عودة آلاف الأطباء اللبنانيين من الخارج لمزاولة المهنة.. والمرضى يتنفّسون الصعداء

يرى عدد من اللبنانيين أنّ عودة الأطباء إلى البلد، بعد سفرهم من جراء الأزمة الاقتصادية التي عصفت به منذ عام 2019، تبشّر بمزيد من التحسن والتعافي في القطاع الطبي، وخصوصاً بعد تسجيل نقص في عدد من الاختصاصات الدقيقة منها.

2024-05-05

يرى عدد من اللبنانيين أنّ عودة الأطباء إلى البلد، بعد سفرهم من جراء الأزمة الاقتصادية التي عصفت به منذ عام 2019، تبشّر بمزيد من التحسن والتعافي في القطاع الطبي، وخصوصاً بعد تسجيل نقص في عدد من الاختصاصات الدقيقة منها.

 

مزدحمةً بدت إحدى العيادات الطبية في بيروت. الكل هنا يبدو مرتاحاً بعد انتشار خبر عودة طبيبتهم المختصة بالجهاز الهضمي، ملاك نور الدين، للعمل مجدداً في لبنان. لم يسأم هؤلاء طوال مدة غيابها من تكرار السؤال عنها.

 

يقول علي، وهو أحد هؤلاء المرضى: “فراغ كبير تركته الطبيبة بعد سفرها. نعلم أن الأوضاع الاقتصادية أجبرتها على ذلك، لكننا لم نعرف يوماً أن نتأقلم ونثق بغيرها كما كنا نثق بها. اليوم أعادت عودتها إلينا شعور ما قبل الأزمة، بالاطمئنان والأمل في آن معاً”.

 

بفرح يتلقف كثيرون من اللبنانيين خبر عودة أطبائهم الذين غادروا البلاد على حين غرة، في ظل تداعي القطاع الطبي والاستشفائي برمته، نتيجة الأزمتين الاقتصادية والمالية، اللتين أثرتا في مجمل القطاعات الحيوية في لبنان.

 

ويرى عدد من اللبنانيين أنّ هذه العودة المعاكسة تبشّر بمزيد من التحسن والتعافي في القطاع الطبي، وخصوصاً بعد تسجيل نقص في عدد من الاختصاصات الدقيقة منها. ودفعت الأزمة نحو 3500 طبيب من كل الاختصاصات إلى مغادرة لبنان منذ عام 2019 تقريباً حتى العام الماضي، وفق آخر الإحصاءات التي كشفت عنها نقابة الأطباء في لبنان، في حين عاد من هؤلاء حتى الآن نحو 1500 طبيب، أي ما يعادل 25%-30%، وفق تأكيد الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين، في حديثه إلى الميادين نت.

 

 

فترات عصيبة على المرضى

 

في إبان موجة هجرة الأطباء خارج لبنان بحثاً عن العيش الكريم، جرى الحديث عن تراجع موقع لبنان في مقابل ترحيب دول الجوار بهؤلاء الأطباء. واصطحب عدد منهم فريقه كاملاً من اختصاصيين ومساعدين تقنيين، بيد أن الانعكاسات السلبية لهذه الهجرة على لبنان والقطاع الطبي بصورة عامة ومستوى الخدمات الطبية والعلاجية، وإن كان من الصعب تعدادها جميعها، فإنها تنطوي على عدد من الآثار النفسية والإنسانية في المرضى الذين عاشوا فترة عصيبة في ذلك الوقت، وفق ما يؤكد عدد منهم.

 

تقول ريان: “بعد شهرين من ولادة طفلي عام 2022، كان عليّ أن أتابع مع طبيب غدد للأطفال حديثي الولادة بسبب وضع صحي طارئ استجد عليه في تلك الفترة، لكنني صدمت بشدة حينما علمت من طبيبي بأن هناك طبيبتين متخصصتين بالنمو والغدد والسكري عند الأطفال على صعيد بيروت فقط، واحدة منهما كانت عازمة أصلاً على السفر إلى الخارج!”، مضيفة “حينها فعلياً، شعرت بالخطر يدنو من طفلي، إذ إن طبيبة واحدة فقط مختصة عليها أن تتابع حالة ابني الصحية، ولا بديل في لبنان كله، ولا حتى في أي مستشفى متعاقد مع الجهات الضامنة لنا!”.

 

حالة ريان قد تبدو مشابهة لحالات كثيرة من هذا النوع، بحيث وجد اللبنانيون أنفسهم، من دون سابق إنذار، أمام أزمة فقدان أصحاب الاختصاصات الدقيقة والفريدة. وتقول رنا: “بعد هجرة طبيبتي (متخصصة بالطب العام)، أمضيت وقتاً طويلاً بالبحث عن طبيب أرتاح إليه وأثق به، كما كنت أثق بطبيبتي المهاجرة”.

 

كما رنا تحكي سلام عن تخبطها بعد هجرة طبيبتها النسائية، التي قطعت التواصل مع مريضاتها في لبنان: “تطلّب الأمر وقتاً كي أعتاد على فكرة غيابها، والشيء الذي لا يعلمه الجميع أن طريقة التعاطي والعلاج والمتابعة تختلف من طبيب إلى آخر، وهذا ما جعلني أحزن بشدة على سفرها، وخصوصا أني أثق بهاً كثيراً”.

 

 

الأطباء أيضاً ضاقوا ذرعاً

 

في المقابل، وعلى رغم أن السفر إلى خارج لبنان كان حلاً لكثير من الأطباء لتحسين أوضاعهم الحياتية والمالية، عايش جزء منهم ضغوطاً مماثلة لأسباب متعددة.

الاختصاصي بالدم والأورام لدى الأطفال الطبيب حسن خليفة واحد من هؤلاء. يتحدث بأسى عن تلك الفترة التي صاحبها العديد من المشاعر الأليمة تجاه مرضاه: “كنا مسؤولين عن هؤلاء المرضى، ومنهم الأطفال. قبيل سفرنا اضطررنا أنا وزملائي إلى تحويلهم إلى أطباء غيرنا بغية متابعة علاجهم. لم يكن الأمر بالسهل علينا”، يقول خليفة للميادين نت، موضحاً أنّ ذلك هو إحدى القضايا السلبية التي انعكست عليه وعلى زملائه.

 

ويوضح أن القطاع الطبي شهد أزمات متتابعة، بينها الشحّ في العلاج الكيميائي للأطفال بالكمية والنوعية: “أجبرنا على تقسيم الجرعة بين المرضى، فضلاً عن مشاكل في تنظيم العلاج للأطفال الذين يعانون مرض السرطان”، مضيفاً أنّ إحدى المشاكل أيضاً كانت حرمان الناس من التغطية الصحية من الجهات الضامنة، وتأخير علاجاتهم.

 

كل هذه الأسباب دفعت خليفة إلى السفر إلى العراق في آب/أغسطس 2020، كأول طبيب يسافر إلى هناك في تلك الفترة قبل أن يتبعه عدد من زملائه الأطباء.

 

 

دوافع العودة: حوافز مالية وإجراءات حاسمة



في كانون الثاني/يناير 2023، عاد خليفة إلى لبنان ليمارس عمله كطبيب دم وأورام لدى الأطفال من جديد، متحدثاً عن تغير الظروف وتبدّلها نحو الأفضل، الأمر الذي شرّع الأبواب أمام عودة لافتة لكثير من الأطباء تباعاً إلى لبنان.

 

يشير خليفة إلى أن تحسن الوضع في القطاع الطبي، وإجراءات النقابة، وتأقلم الناس مع الأوضاع نظراً إلى تعديل رواتب الموظفين، فضلاً عن إعادة هيكلة المستشفيات بصورة تواكب التطورات التقنية، وتأمين العلاجات للمرضى، كلها عوامل مهمة مهّدت هذه العودة.

 

أما بشأن إجراءات النقابة التي شكلت حافزاً على عودة هؤلاء الأطباء، فيشير نقيب الأطباء يوسف بخاش في حديثه إلى الميادين نت إلى الجهود المبذولة من النقابة لتحسين وضع الطبيب مادياً.

 

ووقّعت النقابة وثيقة تفاهم مع كل صناديق الضمان الخاصة، وتم تحصين الأطباء مع رفع قيمة أتعابهم. ويوضح بخاش أنه “قبل الأزمة كان الطبيب هو الحلقة الضعيفة، بينما كانت الاتفاقات التي تتم بين شركات التأمين وإدارات المستشفيات تؤثر بصورة سلبية فيه من خلال التخفيض من أتعابه”.

 

ويقول بخاش إن “النقابة اليوم عمدت إلى فصل ملف الطبيب عن المستشفى، فأصبح في العام الحالي 2024 يتقاضى مئة في المئة من أتعابه، في حين سترتفع هذه النسبة في عام 2025، ليتقاضى مئة وخمسة في المئة من أتعابه”، كاشفاً أن النقص في الاختصاصات تحسّن مع هذه العودة اللافتة للأطباء اللبنانيين، “لكن لا يزال هناك نقص فادح في بعض الاختصاصات، مثل جراحة القلب والأشعة والإنعاش والتخدير وغيرها من الاختصاصات الدقيقة”.

 

أسباب أخرى للعودة يفنّدها الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين، تمثلت بعدم تكبد الطبيب الضرائب العالية التي يدفعها في أوروبا وفي الولايات المتحدة الأميركية، فضلاً عن أن المداخيل عادت إلى مستوياتها ما قبل الأزمة، في ظل ساعات عمل مريحة للطبيب، على عكس الدول التي هاجر إليها، حيث الدخل كبير، وساعات عمل أطول وضرائب كبيرة.

 

ورجّح شمس الدين أن تعود أكثرية الأطباء المهاجرين الذين غادروا لبنان في إبان فترة الأزمة في حال عاد الاستقرار أكثر إلى لبنان وتوقفت الحرب على غزة.

هداية طه

 

أ.ش