انتفاضة طلابية ضد الحرب على غزة..

الجامعات الأميركية محرّك “الثورة الشعبيّة”؟

داوم طلاب الجامعات الأميركية على التظاهر مناصرةً لغزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وتعاظمت الاحتجاجات مع تصاعد عمليات الهدم والتدمير والتجويع وقتل الأبرياء في القطاع.

2024-04-27

ثورة الضمير الإنساني التي يقودها طلاب الجامعات الأميركية، ما زالت آخذة بالتصاعد بعد مضي أكثر من أسبوع، احتجاجاً على الإبادة الجماعية والمجازر التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي ضد المدنيين العُزَّل في غزة.

 

وداوم طلاب الجامعات الأميركية على التظاهر مناصرةً لغزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وتعاظمت الاحتجاجات مع تصاعد عمليات الهدم والتدمير والتجويع وقتل الأبرياء في القطاع، ولم يعد الاقتصار على الشجب والتنديد يُقنع الشباب الجامعي، لقد أرادوا خطوات عملية أكثر ردعاً للاحتلال الإسرائيلي، تجبره على التوقف عن أعمال الإجرام التي يرتكبها، فنصبوا “مخيم التضامن مع غزة”، وقادوا انتفاضة من الحرم الجامعي.

 

مطالبة بقطع العلاقة مع الاحتلال

 

كان طلاب جامعة “كولومبيا” في “مانهاتن” الرواد الأوائل للتظاهرات الطلابية الحالية المناصرة لغزة، فقد نصبوا الخيام واعتصموا في حرم الجامعة، في السابع عشر من نيسان/ أبريل الجاري، وأعلنوا أنهم باقون في الساحات حتى تسحب الجامعة استثماراتها من الشركات الداعمة للاحتلال الإسرائيلي، وتوقف التعاون والعلاقات البحثية  والاستثمارات المقدمة للجامعات الإسرائيلية.

 

ودعا المتظاهرون إلى وقف دائم لإطلاق النار في غزة، ووقف المساعدات العسكرية الأميركية لـ”إسرائيل”، ومنع التواطؤ الأميركي مع حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال في غزة ، والعفو عن الطلاب وأعضاء هيئة التدريس الذين تعرضوا لإجراءات تأديبية أو الطرد بسبب الاحتجاج.

 

ولم يرضخ الطلاب للتحذيرات التي أطلقتها الجامعة، بضرورة فض الاعتصام، فقامت شرطة نيويورك بإلقاء القبض على أكثر من 100 طالب من المعتصمين، والتحقيق معهم، ومع ذلك، لم تتوقف الاحتجاجات في الجامعة، وأقام المعتصمون مخيماً خارج الحرم الجامعي، فيما أغلقت الجامعة أبوابها.

 

وعقب الأحداث، علقت جامعة “كولومبيا” المحاضرات، وانتقلت إلى الدروس الافتراضية، وبدأ يلوح في الأفق شبح الإطاحة بالعام الدراسي إذا استمرت التظاهرات، وأثار التصعيد حفيظة هيئة التدريس في الجامعة، التي رأت أن تلك الإجراءات اعتداء سافر على حقوق الطلاب، وسابقة خطيرة لمنع الحريات.

 

تداعيات واسعة

 

وفي غضون أيام، انتشرت حركة من التظاهرات على نطاق واسع في صفوف طلاب جامعات عديدة، لا سيما الرائدة منها، في أنحاء الولايات المتحدة كافة، وذلك تضامناً مع طلاب جامعة “كولومبيا” الذين تم اعتقالهم، وانضم إلى الحراك الداعم لغزة طلاب من جامعات “براون” و”بريستون” و”أوستن” وميشيغان” و”كاليفورنيا” و”معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا”، و”ييل” و”نيويورك” و”شمال كارولينا-تشابل هيل” و”جنوب كاليفورنيا” و”هارفارد” و”تافتس” و”إيمرسون” و”جورج تاون” و”جورج واشنطن”، وغيرها.

 

واستقطبت الاعتصامات المؤيدة للقضية الفلسطينية طلاباً جامعيين وأعضاء من هيئة التدريس، من خلفيات متعددة، وتشملهم الديانات الإسلامية والمسيحية واليهودية، وشهدت حركة التضامن إقامة صلوات بين الأديان وعروضاً موسيقية، فضلاً عن مجموعة متنوعة من البرامج الدراسية.

 

وعقب الانتشار الواسع للحراك، شنّت السلطات حملة اعتقالات جماعية بحق عدد من الطلاب في جامعات الساحل الشرقي وجامعة “جنوب كاليفورنيا” و”نيويورك” و”ييل” و”تكساس” وغيرها، ونادت شخصيات سياسية لاستخدام وحدات “الحرس الوطني” ضد الطلاب المناهضين لـ”إسرائيل” في جامعة كولومبيا.

 

ووقّع أكثر من 1400 أكاديمي على رسالة مفتوحة تندّد بتصعيد الأحداث في جامعة “كولومبيا” وكلية “بارنارد” التابعة لها، واعتبرت استدعاء الشرطة لفض الاعتصام وتجريم الطلاب، شبيهاً بالممارسات العنيفة التي تقوم بها سلطات الاحتلال في غزة، والتزم الموقّعون بمقاطعة نشاطات الجامعة كافة وعدم التعاون معها، إلى حين إلغاء المخالفات الواردة بحق الطلاب المتظاهرين، وأعلنوا تأييدهم لمطالب الحركة الطلابية المتضامنة مع غزة.

 

تخوف وقلق رسمي

 

كان التظاهر الذي قام به طلاب جامعة “كولومبيا” احتجاجاً سلمياً بكل المقاييس، وأثار إرسال شرطة مكافحة الشغب المسلحة إلى الحرم الجامعي، واعتقال الطلاب، وإن تم الإفراج عنهم لاحقاً، غضب الرأي العام، الرافض للقمع الطلابي ومنع حرية التعبير، ودفعت الأحداث باتجاه تداعيات أوسع، تعدَّت الجامعة ومدينة نيويورك، واستنفرت الأحداث الدوائر الرسمية الحكومية على المستويات كافة.

 

وشغلت الأحداث الجارية دوائر صنع القرار الأميركي، ووصلت إلى رأس السلطة، ومن البيت الأبيض أصدر الرئيس الأميركي، جو بايدن بياناً بمناسبة عيد الفصح اليهودي، ندّد من خلاله بالاعتصامات التي تقام في الجامعات، وعدَّها دعوة إلى العنف ومعاداة السامية.

 

وتتخوف السلطات الأميركية من تعاظم التيار الليبرالي في الجامعات، لا سيما في جامعات النخبة، وكانت التحقيقات تدور حول التعدي على ممتلكات الغير والمزاعم المتعلقة بمعاداة السامية، لكن الكثير من التركيز كان متجهاً نحو المتظاهرين المؤيدين للقضية الفلسطينية.

 

وتدرك السلطات أن هذا الحراك غير اعتيادي، بل هو  مؤشر على تحوّل في الرأي العام الأميركي، الذي سيشكل مستقبل الولايات المتحدة، وربما في غضون سنوات سيكون هذا الاتجاه هو السائد في البلاد، لقد أصبح الشباب قادرين على صنع قرارهم بناء على الحقائق التي تبدّت أمامهم، بعيداً من سطوة اللوبيات، وخصوصاً اللوبي الصهيوني المتجذر في دوائر صنع القرار الأميركي.

 

وكان تدخل الكونغرس في الخريف الماضي، قبل أحداث جامعة كولومبيا الأخيرة، واستجوابه رئيسات جامعات أميركية عريقة، مثل رئيسة جامعة هارفارد “كلودين جاي”، ورئيسة جامعة بنسلفانيا “ليز ماجيل” ورئيسة معهد ماساشوستس “سالي كورنبلوث”، في جلسات استماع حول معاداة السامية، ودَفْع بعضهن إلى الاستقالة أو التوصية بالإقالة أو الإقالة فعلياً، بمنزلة دلالة على مقدار التخوّف الرسمي من امتداد الاحتجاج الطلابي، وتحوّله إلى ثورة متنامية لا يحسب عقباها.

 

وترى رئيسة جامعة كولومبيا نعمت شفيق، ومسؤولون أميركيون أن التظاهرات الطلابية تخضع لمحرضين من الخارج، وصرح عمدة مدينة نيويورك، إريك آدامز بأن السلطات حددت “محرضين خارجيين” تسببوا في مشاكل في الاحتجاجات الطلابية في “كولومبيا” وجامعة “نيويورك” وجامعات أخرى في المدينة. في حين ادّعى رئيس مجلس النواب الأميركي مايك جونسون أن حركة المقاومة الإسلامية (حماس) تدعم احتجاجات جامعة “كولومبيا”.

 

دور تاريخي في النضال

 

لعب طلاب الجامعات الأميركية دوراً تاريخياً في النضال الوطني لتغيير واقع متعلق بقضايا داخلية وخارجية، واعتصموا مراراً داخل الحرم الجامعي أو انتفضوا في الشوارع لتحقيق مطالب يرونها عادلة، وكان أشهر حركات الكفاح الطلابية، الاحتجاجات التي قادها طلاب جامعة “هوارد” عام 1968 على الحرب في فيتنام والعنصرية ضد السود، والتي أدت إلى اقتحام ألف شرطي حرم الجامعة، واعتقال 700 شخص، وشمل الحراك حينذاك، شريحة واسعة من فئات الشعب الأميركي، وأنتج ثورة وطنية عارمة، أدت في نهاية المطاف إلى الرضوخ لمطالب المتظاهرين.

 

وبرز في الحراك الطلابي كذلك: تظاهرات طلاب جامعة “هارفارد” عام 1969، التي نجم عنها تغييرات، تضمنت إنشاء قسم للدراسات الأفريقية- الأميركية. وأدت تداعيات أحداث جامعة ولاية “كينت” عام 1970، والتي قُتل فيها أربعة طلاب على يد قوات الأمن إلى إضراب عام في صفوف الطلاب، كان له تأثير كبير على سياسات البلاد. وفي عام 1985، أدت احتجاجات الطلاب في حرم جامعة “كاليفورنيا بيركلي”، إلى سحب استثمارات مليارية من حكومة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.

 

وهذه المناسبات وغيرها، نجحت في تشكيل ضغط حقيقي، دفع الحكومات الأميركية في وقتها إلى الرضوخ للمطالب الطلابية، لذلك تنظر السلطات الأميركية إلى الحراك الحالي بعين القلق، وهو ما دفعها إلى اتخاذ إجراءات حازمة، وصفت بأنها مبالغ فيها، وترقى إلى مستوى القمع وتكميم الأفواه، وذلك للحيلولة دون تحول التظاهرات إلى ثورة اجتماعية وسياسية شاملة لا تقف عند التعاطف مع غزة، ولا تقتصر على طلاب الجامعات.

 

ويعد الحراك بيئة خصبة، يمكنه اجتذاب جماعات طلابية أخرى تحمل توجهات سياسية يسارية، أو انضمام الحركات المناصرة للقضايا الاجتماعية والبيئية مثل الحركات النسوية وأنصار البيئة، أو أن يكون منطلقاً للأقليات التي تعاني من التمييز، وغيرها من فئات الشعب التي تحمل مبرراً للتظاهر والاحتجاج.

 

تمدد جغرافي وإنساني

 

وتنظر السلطات الرسمية في أوروبا بعين التوجس للأحداث الجارية في الولايات المتحدة، فلطالما كانت التوترات الشعبية المناهضة للعنصرية وغيرها من الانتفاضات الشعبية الأميركية، لها انعكاسات بارزة على الطرف الآخر من المحيط، وهو الأمر الذي قد يفتح جبهة صراع في أوروبا، ويجلب هزات عنيفة  في المنطقة.

 

ويعدّ المناخ العام في أوروبا مهيأ بجدارة لتصعيد موجة التضامن مع غزة،  فقد قادت معركة “طوفان الأقصى” وما تبعها من عدوان إسرائيلي وانتهاكات صارخة في غزة إلى انتشار التيار الشعبي الداعم للقضية الفلسطينية في فضاء جغرافي وإنساني واسع، وقامت تظاهرات ضخمة في بلدان أوروبية عديدة منددة بالعدوان على غزة، وكان عنصر الشباب الفتيل الذي أشعل الحراك، وقامت عليه التظاهرات في الغالب.

 

وفي بريطانيا، يبدو التحول كبيراً في عنصر الشباب، الذي يُبدي تفاعلاً أكبر مع القضية الفلسطينية، ولعل انتخاب الطبيب البريطاني الفلسطيني غسان أبو ستة،  رئيساً لجامعة “غلاسكو”، التي تعد واحدة من أقدم جامعات بريطانيا، والأكبر في أسكتلندا من حيث عدد الطلاب، موشراً على التعاطف المتزايد للحركة الطلابية مع القضية الفلسطينية.

 

وقد استطاع أبو ستة، الذي قدم مساهمات كبيرة في معالجة المصابين في الحروب، لا سيما الحرب المستمرة في غزة، أن يحصد 80% من أصوات طلبة جامعة “غلاسكو”، في آذار/مارس من العام الجاري.

 

وفي باريس تظاهر طلاب في الشهر الجاري، أمام جامعة “السوربون” احتجاجاً على المجازر الإسرائيلية في القطاع، وأظهروا رفضهم لسياسات فرنسا حيال الحرب على غزة، وطالبوا بفرض عقوبات على “إسرائيل”. وفي إطار  دعم غير مسبوق، نظم طلاب في عدة جامعات حول العالم احتجاجات داعمة لـ “مخيم التضامن مع غزة” في جامعة كولومبيا.

 

ومع إعلان الجماعات الطلابية الأميركية المناهضة للحرب في غزة نيتها تنظيم احتجاجات كبيرة في مؤتمر “اللجنة الوطنية الديمقراطية” المزمع عقده في شيكاغو في آب/أغسطس المقبل، لا يبدو في الأفق ما يشير إلى توقف وشيك للحراك الطلابي، فهل يدفع مزيد من الصراع في الشرق الأوسط إلى الثورة الشعبية التي تتخوف منها السلطات في الولايات المتحدة؟

 

أ.ش

المصدر: الميادين