بسم الله الرحمن الرحيم
إنّ اجتماعَنا اليوم، لهو اجتماعٌ تاريخيٌّ بامتياز، لطالما انتظرناه بشغف، اجتماعٌ واعدٌ يحملُ أكثر من دلالة:
أوّلًا، القيمة المقدسة للمكان، حيث إنّنا في رحاب بيت الله الحرام.
ثانيًا، القيمة الروحية للزمان، حيث نحن في شهر الرحمة والغفران.
وثالثاً، لجهة أهداف اللقاء الذي تنظّمه رابطة العالم الإسلامي المتمثلة بأمينها العام معالي الشيخ الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى، والتي تختصرُ بقيمةٍ عليا من قيم الإسلام، وقيم الأديان السماويّة عامّةً؛ وهي قيمة الوحدة والأخوّة و التآخي بين البشر، فكيف بنا، ونحن المسلمون الذين حللنا اليوم في حضرة بيت الله، من مختلف الطوائف الإٍسلامية، ومختلف المذاهب والأوطان واللغات والأعراق، لنعربَ عن استعدادنا للانخراط في خدمة هذه الصحوة الفكريّة الدينية، التي تطلّع إليها كبار العلماء المسلمين والمفكّرين الإيرانيين و العرب على مدى التاريخ، و هذه الصحوة التي تؤسّسُ لحضارةٍ إسلاميّةٍ لا فرق فيها بين سنيٍّ وشيعيّ، ولا فرق فيها بين الإخوة في الدين، مهما اختلفت اجتهادات هم واراؤهم.
اليوم، أكثر من أيّ وقتٍ مضى، نستشعر المؤامرات الناعمة في الحرب الثقافية التي تستهدف وحدتنا نحن المسلمين واستغلال تنوعنا من قبل اعداء الأمة في تخريب اوطاننا ومجتمعاتنا. وقد بدأنا منذ عقودٍ في الجمهورية الإسلامية الإيرانية بصناعة خطاب الوحدة والتقبّل والتسامح بين الطوائف المختلفة، ونبذ خطاب الكراهية والتكفير والإقصاء تجاه المذهب المختلف، لادراكنا المسبق، بأن لا مستقبل لهذه الأمة اذا هي لم تبني جسرا بين مكوناتها.
وقد انطلق الراحل الإمام الخميني ، ويكمل الدرب الإمام الخامنئي اليوم، من مصدرٍ أساسيٍّ هو الخطاب القرآني. فالتعاليم القرآنية واضحةٌ لكل من يتأمّلها، فيما يتعلٌّق بمفاهيم الإعانة والتعاطف والتكافل والإيثار وغير ذلك ممّا يصنع إنسانًا معتدلًا يتبع نهج الإسلام المحمّدي الأًصيل، فالفران جامع، والشهادتين اهم جامع كما تفضل سماحة الشيخ محمد بن عبد الكريم العيسى في كلمته الافتتاحية أمس.
نحن لسنا بحاجةٍ اليوم إلى مفاهيم في العقد الاجتماعي نتلقّاها من الثقافات الغربية المبطّنة بإرادة الهيمنة وبسط النفوذ. وإنما نحن في أمسّ الحاجة للعودة إلى ديننا الأصيل بمبادئه الأًصيلة المنبثقة عن إرادة بناء الإنسان السويّ، الذي يبني مجتمعًا سليمًا.
شخصيات عديدة في إيران و العالم العربي كانت فاعلةً في هذا المسار، كل على طريقته ومن رؤيته الخاصة. آية الله كاشاني، نواب صفوي، آية الله طالقاني وميرزا خليل كمره اي، و لا ننسى العلامة الشيخ محمد علي التسخيري. و قد كانت قضايا كثيرة و اهمها موضوع الوحدة و التقريب اضافة الى قضية القدس الشريف كمحور لمعاملاتهم مع العالم الاسلامي، وأحد عناوين الوحدة بين المسلمين. فكانوا يتطلّعون إلى حركةٍ مناهضة للإستعمار و للصهيونية. كان آية الله البروجردي، والشيخ محمد تقي القمّي، يضعانِ مسألة تقريب المذاهب هدفاً محورياً في معاملاتهما، وآخرون كانوا يصبّونَ اهتمامهم في قضية الثقافة الدينية والعدالة الاجتماعية وإحياء الفكر الديني والإصلاحي. على المقلب الآخر، شهد العالم العربي نهضاتٍ عديدةً وتصب في هذا الإتجاه.
إنّ إسلامنا الذي يريدنا أقوياء في وجه أعدائه، أعطانا القوّة من تربيتنا الدينية والأسريّة، وجعل هذه القوّة تتجلّى في علاقاتنا بالمسلمين على شكل رحمةٍ وتكاتفٍ وتآلف. وهذا مصداق الآية الكريمة: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ.
إسلامُنا هو دين الاعتدال والوسطيّة، حيث لا إفراط ولا تفريط. وإنّ النهج الاعتدالي هو المكوِّن الأوّل لمجتمعٍ متكاتفٍ وشعبٍ متّحد. والإشكالية الأساسيّة، تكمن في أنّنا لم نؤسّس بعد لخطابٍ تتقاطعُ وتلتقي فيه رغبة الشعوب ووصايا المرجعيّات الدينيّة الكبرى وسياساتُ الحكومات. فنحن نرى بأنّ الشعوب متعطّشةٌ للتعايش والتلاقي، غير أنّ ذلك لا يحصل بسبب الدور الخطير الذي تؤدّيه الإمبراطوريّة الإعلامية الغربية في منطقتنا. وهذا ما يجعل هذه المنطقة اليوم، ومنطقة غليانٍ دائمٍ ونزاعاتٍ مستمرّة. فالدور الإعلامي يشكّل المضادّ الأول لدور الأسرة والتربية. بل إنّ الإنسان قد يجد نفسه توّاقًا لما نشأ عليه من القيم الإسلامية في البيت والمدرسة، لكنّه ينجذب لما تقدّمه مواد الإعلام العالمي على طبقٍ من ذهب، وبذكاءٍ اصطناعيٍّ وأدواتٍ تقنيّةٍ عالية.
و لعلّ بداية التغيير تكون عبر المناهج التربويّة.
فبناء شخصية الإنسان المسلم المعتدل الرافض لخطاب الإستبعاد والإقصاء والتكفير، يتطلّب تظافرًا في الجهود ما بين المعلّم أو المربّي والأهل، فيتعلّم الطفل منذ نعومة أظافره محبة الآخر المختلف عنه واحترامه، ممّا يوفّر على البشريّة الكثير من النزاعات والحروب والمشكلات الاجتماعية والسياسية.
أمّا فيما يتعلّق بكيفيّة الوصول إلى الوحدة الحقيقيّة بين المسلمين، فالأمر لا يقتصر على المؤتمرات والندوات والاجتماعات التي تجمع النخب الفكرية والثقافية والسياسية والدينية فحسب. بل على الرغم من أهميّة هذه الفعاليات، إلا أنّ التنظير ينبغي أن يسير بالتوازي مع العمل في شتّى الميادين الاجتماعيّة. فالوحدة و مد جسور التآخي ينبغي أن تصبح ركنًا أساسيًّا في المناهج الدراسيّة بكافة سطوحها و مؤسساتها، ابتداءً من روضة الاطفال حتى الجامعات ، فلا مندوحة أن الوحدة لا تتحقق في الواقع العملي الا بخطة تربوية ، من خلال ادماجها في منظومة التربية الأسريّة والتعليم، وما لم يتحقق ذلك، فسوف تبقى الوحدة شعارًا لا أكثر، وهذا من وحي تجارب كثيرة.
إنّ التغافل عن أهميّة دور الأسرة والمدرسة في تربية الشخصية المسلمة المعتدلة المتسامحة، كان من أهمّ أسباب بروز ظواهر من قبيل نبذ الآخر والتفرقة والقطيعة بين الشعوب المسلمة، وعدم الإقبال على مخالطة المسلمين لبعضهم البعض، أو تعلّم لغات بعضهم البعض. هذه التفرقة التراكميّة، تزايدت حتى بلغت حدًّا خطيرًا، جعل الإنسان يمارس الإقصاء بحقّ الآخر المختلف عنه بكلّ بساطةٍ وسهولة، بل يجد من السهولة المبرر الشرعي لذلك. وكان من مخرجات ذلك أيضا، الكراهية والعدوانيّة والجهوزية للانقضاض على الآخر، أمام أوّل اختلافٍ في الرأي.
و في رأيي المتواضع، لا بد من إعادة النظر في مناهجنا، من أجل السعي لتطوير كلّ ما من شأنه أن يقرّبنا كمسلمين من بعضنا البعض.
خلاصة قولي اليوم، إنّنا نشدّ على أيادي كلّ المفكّرين النهضويين من رموز الوحدة الإسلامية على مدى التاريخ، سيّما في منطقتنا. ونؤكّد على أهمية طرح الإشكاليات والخروج بفرضيات ونظريات حول المسألة، لكنّنا لا نكتفي بهذه التنظيرات، وإنما نرى بأنّ الجانب التربوي يستحقّ التأمّل أكثر من أيّ وقتٍ مضى. والجانب التربوي لا يشمل العائلة فحسب، وإنما المناهج التربوية ودور المعلّم والمدرسة كذلك، إن الوحدة بين المسلمين هي أمانة في اعماقنا ، وعلينا مد الجسور وبناء الثقة بين مكونات الأمة، لنستفيد من مكتسبات تاريخنا، ونحمي مصيرنا المشترك بمزيد من الأخوة الاسلامية، لأنها من أهم مقاصد الدين والسياسة وضرورات العيش المشترك، فضلا عن أنها من مصاديق القوة المادية و الناعمة التي أمرنا أن نعدها، حتى لا تذهب ريحنا، ونصبح كالقصعة التي يتداعى عليها اكلتها، ليس لأن عددها قليل كما أشار الحديث النبوي الاستشراقي بحال الأمة ، بل إننا كثير ولكن بتفرقنا اصبحنا كغثاء السيل كما في الخبر:
“يوشِكُ أن تداعَى عليكم , الأمم كما تداعَى الأكَلةُ إلى قصعتِها . فقال قائلٌ : ومن قلَّةٍ نحن يومئذٍ ؟ قال : بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ ، ولكنَّكم غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيلِ”
اجل، لازال الخير في هذه الأمة ، ولعل اكبر دليل على ذلك، هو اجتماعات اليوم لإنقاذ وحدتنا وترميم جسور التقريب بيننا، وهو أمر يستحق العناية والتقدير.
(١) نائب رئيس جامعة الأديان و المذاهب – الجمهورية الإسلامية الإيرانية