ما يفرضه التعتيم المطبق على الجبهة الشمالية للكيان المؤقت لا يمكن للميدان حجبه، حتى الـ 7 أشهر الماضية تمكّن حزب الله من قيادة عملية ملائمة متفوّقة في مرونتها وسرعة استجابتها العملياتية في تحقيق مكاسب استراتيجية للمقاومة، كما نجح بإعادة إفراز خطط وأدوات قفزت عن الواقع الصعب والمعقّد في ميدان مقيّد بالجغرافيا والنار، فلم ينجح فقط بتحييد المدنيين في معركة تراكمية تصعيدية ولجم حدود النار جغرافياً، بل بكسر التوازن الميداني العسكري لصالح المقاومة، وتحقيق إنجازات نوعية تتخطى فعل الدعم والمساندة إلى مكاسب استراتيجية في الجليل تحديداً.
يمكن تلخيص خريطة التصعيد بين المقاومة والجيش الإسرائيلي، كما يمكن تحديد التحول في التكتيكات بين المقاومة والجيش الإسرائيلي كالآتي:
تقييم الحركة التصاعدية
تُظهر حركة التصعيد في سلوك القيادة الإسرائيلية على الجبهة الشمالية رغم تمكنها من تحقيق إنجازات عسكرية موضعيّة وأخرى استراتيجية أنها لم تفلح في إحباط أو عرقلة المسار العملياتي للمقاومة، بل غرقت في دائرة من الدوامات المتجددة والمستنزفة مع المعاودة المتكررة للخطط العسكرية الأولية والتي سبق وأن جرّبتها، ما سمح للمقاومة بتطوير تكتيكاتها وإحباط محاولات الاحتلال انتزاع المكتسبات التي راكمتها منذ بداية الحرب، كما سمح بإدخال الأسلحة الأكثر فتكاً وتأثيراً، ووفر مساحة أكبر للتحرك العملياتي النوعي، بالتالي شن عمليات أكثر إيلاماً تسمح بمراكمة المحصّل الاستراتيجي على كافة الصعد؛ السياسية والأمنية والعسكرية والاجتماعية.
حسم التصعيد
“إسرائيل” التي كانت تفضل دوماً الحسم الفوري والحرب الخاطفة، قاعدتها الذهبية الملازمة لها منذ التأسيس، لم تلجأ إلى هذا الخيار، الأمر الذي يطرح سؤالين أساسيين بعد 7 أشهر من الحرب على الجبهة الشمالية:
لماذا لم تطبق نظرية الردع، برد غير تناسبي فائق القوة مشابه لما حدث في حرب تموز 2006؟
لماذا لم تتمكن حتى الآن من إغلاق الجبهة الشمالية ووقف الاستنزاف الذي تتغير أثمانه وتتضاعف في كل يوم يمر دون حسم أو تغير شامل للواقع؟
يعود ذلك إلى أسباب عديدة أهمها:
– الغرق في غزة وعدم القدرة على حسم الحرب هناك للانتقال والتفرغ لجبهات أخرى.
– التعامل مع معركة كانت المقاومة صاحبة قرار البدء فيها، كما أن الأسباب التي فُتحت الجبهة لأجلها (أي غزة) لا تملك “إسرائيل” حتى الآن أي رؤية واضحة في كيفية إنهائها، فحُكم على الكيان لأول مرة بالتورط في معركة مساندة تعقّد مسألة الحسم مع دخول مبدأ الارتباط المباشر في الجبهات.
– تخوض “إسرائيل” معركة دفاعية لأول مرة منذ 1973، رغم إعلانها المتكرر عن الانتقال إلى الهجوم وتغيير طبيعة المعركة، إلا أنها لا زالت ضمن معركة مقيّدة، يلجمها عن التوسع محاذير سياسية، دولية، وأمنية، منها ما له علاقة مباشرة بحرب غزة وتداعياتها، ومنها ما هو مرتبط بمعادلات القوة والردع.
– أي حسم، يتطلب إعادة الإمساك بزمام السيطرة على التصعيد، وهو ما لا تمتلكه إسرائيل، بل أُجبرت على التنازل لحزب الله عن مساحة شبه متساوية من التحكم بمسار التصعيد.
– افتقاد “إسرائيل” إلى اللحمة الداخلية والقيادة العقلانية وتوازن الجبهة الداخلية، كشف ظهرها للمخاطرة، وقضم جرأتها وعدوانيّتها على اتخاذ قرارات مصيرية قد تكون نتائجها كارثية.
– فشل المساعي السياسية والدبلوماسية، والحلول الشكلية لتحييد حزب الله عن الحرب الدائرة في غزة.
– توازن القوة: تدرك المؤسسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية أن أي قرار تصعيدي على مبدأ الحسم، سيجلب دماراً موازياً لذلك الذي ستلحقه بلبنان.
– عدم قدرة “إسرائيل” على التأثير في جدوى عمليات حزب الله ولا حتى إحداث خرق في قناعات جمهوره يمكن أن يضعف شرعية الحرب التي يشنها، لا بالترهيب ولا بالقتل ولا بالدمار، فوجدت “إسرائيل” نفسها أمام معركة إرادات طويلة ومعقدة.
– مراكمة الأزمات الاستراتيجية الضاغطة والمؤثرة بفعل الحرب، أشغل “إسرائيل” بمسارات مشاغلة متعددة وطارئة واضطرارية، أضعف قدرتها على بناء استراتيجية حسم واضحة على الجبهة الشمالية.
– هناك إجماع شامل بقوة وتفوق عقلية حزب الله في العمل العسكري، ما يضع نظرية الحسم في موضع تشكيك كبير، بما أن القوة المقاومة في غزة الأقل من حيث القدرات لم يتمكن جيش الاحتلال حتى الآن من تسجيل أي انجاز واضح عليها.
وبناء على ذلك، لم تستطع “إسرائيل” شنّ حرب خاطفة أو حسم فوري على لبنان، كما أنها غير قادرة على وقف الاستنزاف في الجبهة الشمالية أو تغيير الواقع هناك، أو استخدام الاستراتيجيات التي اعتمدتها في حروبها السابقة، وبقيت ضمن معادلات الردع والرد التناسبي، بدل التصعيد بردود غير تناسبية وتجاوز ميزان القوة بينها وبين المقاومة في لبنان.
أ.ش