صرّح عالم الدين العراقي “الشيخ مرتضى محمود العقابي” أن الحجّ يجسّد روح التضامن والتواصل الإنساني العميق، حيث يلتقي الناس من مختلف أقطار الأرض ليكونوا شهوداً على الوحدة والتسامح.
وقال الشيخ محمود العقابي الحجّ يجسّد روح التضامن والتواصل الإنساني العميق
الحكمة من تشريع الحج
وفي معرض حديثه عن الحكمة من تشريع الحج، قال العقابي : قال الله تعالى “وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ” وللحج حكم كثيرة يمكن لنا ذكر بعضها:
الأولى: قبول التوبة من قبل الله جل وعلا على عبده التائب إليه وغفران ذنبه والشاهد ما ورد عن الامام الصادق عليه السلام (إن الله تبارك وتعالى لما أراد أن يتوب على آدم عليه السلام أرسل إليه جبرئيل فقال له: السلام عليك يا آدم الصابر على بليته التائب عن خطيئته إن الله تبارك وتعالى بعثني إليك لأعلمك المناسك التي يريد أن يتوب عليك بها وأخذ جبريل بيده ….) وكذلك ما ورد في خطبة الوداع عن رسول الله صلى الله عليه وآله (معاشر الناس: ما وقف بالموقف مؤمن الا غفر الله له ما سلف من ذنبه الى وقته ذلك فإذا إنقضت حجته أستؤنف عمله).
الثانية: هناك رموز متعددة في الحج، وفي بيت الله وفي عرفات وفي المسعى وفي منى نتكلم عن بعض هذه الرموز فنذكر أولاً (الحجر الأسود ) عن الحلبي قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام لم جعل إستلام الحجر فقال: إن الله عز وجل حيث أخذ ميثاق بني آدم عليه السلام دعا الحجر من الجنة فأمره فألتقم الميثاق فهو يشهد لمن وافاه بالموافاة.
والثالثة: (الكعبة والطواف) في حديث طويل للامام الباقر عليه السلام نقتبس منه قوله: أما بدء هذا البيت فإن الله تبارك وتعالى قال للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة. فردت الملائكة على الله عز وجل فقالت أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء. فأعرض عنها فرأت إن ذلك من سخطه فلاذت بعرشه فأمر الله ملكاً من الملائكة إن يجعل له بيتاً في السماء السادسة يسمى الضراح بإزاء عرشه فصيره لأهل السماء يطوف به سبعون ألف ملك في كل يوم لا يعودون ويستغفرون فلما أن هبط آدم إلى السماء الدنيا أمره بمرمة هذا البيت وهو بإزاء ذلك فصيره لآدم وذريته كما صير ذلك لأهل السماء.
الرابعة: الصفا والمروة وهي من شعائر الله وهي ترمز الى آدم(ع) والمروة الى المرأة وهي حواء وفيها قصة لطيفة لا يمكن ذكرها هنا.
أما سرّ ذلك فجعل الطواف بدايته من الحجر الأسود وختمه فيه وهو الحجر الذي أشهده حين أخذ الله ميثاق البشر وأقروا له بالربوبية وللنبي(صلى الله عليه وآله) بالنبوة ولعلي بالامامة والولاية وأقروا له بذلك فالحجر يشهد لمن إلتزم بذلك ويكذب من لم يلتزم به.
والطواف حول البيت وهو طواف بإزاء البيت المعمور الذي تطوف حوله الملائكة وهو بإزاء العرش فالطواف حول البيت هو الطواف حول مركز واحد وهو التوحيد ونبذ جميع الأوثان الظاهرية والباطنية والتحلي بزي العبودية لله جل وعلا وترك كل ما يشغل العبد عن ربه.
وأما السعي كما سعى آدم المذنب لكي يتوب عليه وسعت هاجر بين الجبلين لطلب الماء لإسماعيل وهي في أشد حالات الذلة والخنوع لله عز وجل فيجب أن يتمثل العبد الحاج في سعيه ليكون خانعاً خائفاً خاشعاً ذليلاً لله سبحانه وفي الرواية أتاها جبرئيل فقال لها من إنت فقالت أنا أم ولد إبراهيم قال لها الى من ترككم فقالت أما لأن قلت ذاك لقد قلت له حيث أراد الذهاب يا إبراهيم الى من تتركنا فقال الى الله عز وجل فقال جبرئيل لقد وكلكم الى كاف.
أسرار مناسك الحج
وعن رمزية مناسك الحج وأسراره، قال سماحة الشيخ “مرتضى العقابي”: إن الحجّ يجسّد روح التضامن والتواصل الإنساني العميق، حيث يلتقي الناس من مختلف أقطار الأرض ليكونوا شهوداً على الوحدة والتسامح، وهو إختبار الناس وإمتحانهم هل يطيعون أم يعصون حيث يوؤدن المناسك حول هذه الأحجار التي هي بحسب الظاهر لا تضر ولا تنفع فيعرف مدى تعبدهم له وطاعتهم إليه.
ورد عن أمير المؤمنين علي عليه السلام: “وكلما كانت البلوى والاختبار أعظم، كانت المثوبة والجزاء أجزل; الا ترون أن الله سبحانه اختبر الأولين من لدن آدم صلى الله عليه وسلم إلى الآخرين من هذا العالم; بأحجار لا تضر ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، فجعلها بيته الحرام الذي جعله الله للناس قياما ….).
وعندما سئل سماحة الشيخ “مرتضى العقابي” عن مقاصد القرآن الكريم في الحج؟ قال: وردت آيات قرآنية كثيرة تخصّ الحج فمنها ما يشير إلى تشريع وجوب الحج مثل “عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ” فمن صيغة لله على الناس يفهم وجوب الحج وكذلك من خلال المقابلة بالكفر لمن ترك الحج يستفاد الوجوب ومن أنكره كان كافراً.
وبعض الآيات القرآنية ترفع الشك عن بعض أعمال الحج كالسعي بين الصفا والمروة “إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا” بإعتبار كان على الجبلين صنميين ويطوف حولهما الكفار فأعتقد المسلمون إنه يحرم الطواف بهما فجاءت الآية الكريمة ترفع هذا التوهم وتقول السعي بين الصفا والمروة هو شعيرة إلهية وعليكم تسعوا فيما بينهما وهنا القرآن يدفع هذا التوهم وهذه الشبهة.
وتابع سماحته في آية أخرى يبين إنه في هذا البيت آيات ومعجزات (وفيه آيات وبينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً) (وأتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) وهي أحد المعاجز التكوينية حيث كان هذا الحجر الذي يبني النبي إبراهيم عليه السلام البيت ويرفع القواعد ويقف عليه وهو من حجر الجنة وقد طبعت بوضوح قدمي إبراهيم عليه السلام عليه وأمر النبي(ص) بأن يكون قبلة المصلي هو هذا المقام وهو إشارة إلى الولاية الموجودة في عقب إبراهيم الذي قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين فهنا يدل على ولايته على العباد وولاية ولده الذين هم غير ظالمين وسيدهم محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين.
وفي آية إخرى (يا بني إني أرى في المنام إني أذبحك ماذا ترى قال يا أبت أفعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين ) وهنا قصة عجيبة وإبتلاء عظيم للنبي إبراهيم وإبنه إسماعيل ويأتي إبراهيم الى ذبحه ويأتي له الشيطان يثبطه عن الواجب فيرميه بسبع حصيات ثم يتحرك الى ذبحه فيأتي إبليس ليثبطه ويرميه بسبع حصيات ثم يتحرك لذبحه فيأتي إبليس ليثبطه فيرميه بسبع حصيات فيتحرك لذبحه ويضع السكين على رقبته فيأتي النداء الآلهي (أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا وفديناه بكبش عظيم ) فالقرآن إهتم كثيراً ببيان الحج وتاريخه ومكانه وزمانه ولكن لا يسع المجال الى ذكرها.
تعزيز الوحدة الاسلامية في الحج
وعن أهم العناصر التي يمكن التركيز عليها لتعزيز الوحدة الإسلامية في الحج؟ قال سماحة الشيخ “مرتضى العقابي”: هذا الأمر مهم ولكن نحتاج إلى إرادة وعمل من أجل ذلك الهدف وأهم شئ يحتاج للقائمين على هذا الموسم العبادي أن يتحلوا بأمور تجعلهم قادرين لتحقيق الوئام بين المسلمين وهي أولاً ترك مواطن الإختلاف والحديث عنها لأن موطن الخلاف سوف يجعل المقابل متنرفزاً ومشحوناً سلباً تجاه ما تذكره.
ثانياً: ذكر مواطن الإتحاد والإشتراك ومواطن اللقاء وهي كثيرة مثل العبودية لله ونبوة النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) وكذلك ذكر بعض العبادات مثل الحج الذي هو مشترك بين المسلمين.
ثالثاً: أن يكون الإنسان متحلياً بالأخلاق العالية من خلال التعامل مع الناس وإن يكون مثلاً من خلال إنصاف الناس والكرم وتلبية دعوة المحتاج والسعي في قضاء حوائجهم قال(ص) “انکم لن تسعوا الناس باموالکم، فسَعوهم باخلاقکم”.
رابعاً :أن يتحلى الحاج بأعلى درجات الموضوعية في تعامله مع الحجاج الآخرين فلا يكون على نحو المزاجية والإنتقاء فهذا يضرّ بعدالته وإنه غير منصف وهو يفرق
خامساً: إبعاد المتشددين من الطرفيين فهولاء يثيرون الفتن بين المسلمين وإبعادهم عن المنابر وإبعاد طرح أفكارهم فمن خلال هذه النقاط يمكن تحقيق موقف إسلامي موحد.
وسادساً: أن تكون الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة (إدعوا الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن).
وفي السؤال عن تعزيز وجود كبار القراء زيادة الروحانية في مناسك الحج؟ أجاب سماحة الشيخ “مرتضى العقابي”: في رواية شريفة يسأل زرارة الامام الصادق عليه السلام يقول: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: جعلني الله فداك، أسألك في الحج منذ أربعين عاماً فتفتيني فقال: يازرارة ! بيت حج إليه قبل آدم بألفي عام، تريد أن تفنى مسائله في أربعين عاماً.
نلاحظ السائل هو أكبر عالم لدى الشيعة في زمن الباقريين(عليهما السلام) ومعنى ذلك إن قضايا الحج كثيرة ومتعددة ومستجده وتحتاج إلى حضور كبار العلماء لحل معضلاتها كما كان يحضر أهل البيت(عليهم السلام) فإذن نحتاج إلى حضور الفقهاء أو من يمثلهم لكي يوضحوا الى الناس مناسكهم ويبينوا لهم المسائل الفقهية هذا أولاً.
وثانياً يحتاجون إلى من يراقب الحجاج في تطبيق هذه المسائل والأحكام ومراقبة الحجاج في صحة تطبيقها.
وثالثاً يحتاجون إلى العلماء أو من يمثلهم في تحديد الأماكن مثل الوقوف بعرفة أو الوقوف بمزدلفة أو المبيت في منى فهذه الأماكن المقدسة مع وفرة الحجاج قد يضعوهم خارج الحدود وبالتالي يبطل الحج لدى كثير من الحجاج وكذلك في المطاف والسعي والجمار وهل يجوز من الطوابق التي أوجدوها حديثاً وهذا يحتاج إلى من يرجعه الى رأي المرجع الذي يقلده وأفضل من يقوم بذلك هم طلاب العلوم الدينية.
ورابعاً موسم الحج يستمر كمعدل عام شهر وهذا الشهر يحتاج إلى زاد يتزود به المؤمن الحاج وأفضل شيء هو تعليمه بعض المعارف والعقائد الحقة وترسيخها في نفوس الحجاج.
خامساً: هذه الفترة يحتاج الناس الى من يذكرهم بالله جل جلاله وعبادته بصورة صحيحة والتقرب إليه وأفضل من يقوم بذلك هو العارف بكيفية التقرب إلى الله وكيف يجعل الناس تتزود وتقوي علاقتها بالله .
سادساً يمكن للعلماء التأثير في جذب الناس المخالفين من خلال الحوار الهادئ والهادف الى الحق.
وسابعاً يمكن أن يكون إنعكاس أخلاق كبار القراء وممارستهم مع المخالفين في العقيدة الى مدح المذهب الحق وكسر الإشاعات التي تشاع ضد مذهب أهل البيت(ع) فسلوك الإنسان تأثيره أكثر من قوله.
وعن رحلة الحج باعتبارها قضية عالمية وحضارية هل يمكن أن تؤدي إلى إرتقاء الأمة الإسلامية واتحادها مقابل الكفر والأستكبار؟ كان ردّ سماحة الشيخ “مرتضى العقابي”: أستذكر موقفاً تاريخياً مهماً وهو لقاء النبي(صلى الله عليه وآله) مع أهل يثرب في مكة عند جمرة العقبة مرتيين الأولى والثانية وأرسل معهم من يعلمهم أحكام الإسلام ويقرأ عليهم القرآن وهذيين اللقائين تما في أيام الحج وكان المسؤول على الحج هم الكفار وقدر الرسول(ص) أن يبلغ دعوته وينشرها وعليه يمكن أن نجعل من الحج منطلقاً للدعوة إلى الإسلام الذي فيه عز المؤمن وفيه قوته وهذا يكون من خلال اللقاء مع جميع الأخوة المسلمين وبيان ما يلتزمون فيه من غير النقل الذي هو غير صحيح وبيان حقيقة المواقف الذي يتمسك بها بعيداً عن التشويش الاعلامي.
وهنا نوجه رسالة لجميع المسلمين أن يتركوا التعصب الأعمى ويتحاوروا فيما بينهم لأن العدو المستكبر هو من خطط للفرقة وتشتيت المسلمين حتى يبقى يتحكم بهم فإذا تحاورنا بشكل هادئ وهادف وركزنا على المشتركات وعندنا إرادة صادقة ونية سليمة ونعمل بإخلاص سوف نشكل قوة في إتخاذ المواقف الموحدة في مختلف أرجاء العالم وسنكون مؤثرين في هذا العالم ويرجع عز الاسلام المفقود وخصوصاً مع التمسك بكتاب الله وعترته الطاهرة “إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ اَلثَّقَلَيْنِ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي كِتَابَ اَللَّهِ وَ عِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي”.
أ.ش