"وحدها الأرض لا تُعوّض"..

أصحاب المهن الحرّة جنوبي لبنان يعيدون تعريف “الخسائر”

برغم شدّة الأضرار والقصف، كان لأهالي جنوب لبنان الصامدين العاملين في المهن الحرة، موقف ثابت في مواجهة العدوان الإسرائيلي، حيث أصرّوا على الاستمرار في مزاولة أعمالهم، ومعظمها كانت في أراضٍ مفتوحة معرّضة للقصف في أي وقت.

2024-04-20

ألقى العدوان الإسرائيلي بتداعياته على كلّ أشكال الحياة في قرى جنوب لبنان الحدودية، وقد طالت على وجه الخصوص المهن الحرة التي تشكّل النسبة الأكبر من النشاط الاقتصادي للجنوبيين في هذه المناطق، يأتي في مقدّمتها المزارعون وصيّادو الأسماك والنحّالون وغيرهم من أصحاب هذه المهن.

 

وبرغم شدّة الأضرار والقصف، كان للجنوبيين الصامدين العاملين في هذه المهن، موقف ثابت في مواجهة هذا العدوان، حيث أصرّ الأهالي على الاستمرار في مزاولة أعمالهم، ومعظمها كانت في أراضٍ مفتوحة معرّضة للقصف في أي وقت، وتحت أنظار طائرات الاحتلال، مواجهين التحديات بكلّ عزيمة وإصرار، إن كان عبر خلق حلول بديلة لمزاولة أعمالهم، أو استبدالها بمهن أخرى أقلّ خطورة، إلا أن الأمر غير المقبول لديهم هو ترك أرضهم وأرزاقهم والنزوح بعيداً عنها.

 

لم تمنع قذائف المدفعية ولا الغارات الحربية علياء عبد الحي من الانطلاق صباحاً نحو حقل التبغ المواجه لمواقع الاحتلال في قرية يارين الجنوبية الحدودية، وهي التي لم تفارق منزلها منذ اندلاع الحرب في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، برغم نزوح العديد من سكان القرية إلى الأقضية المجاورة من جراء المخاطر المحدقة بسكان القرى الحدودية.

 

علياء لم تنزح، لم تترك أرضها وشتول التبغ، لكنها أصيبت إصابة بالغة بغارة إسرائيلية استدعت دخولها للعناية الفائقة، صباح الثاني من نيسان/أبريل، تاركةً خلفها قصةً مشرّفةً من قصص الصمود والمقاومة، ستشهد عليها الأجيال والأرض، وسيتذكّر الاحتلال مرارتها التي تفوق مرارة التبغ.

 

تحكي شقيقة علياء  عن رحلة الصمود هذه، وكيف حاول الكثيرون إقناع علياء وابنها بمغادرة القرية، إلا أن ردّها الدائم كان الامتناع والتوكّل: “أنا ما بترك أرضي، يلي كاتبه الله بدّو يصير”.

 

تجسّد قصة علياء جزءاً من مشهد الصمود الذي يعكسه العديد من أصحاب المهن الصامدين في القرى الجنوبية الحدودية، حيث يعمل معظمهم في أراضٍ مفتوحة ومواجهة لمواقع الاحتلال واستهدافاته.

 

“الخسائر كلّها تعوّض، المهم مقاومتنا بخير”

 

يتحدّث أبو حسين سليم صياد الأسماك، عن واقعه الحالي في مهنة صيد السمك في بحر الناقورة قائلاً: “برغم العدوان المستمر، ما زلنا نبحر سعياً لاستحصال أرزاقنا، لم يعد بإمكاننا التحرّك في البحر كما في السابق، لكنّنا في كلّ الأحوال لن نترك بحرنا حتى لو عملنا ساعتين فقط في اليوم”. ووفقاً لسليم، يبلغ عدد الصيّادين الصامدين حالياً ما يقارب الـ10، يعملون على مرمى حجر من موقع رأس الناقورة الإسرائيلي، وتحت أنظار المسيّرات التي لا تفارق سماء المنطقة.

 

ويؤكد أبو حسين في حديثه أنه” منذ أسبوعين استشهد زميلنا الصياد عصام جهير في غارة من مسيّرة على قرية الناقورة، هذه الشهادة زادتنا عزماً وتمسّكاً بأرزاقنا ومواساةً لإخواننا المقاومين، نحن نجاهد في سبيل عيالنا، أما هم فيجاهدون في سبيلنا كلّنا”.

 

ومن مهنة صيد السمك إلى تربية النحل، يروي النحّال أحمد أمين من قرية البيّاضة الحدودية عن فقدانه لثروته النحلية التي كانت تقدّر بـ54 قفير نحل قبل بدء الحرب، لكن وبسبب وجودها في وادي “حامول” المتاخم للحدود، والذي يتعرّض يومياً للقصف الإسرائيلي المدفعي، لم يعد بإمكانه نقلها.

 

وفقاً لأحمد، كان البحث عن البدائل هو الحل وليس ترك المهنة. عمل على تجهيز صناديق جديدة لوضع “طرد” النحل فيها، وهي عبارة عن قفائر النحل التي تنتقل من مناطق بعيدة وتتجمّع في البساتين المجاورة، وقد نجح في التقاط عدد منها ووضعها في أرضه القريبة من المنزل، كما أنه بادر لمساعدة عدد من النحالين في المنطقة للاستمرار في عملهم وتحصيل إنتاجهم من العسل الجنوبي، واختصر أحمد موقفه بالقول: “الخسائر كلّها بتتعوّض، المهم مقاومتنا بخير”.

 

تفاوت في الأضرار

 

في السياق، يقول محمد الحسيني، رئيس نقابة تجمّع مزارعي الجنوب عن الواقع المتفاوت ما بين القرى الجنوبية المختلفة.

 

وفقاً للحسيني، فإنّ المهن الحرة في المنطقة الواقعة ضمن مساحة 5 كلم2 عن الحدود مع فلسطين المحتلة، هي متوقّفة بشكل شبه كلّي بسبب القصف الإسرائيلي والغارات، أما في المناطق الواقعة ضمن مسافة 10 كلم2 فإنّ التأثّر أقلّ، فالجنوبيون الصامدون في هذه المناطق يمارسون نشاطهم المهني بشكل حذر في ظل القصف والدمار، أما في الخط الأبعد من ذلك فإن النشاط المهني قائم مع بعض الاستثناءات المتعلقة بالصعوبات الاقتصادية.

 

ويلفت إلى أن المخاطر التي تواجه أصحاب هذه المهن عديدة، يأتي في مقدّمتها القصف الفسفوري العنيف الذي طال القرى الحدودية، حيث تشير الإحصاءات التقديرية لوزارة الزراعة إلى تضرّر ما يقارب الـ 500 ألف شجرة حرجية ومثمرة من جراء المادة الفسفورية الحارقة والملوّثة، وإتلاف ما يقارب الـ 1.100 قفير من النحل.

 

وفي إطار متابعته مع اتحاد بلديات صور والمنظّمات الدولية، أكد الحسيني أن المبادرات في هذا المجال ما زالت محصورة بالمستوى النظري، بانتظار أن تنتهي الحرب ليتمّ إعداد إحصاءات دقيقة حول حجم الأضرار والخسائر، والبدء بعملية التعويض ومعالجة الأضرار البيئية والزراعية.

 

حلول بديلة 

 

انتقل باسم محمد للعمل في إنتاج الفحم الطبيعي في بقعة أرضٍ مجاورة لمنزله الكائن في قرية شمع الحدودية، بعد أن اضطرّ لترك عمله في الزراعة بسبب موقع الأرض التي كان يعمل بها، المتاخمة للحدود مباشرةً.

 

يحكي باسم عن تجربته الجديدة، وعن سعيه للحصول على الحطب اللازم من أصحاب بساتين الليمون القريبة، واصفاً الأمر بأنه “سبيل آخر لكسب الرزق، وبرغم المخاطر وصعوبة التنقّل بين البساتين، إلا أنني أحب هذه الأرض ومتعلّق بها، وحتى لو لم تنجح تجربتي هذه سأسعى لأجد عملاً آخر لكن لن أفارق منزلي وأرضي”. ووفقاً لباسم، فإنّ مهنته الجديدة تؤمّن له ما يقارب الـ200 كيلو من الفحم شهرياً، ينقلها إلى القرى المجاورة ويبيعها لأصحاب المتاجر هناك، ويستفيد من ثمنها في تأمين حاجياته.

 

في القرية عينها، نزح الشاب علي الشعبي مع عائلته من قريته طيرحرفا الحدودية نظراً لكثافة القصف والدمار الذي طال القرية منذ بداية الحرب. يذكر علي أنه فور نزوحه، عمد إلى نقل مجموعة من الدواجن والمواشي التي كان يهتم بتربيتها إلى مزرعة أخرى في قرية شمع، وهو لا يزال يعتني بها ويعيش من مردود إنتاج البيض والحليب. ويقول: “أصل إلى المزرعة منذ الصباح الباكر وأعمل هنا معظم الوقت على وقع أصوات قذائف المدفعية التي تسقط في الأودية القريبة، أجمع أسبوعياً ما يقارب الأربعين بيضة وأوصلها بدراجتي إلى المحال والدكاكين في القرى المجاورة”، مؤكداً أنه لن يرحل إلى أي مكان ويترك مصدر رزقه، “سأظل أهتم بها مهما طالت الحرب واشتدّت الظروف”.

 

عند كل محطة من محطات الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، يثبت الجنوبي أنه جزء من مشهد المقاومة والنضال، وهو المؤمن دائماً أن مصير نضاله هذا متوّج بالنصر الحتمي مهما تعاظمت التضحيات وكثرت التحديات، لأنّ الجنوب في مفهومه الإنساني والروحي والجهادي، لم يكن يوماً مجرّد أرض؛ بل كان قضيّة.

 

أ.ش

المصدر: الميادين