غزة تبحث عن أفراحها المفقودة

عيدٌ في ذاكرة البيوت والرائحة

برغم مجازر الإبادة الدامية، وحرب التجويع المستمرة،سيفتحون أياديهم للحياة والفرح.

2024-04-09

كلّ تفاصيل عيد الفطر المؤنسة صارت من الماضي، لا البيوت حاضنة الطقوس كلها ظلت قائمة، ولا شمل العائلات الممزق، التي نال منها الفقد والنزوح، يسمح بإحياء بعضٍ من تلك الأجواء، سيكون العيد موعداً للذكريات القاسية.
تُعطيك سبعة أشهر من حياة الحرب، قدرة نوعية على توقّع سلوك الناس، بالنظر لمرور عددٍ من المناسبات الشخصية والعامة، على العشرات من دائرتك الضيّقة، والآلاف من الذين يحيطون بك، بالنسبة للأهالي الذين قرّروا البقاء في شمال وادي غزة.

وبرغم مجازر الإبادة الدامية، وحرب التجويع المستمرة، فإنّ العناد هو منبع كل قرار مصيري: “الناس هنا رؤسهم ناشفة”، سيعاندون كل شيء حتى مدّ البحر وجزره، لكنهم سيفتحون أياديهم للحياة والفرح.

في شارع فهمي بيك الذي يتوسط مدينة غزة، شقّ “ناشفو الرؤوس” الطريق الذي كانت تقطعه أكوام الركام، وأعادوا إحياء سوق المدينة المركزي.

صحيح أن مظاهر عيد الفطر ليست ذاتها التي تبهرنا في كل عام، لكنّ وجود أيّ مظهر بحد ذاته في وقت عصيب كهذا، أمر يثير الذهول: “من وين بيطلعوا الناس.. في عيد يا يوسف والله”، قال زميلي المصوّر محمد حين وصلنا، ثم وجدت نفسي مذهولاً أكثر منه: “آه والله كعك وألعاب والعالم بتلفّ على محلات الملابس تكسي أبناءها”.

على أنه ليست المظاهر فقط، هي معيار الحكم على ما يعيشه الأهل هنا، وما تخبئه النفوس كثير، ستستدعي الذاكرة الجمعية للفاقدين، كلّ الطقوس البهيجة التي لم يهرس التكرار السنوي ألقها، تلك، التي كانت البيوت المهدومة، والأبناء الشهداء، عمادها.

في توقيت كهذا من كل عام، تبدأ معارك النساء، يتفحّصن نظافة كل بلاطة في المنزل، يغسلن السجاد والشبابيك، وما وصلت إليه أياديهن من مساحة في السقف، يعطّرن الهواء، يشغّلن أولادهن لتنظيف الشارع والحارة، هذا كله والزوج أسير التعليمات الصارمة والمهمات الشاقة التي تحددها الزوجة الصارمة، التي تبدو وكأنها في مهمّة تحرير البلاد، حتى اللحظة ليس بوسع زوجٍ غزاوي أن يفهم، لماذا يفكّ الشبابيك في كل عيد، ويغسل زجاجها واحداً تلو الآخر، ثم يعيد تركيبها مجدداً، إذ إنه وفق معرفتي، لم يأتِ ضيف من الزائرين في يوم ما، ليقدّم تقييماً عن نظافة الشبابيك ورائحتها، وليس بوسعي أن أفهم أيضاً، لماذا لا يمتلك الرجال، وأنا منهم، خيار الرفض.

أيّ إذعان هذا لتلك التعليمات التي لا تنتهي؟

على أن كومة المهام المنزلية الشاقة، ليست سوى الحلقة الأخيرة من مسلسل تحضير طويل وشاق، قد يبدأ قبل أن يبدأ شهر رمضان أساساً، من مثل شراء ملابس الأطفال والكبار، انتقاء الشوكلاته التي ستصبح في يوم العيد الأول، حديث زائري الأرحام، ومحطّ تندّرهم عن أيّ نوعٍ ألذّ من الآخر، ثم شراء وتجهيز السمك المملّح “الفسيخ”، إضافة إلى تجهيز ملابس صلاة العيد. المهم، في نهاية كل ما سلف ذكره، أنه في أحيان كثيرة، يستسلم الرجال وزوجاتهم وأبناؤهم في يوم العيد الأول لنداء الجسد المنهك، ويغطّون في نوم عميق، لا يقطعه سوى زيارة المحبين.. آه والله هذا ما يحدث.

كل ذلك وأكثر منه من تفاصيل، صار من الماضي، لا البيوت حاضنة تلك الطقوس كلها ظلت قائمة، ولا شمل العائلات الممزق، التي نال منها الفقد والنزوح، يسمح بإحياء بعضٍ من تلك الأجواء، سيكون العيد موعداً للذكريات القاسية، مَن نزحوا، ومَن استشهدوا، ومن أصيبوا وبترت أطرافهم، من فقدت أخبارهم، تثير كل تفصيلة من تلك، شجوناً لا تنتهي، تقول الحاجة أم نضال التي فقدت إحدى بناتها مع أطفالها جميعهم: “استشهد نضال قبل سنوات، وصرنا نجاهد حتى نصنع أجواء العيد، في هذه الحرب، استشهدت أخته أم عامر وأولادها كلهم، يعني جولة العيد، نفص منها بيت وعائلة وكاملة، ومنزلنا دمّروه، وسبعة بيوت من دائرة الأقارب الضيقة دمّرت أيضاً، ما يعني أن دعائم إقامة طقوس العيد قد بُدّدت تماماً”.

بالنسبة إلى أم نضال، والآلاف من أشباهها، لا مناص من صناعة الفرح، تقول: “منذ أيام ندير نقاشاً عائلياً عن شيء مميّز يمكن أن نطهوه في يوم العيد الأول، الفسيخ مفقود، والخضار نادرة، كل الخيارات ضيّقة، لكننا سنفرح”.

 

أ.ش

المصدر: الوفاق - وكالات