يوم الاثنين الماضي امتنعت الولايات المتحدة عن التصويت ضدّ القرار الروسي – الصيني من أجل وقف العدوان على غزّة بإجماع مجلس الأمن. أمر ملفت! ولكن الأيام التي تلت كشفت الدوافع وراء القرار الأميركي. لقد كان مجرد فركة أذن لرئيس وزراء الكيان المتفلت بنيامين نتنياهو. والغريب، أن لا أحد يستطيع تبيان من فرك أذن الآخر، أهو الأميركي أم الصهيوني. ولكن الثابت أن مسرح مجلس الأمن عادت واستخدمته واشنطن لتمرر رسالة للداخل الأميركي بأنها ترغب بوقف الجرائم الصهيونية في غزّة. فما يريده الرئيس الأميركي جو بايدن هو دفعة إلى الأمام أمام ناخبيه الذين أتخموا من الدم الذي سفكه عبر دعم الصهاينة غير آبه بتقويض الأمن والسلم العالميين، وتقويض دعائم الديمقراطية الغربية المزعومة. ومن أجل هذا كمت واشنطن فاهها في مجلس الأمن في الخامس والعشرين من آذار.
من يظن أن نتنياهو قد تحسس رأسه، فهو مخطئ، لأن ما تلقاه نتنياهو هو صفعة تأديبية، تشبه تلك التي تضربها الأم على يد أو رجل طفلها لتنهاه عن عمل يؤذيه. فلا نتنياهو توقف عن ارتكاب المجازر في غزّة ولا المساعدات الإنسانية وصلت لأصحابها بكرامة، وما زال الأميركي يرميها في البحر ليزيد عدد الشهداء الذين يغرقون وهم يحاولون استجلاب الغذاء والدواء لأهليهم، وما زال الإسرائيلي يرتكب جرائمه التي لا يستطيع القانون الدولي محاسبته عليها، لأن امتناع الأميركي عن التصويت فقط، يجعل من أي قرار في مجلس الأمن قرارًا غير ملزم للصهاينة ولا لإجراءات لوقف العدوان. والأهم من ذلك، لا توجد آلية لتنفيذ القرار عبر الأمم المتحدة، إلا إذا سمحت واشنطن بذلك وهذه من أهم مسخرات القرارات الدولية.
بعد القرار بوقف العدوان على الفلسطينيين، فرضت روسيا في مجلس الأمن قرارًا يقضي بإنهاء نظام العقوبات الدولية على كوريا الشمالية منذ العام 2006، الذي يقضي بمراقبة وقف برنامجها النووي. تمنعت الصين عن التصويت، لكن روسيا كانت بالمرصاد. هل هي واحدة بواحدة؟ روسيا تفهم اللعبة الأميركية بوضوح! فبعد قرار تجريم بيونغ يانغ ستتّخذ واشنطن من الأمر ذريعة لتسيير أساطيلها من أجل فرض الحظر على كوريا الشمالية العدوّ اللدود لأميركا ونظامها العالمي المتفرد. في حين أن الولايات المتحدة بعد تمنعها عن استخدام حق الفيتو ضدّ الكيان مضت بتزويده بالسلاح ليقتل به المزيد من الفلسطينيين في رفح وغيرها من المناطق في غزّة والضفّة حتّى بعد قرار وقف العدوان. ومنذ تأسيس الأمم المتحدة تستخدم أميركا منصة مجلس الأمن الدولي في حصار كوريا الشمالية، وخاصة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، كما استخدمته لسنين طويلة ضدّ إيران ومن ثمّ ضدّ العراق واليمن والسودان. ومن الواضح أن المنصة الأممية باتت تلعب دورًا جديدًا مع صعود الصين وروسيا، وتسير اليوم نحو فرض نظام عالمي جديد، ابتدأ بأخذ خطواته إلى الأمام.
لنعد للقرار الأممي 2728 الذي صدر في 25/3 (قبل أيام)، حيث اعتبرت البي بي سي القرار بمثابة “توبيخ لإسرائيل” من قبل الولايات المتحدة، التي اكتفت بعدم التصويت. وفي الحقيقة هذا كلّ ما في الأمر. فالولايات المتحدة ليست محرجة بسبب جرائم نتنياهو وحكومته وشعبه الذي يقف معه بأغلبيته، ولكن كما قلنا بايدن هو المحرج أمام الجموع التي تخرج مطالبة بوقف المساعدات العسكرية للصهاينة. صحيح أن نتنياهو بدأ بالهد والرعد وقرر عدم الذهاب إلى الولايات المتحدة، ومنع الوفد العسكري من الذهاب إلى واشنطن من أجل مناقشة خطة الهجوم على رفح، إلا أنه عاد منذ أيام، وبعد أن تعرض للتعنيف من قبل حكومته، للقبول والسماح للوفد بالذهاب للقاء المسؤولين العسكريين الأميركيين ومناقشة الخطة. ومما رشح عن نتائج القرار الصهيوني إعلان أميركي بإعادة جدولة الموعد. وهذه صفعة أخرى خفيفة تشبه ضربة الطفل بيده الصغيرة على فخذ أمه التي تجلس بجانبه لتمنعه من أكل المزيد من الحلوى خوفًا عليه، ولكنها في الوقت نفسه تقدم الطعام الصحي بسخاء، وهذه هي العلاقة التي بين نتنياهو وبايدن في هذه الأيام، أو بالأحرى ما بين الولايات المتحدة و”ربيبتها إسرائيل”، كما كنا نطلق عليها الوصف لسنين طويلة.
لا شيء تغير في هذه العلاقة، ولا شيء تغير في دور مجلس الأمن حتّى الساعة، والذي حدث في الخامس والعشرين من الشهر المنصرم، أن الولايات المتحدة استعملت المجلس لضبط حليفها المتفلت، ولم تستخدمه من أجل السلم والأمن في المنطقة، ولا من أجل تنفيذ قوانين حماية المدنيين والمنشآت الطبية والتعليمية، التي تحميها قوانين اتفاقية جنيف في زمن الحرب، بل الأكثر من ذلك، أن الولايات المتحدة قامت بإرسال شحنات طائرات مروحية لاستخدامها في ملاحقة المدنيين في غزّة. والحقيقة أن الأزمة بحسب ما يراها موقع أكسيوس، هي أزمة مصطنعة ما بين الكيان وأميركا، وصنعها نتنياهو لأسباب داخلية، ونقطة من أول السطر! وكشف الموقع أن مسؤولين في البيت الأبيض، مساء الأحد وصباح الاثنين (منذ أسبوع) أجروا مناقشات مع مساعدي بيبي، وأخبروه بأنه من المرجح أن تمتنع الولايات المتحدة عن التصويت. وأضاف المصدر في البيت الأبيض أن الامتناع عن التصويت لا يمثل تغييرًا في السياسة الأميركية، وشدد على أن إدارة بايدن لا تعتبر قرار الأمم المتحدة ملزمًا. وهذه هي كلّ القضية. وبالتالي فإن مسرح عمليات إبادة الفلسطينيين ما يزال مفتوحًا.
لكن السؤال الأهم هنا هل ما يزال مجلس الأمن مسرحًا تمرر من خلاله الولايات المتحدة ما تريده من قرارات؟ بالتأكيد لا!
هناك تغيير جذري بدأ في العام 2011، عندما حاولت الولايات المتحدة استصدار قرار بشن عملياتها، تحت مسمى التحالف الغربي على سورية، والذي أوقفه عدة مرات الفيتو الروسي وتمنّع الصين عن التصويت، ومن ثمّ الفيتوهات المضاعفة الصينية والروسية. لأن ما حدث في ليبيا، درس تعلم منه الطرفان وبالطريقة الصعبة كيف تتم اللعبة في الدوائر الأممية، خاصة بعدما خسرت كلّ من الصين وروسيا استثماراتهما في ليبيا، وتحولت البلاد إلى مسرح للفوضى والقتل والنهب. وتقف منذ العام 2011 الفيتوهات الروسية وأحيانًا الصينية عائقًا أمام القرارات الأميركية الجائرة تجاه الدول التي تعارض إرادتها، واستخدمت روسيا يوم الجمعة حق النقض الفيتو لمنع التجديد السنوي للجنة خبراء تراقب تنفيذ عقوبات الأمم المتحدة المفروضة منذ خمسة عشر عامًا على كوريا الشمالية بسبب برامج الأسلحة النووية والصواريخ الباليستية. وهنا تجدر الإشارة إلى أن روسيا أوقفت قرارًا اتّخذ في زمن لم تستعد فيه عافيتها بعد في العام 2006، كما أن النوايا الأميركية تجاه روسيا لم تتضح حتّى العام 2008، عندما رفض جورج بوش الابن انضمام روسيا للناتو.
ما يعد سخرية في الأمر، أن ماثيو ميلر، المتحدث باسم الخارجية الأميركية، وصف الفيتو الروسي بأنه يقوض بشكل سافر السلام والأمن الدوليين، “وكل ذلك من أجل المضي قدمًا في الصفقة الفاسدة التي أبرمتها موسكو مع كوريا الشمالية”. ولكن ميلر لا يتذكر كم قوضت الولايات المتحدة بأفعالها السلام والأمن في فلسطين وعند غزو العراق وأفغانستان وفرض الحصار الجائر على إيران وسورية واليمن، والعمل على إفقار الشعب السوري من خلال قانون قيصر، واليوم على الفلسطينيين وتجويعهم عبر الدعم المطلق الذي تمنحه للدولة المارقة. وحتّى الطريقة التي امتنعت بها الولايات المتحدة عن التصويت، كانت من أجل تمرير القرار بإطلاق الأسرى الصهاينة، وليس القرار بوقف الحرب خلال شهر رمضان، وهذا بحسب مسؤول أميركي كما نقل موقع اكسيوس. وهذه ليست المرة الأولى التي تمتنع فيها الولايات المتحدة عن التصويت لصالح الدولة العبرية، ففي زمن باراك اوباما، في نهاية العام 2016، امتنعت الولايات المتحدة عن استخدام حق النقض ضدّ قرار في مجلس الأمن ضدّ توسع الكيان في بناء المستعمرات في الضفّة الغربية المحتلة، وبالتالي فإن القرار لم يستطع إلزام الكيان بوقف البناء.
المشكلة في القرارات المتعلّقة بمجلس الأمن هي كما وصفتها وزيرة خارجية جنوب افريقيا، ناليدي باندور، خلال ندوة عقدتها مؤسسة كارنيغي في بلادها منذ أيام عدة، والتي حددت فيها أنه حان الوقت من أجل تغيير النظام العالمي ولكن هذا التغيير: “يجب أن يتحول من كونه مبنيًّا على القوّة ليصبح مبنيًّا على القوانين”. وهذه هي المشكلة السياسية في عمل مجلس الأمن الدولي اليوم، أن أميركا تريده مبنيًّا على قوتها الأحادية التي لا تسطيع أن تنسى أنها لم تعد تتمتع بها، والآخرين يريدونه من أجل تقويض قوتها، فيما يجب العمل على أن تبنى القرارات بما يتعلق بقوانين الأمم المتحدة التي قامت عليها في حماية حق الشعوب بالعيش بسلام والتمتع بخيرات بلادها ومقاومة الاحتلال وتجريمه. وهذا ما فشلت المؤسسة الدولية حتّى اليوم بتنفيذه بسبب العمل البلطجي الذي تقوم به دول الغرب وبخاصة أميركا من خلال تسلطها على مجلس الأمن.
أ.ش