة الطلاق. ربما قبل عشر سنوات، عندما كنت أقوم بالبحث، أصبحت قضية الطلاق مشكلة حادة في المجتمع السعودي، والنتيجة أنه من الملاحظ اليوم أنه من أجل الزواج، يجب على الشباب الذهاب والحصول على شهادة وإثبات بأنه على استعداد للزواج! و بسبب فشل العديد من الزيجات في السعودية، ربما توجهت الحكومة في السنوات الأخيرة إلى الاتجاه الذي مفاده أنه إذا أراد شخص الزواج، فعليه أولاً أن يجتاز دورات ثم يحصل على شهادة بأنه يمكن أن يتزوج! وهذا الآن رأيته في الأخبار – لا أعرف مدى صحته أو خطئه- لكنها مؤشر، لأنّ الإخلال بالنظام الأسري علامة على الفوضى في قضية التدين. وهذا يعني أن الأسرة، التي هي أساس مهم يقوم عليه التدين، واجهت تحديًا. على أي حال، لا يمكننا تلقي رسالة واضحة من المجتمع السعودي، لكن المؤشرات الموجودة تشير إلى وجود اضطراب في التدين السعودي على ما يبدو وأنه انتقل من الإفراط إلی التفريط في التدين.

هل تم تصدير نموذج العلاقة بين الدين والسياسة في السعودية إلى أماكن وحکومات أخرى وهل ألهم الآخرين؟

أنا لا أعلم بوضع أماكن أخرى، لكن يمكن القول إن قطر قد تأثرت بطريقة ما. باعتبار أن القطريين يعتقدون أنهم من قبيلة محمد بن عبد الوهاب وينسبون أنفسهم إلى بني تميم ومحمد بن عبد الوهاب الأول. إن النموذج الموجود في السعودية هو نموذج لجناحين، جناح واحد للدين وجناح واحد للسياسة. وعبر التاريخ، كان للجناح الديني في البداية قوة أكبر، ولكن شيئًا فشيئًا تزداد قوة الجناح السياسي، وفي الآونة الأخيرة يمكننا أن نرى بوضوح أن المؤسسة السياسية تبلع المؤسسة الدينية. وأنا لا أعتقد أن هذه الطريقة موجودة في مكان آخر.

بالإضافة إلى ذلك، يعتقد السعوديون أنفسهم أن آلية السياسة القائمة على البيعة لا وجود لها في أي مكان آخر ونتيجة لذلك، يبدو أن للسعودية وضعًا فريدًا تشكلت عليه سيادتها، ولا يمكنني القول هل صدّرت هذا الى أماكن أخرى أم لا.

المصدر: الوفاق/ خاص