على عكس ما توقّعه جيش الاحتلال، لم يتحوَّل مخيم جباليا إلى منطقة قتال خطيرة خالية من أي مكوّن بشري سوى العنصر المقاوم. لم يفاجئ الأهالي الذين لم يبرحوا المخيم بعدما تلقوا مئات الآلاف من منشورات الإنذار بالإخلاء، أو الذين عادوا إليه بعد نزوح استمر ليوم واحد فقط جيش الاحتلال فقط، وإنما فاجأوا أيضاً المقاومين الذين بُحّت أصواتهم وهم يناشدون الشبان بمغادرة الميدان لتقليص أعداد الضحايا والمصابين.
في المخيم الذي أغطّي فيه الأحداث لليوم السادس على التوالي، يهزأ الشبان من الموت، ويسخرون من القذائف، ويتقدمون إلى أي متر تتراجع منه الدبابات الإسرائيلية لينتشلوا الشهداء وينقذوا المصابين، أياً كانت نتيجة تلك المغامرة.
لا شيء يفسر نشوة الحاضرين. المئات من الشبان يرابطون منذ اليوم الأول للتوغل على خطوط التماس، ويشاهدون بأم العين بطولات المقاومين. تصل إلى منطقة شارع مدارس الفوقا، ويستقبلك العشرات لينبئوك بآخر الأخبار الميدانية: “الشباب فجروا دبابة عند أبو العيش ولسا مولعة.. الطيران الحربي قصف ناقلة جند بعد ما ضربوها الشباب وفرضوا عليها طوق نار، وبابها طار عند مطعم حمدان.. القسام والسرايا عندهم فائض في المقاتلين وبيطردوا الشباب بيحكولهم لما نحتاجكم نرسل في طلبكم”.
تسمع تفاصيل كثيرة عما جرى ويجري. يخبرك أحدهم أنه شاهد جنود الاحتلال صرعى بأم العين، فيما يخبرك آخر بأسماء الرجال الذين نفذوا مجزرة في مجنزرات الاحتلال قبل أن يستشهدوا، ويقول لك ثالث إنه استطاع التسلل إلى منطقة الترنس على بعد 10 أمتار من الدبابات كي يجلب دراجته الهوائية التي كان قد نسيها. يقول لك الشبان الكثير، وتجلس أنت منبهراً بما تسمع. ألهذا الحد لم تعد ألف قذيفة تتساقط كالمطر في كل ساعة تخيف هؤلاء!
لا أحد بوسعه تحليل ما يحدث في جباليا. لا يخوض المقاتلون المعركة وحدهم. يشعر الشبان والرجال الذين أجلوا عائلاتهم من المخيم ثم عادوا إليه منفردين أنهم في معركة صفرية: “تريدون تدمير المخيم، تستطيعون ذلك بالقنابل، لكن أرواحكم ستكون أقل الأثمان”.
في اليوم الثاني من الهجوم، وقفت على خط النار الأخير مع زميلي المصور محمد بعلوشة. طلبت منه أن نتقدم بضعة أمتار لنشاهد بأم العين منطقة المركز ومحيط عيادة الوكالة في وسط المخيم. مشيت 3 خطوات منفرداً. وعندما نظرت خلفي، وجدت مسيرة من الصحافيين والشبان ترافقنا. ناشدتهم بالله: “شباب مش رايحين على شارم بارك إحنا. أبوس إيدكم ارجعوا إحنا دقيقة وراجعين”.
مضى كلامي عبثاً، لم يستجب لي حتى محمد الذي شاهدته يتقدم الحشود الزاحفة إلى آخر نقطة تماس يغطيها رصاص القناص. بعد لحظات، حضرت طائرة الكواد كابتر، وبدأت بإطلاق النار، لم يكن أمامنا خيار سوى التراجع جرياً على الأقدام. وحينما استقر بنا الحال تحت أسفل أحد المنازل المقصوفة، بدأ الشبان يتمازحون بمنتهى السماجة: من منا هرب أولاً! من منا خاف! لست أدري أيكون شعور الخوف غريباً في موقف كهذا! لكن ما أنا متأكد منه أن ثمة لذّة تدفعك إلى البقاء في جباليا حد الإدمان؛ شعور غريب يجذبك إلى المخيم مجدداً عقب كل مهمة تعود منها حامداً الله على السلامة.
للمخيم سحره. هذه هي الحقيقة. هو ليس أجمل بقعة في هذا العالم، لكنه طوال الشهور السبعة الماضية أشعرنا بدفء عوّضنا عن القشعريرة التي شعرنا بها حين أُحرقت بيوتنا وهُدمت. بوسعي أن أفهم الآن لماذا يجازف الآلاف من الأهالي الذين نزحوا في اليوم الأول بالعودة إلى المخيم، ويقضون ساعات النهار تحت دويّ القذائف، ويعودون لقضاء سواد الليل في أحياء الشيخ رضوان والنصر شمال غربي المدينة التي أجلسوا عائلاتهم فيها ينتظرون شروق الشمس، ثم يصبحون عائدين إلى حيث دائرة النار الرهيبة.
للمخيم سحره الأخاذ. ربما كان محمود درويش يقصد جباليا وأهلها حين خطّ سطره الشعري:
“يا نوح لا ترحل بنا..
إن الممات هنا سلامة..
إنا جذور لا تعيش بغير أرض
ولتكن أرضي قيامة”.
يوسف فارس
أ.ش