بالوعي والمعرفة تفرض المرأة حضورها في المجتمع

علينا أن نعيش إنسانيّتنا في إنسانيّة الآخر، أن لا نعيش انغلاق الإنسانيَّة، ليعيش الإنسان في زنزانة من ذاته

السيد محمد حسين فضل الله

يريد الله للإنسان أن يتأنسن، أن يخرج من حيوانيّته التي تتحرّك في غرائزه، إلى عقله الذي ينطلق من أجل أن يدرس الكون كلّه، ليكتشف أسرار الله في الكون، ليبدع من خلال ذلك العلم الّذي يمكن أن يطوِّر الكون ويطوِّر الحياة، ويجعلها حياة متحرّكة تنتج للإنسان كلَّ انفتاحات الإبداع، وكلَّ انفتاحات التفوّق. وأراد الله لهذا العقل الإنساني أن يكون الصِّلة بينه وبين النّاس. فالله يريد لنا أن نتحرّك بعقولنا، وعندما خلق الله لنا الغرائز، أراد للغرائز أن تتعقلن، بحيث تنظّم حركتها ولا تنطلق بالفوضى…

وقد ورد في الحديث، أنَّ الله “لمّا خلق الله العقل، قال له أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر ـ طبعاً العقل ليس شيئاً مادّياً، ولكن هذا وارد على نحو الكناية، لتسهيل الفكرة ـ ثم قال له: وعزّتي وجلالي، ما خلقت خلقاً هو أحبّ إليّ منك، ولا أكملك إلّا فيمن أحبّ، أمّا إنّي إيّاك آمر، وإياك أنهى، وإيّاك أعاقب، وإيّاك أثيب”.

حتى إنّ الله سبحانه وتعالى عندما يثيب الإنسان على عمله الصالح، فإنه يثيبه بحجم عقله، فقد يكون العقل صغيراً، فيكون ثوابه صغيراً، رغم أنّ عمله عمل كبير، وإذا كان عقله كبيراً، فإنّ الله يعطيه الثّواب الكبير، حتى لو كان عمله صغيراً.

قيمة العقل

إنَّ للعقل، قيمة كبرى في طبيعة إنسانيّة الإنسان، فنحن عندما نعيش إنسانيّتنا، فإنها لا تتمثّل في أجسادنا، وإن كان للأجساد دور، ولكنها تتمثل في العقل الذي يبدع حركة الإنسان في إنسانيّته، وفي القلب الذي يخفق وينبض لينفتح على المحبّة التي تشمل كلّ الحياة… لتبدأ من محبّة الله، ومن محبّة الإنسان، ومن محبّة الحياة، لأنّ قصّة المحبّة، أنّها تجعل الإنسان إنساناً، وليست مجرَّد خفقة قلب، أو حركة غريزة، ولكنّ المحبَّة نور يشعّ في عقل الإنسان، من أجل أن يحبّ الإبداع ويحبّ الحقيقة، وفي قلب الإنسان، من أجل أن يحبّ الإنسان الآخر…

وهذا هو الذي يجمع بين الإنسان والإنسان. ونحن نقول دائماً، إنَّ علينا أن نعيش إنسانيّتنا في إنسانيّة الآخر، أن لا نعيش انغلاق الإنسانيَّة، ليعيش الإنسان في زنزانة من ذاته، ولكن أن ننفتح على الإنسان الآخر، لنرى أنَّ الإنسانيَّة تجمعنا. وقد ورد في الحديث عن النبيّ محمَّد (ص): “لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه”. فالنّبيّ (ص) يقول لك: كن أنت الآخر، تقمّص شخصيّته، انزل إلى كلّ مشاعره وأحاسيسه، فأحبّ ما يحبّ كما لو كنت أنت، واكره ما يكره كما لو كنت أنت…

مسؤوليّتنا حيال العقل

وعلى هذا الأساس، فإنّنا مسؤولون أن ننمّي عقولنا كما ننمّي أجسادنا، فكما أن هناك فقراً في الدّم، وضعفاً في البدن، فهناك فقر في العقل وضعف في حركته.. ولذلك، فإنّ من مسؤوليتنا إذا أردنا أن نرتفع في كلّ ما يريد الله لنا الارتفاع، أن نرتفع في بناء الحياة على الأسس التي يحبّها الله ويرضاها فيما ينفع النّاس {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ}(الرّعد: 17)؛ أن نرتفع في عقولنا فنمنحها القوَّة، أن نفكّر، لأنّ التفكير هو الذي ينمّي للإنسان عقله، تماماً كما يقول العلماء، إنَّ الإنسان إذا لم يحرّك عضواً من أعضائه، فإنّ هذا العضو يضمر، وربما يفقد حيويّته…

أن نفكّر دائماً في كلّ شيء.. ليس هناك أيّ حاجز يحجزنا عن التفكير، لأنَّ الله خلق العقل حرّاً، وقال له فكّر كما تريد، ولكن تحمَّل مسؤوليَّة تفكيرك؛ كيف فكّرت، وما هي أدواتك في الفكر.. ولم يفرِّق في ذلك بين رجلٍ وامرأة. فالله أراد للمرأة أن تنمّي عقلها، كما أراد للرَّجل أن ينمّي عقله.. ليست المرأة مجرَّد جسد يتحرّك في معنى جسديّته، ولكنّها إنسان وكيان مسؤول عن أن يفجِّر طاقته العقليّة، على أساس أن تشارك في بناء الحياة. ليست القضيّة أن تنتج المرأة الحياة في ولادتها للإنسان، ولكن القضيّة هي أن تنتج الحياة في ولادتها للفكر، وفي ولادتها للإبداع.

مسؤوليّة المرأة في المواجهة

وفي ضوء ذلك، نحن عندما نواجه هذه التطوّرات التي تحدث في العالم، سواء كانت تطوّرات سياسيّة، أو تطوّرات أمنيّة، أو اقتصاديّة، أو ثقافيّة، نحن نريد للمرأة أن تشارك في خطّ المواجهة للتطوّرات السلبيّة التي تتحرّك من خلال المستكبرين، ليحتلّوا بلداً هنا، وليسرقوا ثروة هناك، وليسيروا في الخطوط التي تسقط فيها الشّعوب وتضطهد قضاياهم، عندما نعيش هذا الوضع العالمي الاستكباري، ولا سيَّما فيما تمثلّه الولايات المتحدة الأميركيّة في إدارتها الحاليّة هذه، التي صرّح بعض مسؤوليها أنّهم يعملون من أجل أن يكونوا قيادة العالم، أن يفرضوا علينا قيادتهم، وأن تكون أميركا إمبراطوريّة العالم، لنكون نحن كشعوب مستضعفة وكعالم ثالث على هامش سياستهم واقتصادهم وأمنهم.

لذلك، نحن في هذه المرحلة من الزمن، لا بدّ لنا أن ندرس كيف تتحرّك أميركا في هذا الجنون الاحتلاليّ، وفي هذه الهيمنة الاقتصادية، وفي ما تضغط به على المستضعفين.. لا بدّ أن نفكّر كيف نعالج المسألة، رجالاً ونساءً.. على المرأة أن يكون لها ثقافتها السياسيّة التي تجعلها قادرة على أن تفكّر في مستقبل أمّتها، وأن تكون لها ثقافتها العلميّة التي تجعلها قادرة على أن ترتفع بأمّتها إلى الدرجات العليا في العلم. ونحن لاحظنا من التجربة، أنّ هناك في العالم كلّه ـ ولا نتحدّث عن المسلمات فحسب ـ الكثير من النساء اللاتي يملكن القدرة السياسيّة على مستوى العالم، وأنّ هناك من النساء من يملكن الدرجات العلميّة العليا التي لا تختلف فيها المرأة عن الرّجل، واللاتي يملكن القدرة على السّلطة في أكثر من بلد إسلامي أو غير إسلامي.

العلم أوّلاً

لذلك، نحن نريد لبناتنا ولنسائنا أن يقبلن على العلم، بحيث يتعلَّمن ويتفوَّقن ويصلن إلى أعلى درجات العلم، وينافسن الرّجال في ذلك كلّه.

ونحن نعرف في القرآن الكريم، أنَّ الله جعل ميزان القيمة هو العلم: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً}[طه: 114]. إنَّ الإنسان كلّما وصل إلى درجة من العلم، عليه أن ينطلق إلى الأعلى فالأعلى؛ رجلاً كان أو امرأةً، لأنَّ مجتمعنا إذا استطاع أن يتكامل فيه المرأة والرّجل، في العلم والسياسة والاقتصاد، فإننا نستطيع أن نحقّق الكثير من الاكتفاء الذّاتي في بلوغ المواقع الكبرى.

معيار الكفاءة

ولذلك، فنحن أيضاً نريد أن نقول للمرأة، سواء كانت بنت فلان الكبير أو بنت فلان غير الكبير، إنَّ عليها أن تبني نفسها على الكفاءة، وعندما تريد أن تنطلق بالمسؤوليَّة، سواء في الإدارة أو في النيابة أو في الوزارة أو في أيّ مجال، لا بدّ أن تكون أيضاً في موضع الكفاءة، لأنّ قصّة المسؤوليّة ليست امتيازاً، بل هي تكليف ومسؤوليَّة.

وليس لمجرَّد أن يصبح شخص وزيراً أن نصفّق له، بل علينا أن ننظر؛ هل هو في موقع الوزارة أو لا؟ هل هو في موقع النّيابة أو لا؟ هناك بعض النوّاب تراه في كلّ الجلسات لا ينطق بشيء.

مسؤوليّة فرديّة

إنَّ المسألة هي أنَّ الإنسان لا يملك إلا نفسه، يعيش في الحياة بما لديه من عناصر الشخصيَّة الفاعلة القويَّة، ويقف غداً في يوم القيامة أيضًا بنفسه. المسؤوليّة في الإسلام فرديّة، فالإنسان لا بدّ أن يبني نفسه بناءً قويّاً صالحاً فاعلاً…

لنكن في هذا العالم، وفي شعبنا، وفي أمّتنا.. لنكن فاعلين، وعلينا أن لا نكون منفعلين، حتى نستطيع أن نصنع لشعبنا الحريّة والقوَّة والاستقلال، وحتى نستطيع أن نصنع لأمَّتنا العزّة والكرامة، وحتى نستطيع أن نقول للعالم كلّه، إنّ المرأة المسلمة والمرأة المؤمنة، تماماً كما هو الرَّجل المسلم والرّجل المؤمن، يمكن له أن يصنع الحياة على صورة الخير والعدل.

هذا هو ما نفكّر فيه، أن نتحرّك لنصنع الحياة بالعقل والقلب والحركة والنّشاط: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}[التّوبة: 105].