علي شمس يقيم معرضه الإفرادي الأول بعنوان “خارج المكان والزمن المفقود”، وتشكل لوحاته وحدة رؤيويّة في المعاني والأبعاد والأسلوب.
علي شمس الدين (1955)، المخضرم تجربةً، والمخضرم في عمله الفني، يدخل “دار المصوّر” في شارع الحمراء في بيروت. ينتمي في الظاهر لجيل بات يسمى “تقليدياً”، فهو ما يزال يتأبّط جريدة ورقية ولباسه نصف رسمي، ولا توحي طلّته بتقدم كبير في العمر رغم تراكم كثير من السنين على هويته، بما يصفه التقليديون بالـــ “ختيار”، والمحدثون المتفائلون بالحياة، بأوائل “العمر الثالث”.
شمس الدين الذي عاد من السفر سنة 2012، جاء ليتفقد معرضه الفني الإفرادي الأول بعنوان “خارج المكان والزمن المفقود”. معرض مفعم بالتجربة وبمرارة زمن بلاد شمس الدين، الذي بات وفق شعوره “مفقود”، وزمن بلاده “خارج المكان” حيث لم تعد هناك أمكنة باقية للحياة. لغته الناطقة، ورسومه التعبيرية، وتوصيف أعماله الفنيّة، وكلّ ما في تاريخ بلاده، مأساة.
الفنان المولود في عربصاليم في جنوب لبنان، بدايةٌ كافية ليدرك من يعرفه إنه يحمل عبء بلاده، وحروبها، ومآسيها، “لانكاد ننسى حتى تذكرنا الأحداث بقوة بتاريخنا القاسي، والصعب؛ من نكبة 48 وما تلاها، حتى صار عندنا العديد من “الثماني أربعينات” على مستوى الوطن العربي”.
لا يشعر أبناء الأجيال الجديدة عمق مأساة لبنان، كجزء من مأساة عالمه العربي، رغم معايشتهم للمآسي كل على قدر تجربته العمرية، فالجيل العربي عمره 10 سنوات سلام في أحسن الأحوال، وبقدر ما تمر سنوات عشر، بقدر ما يختبر مأساةً جديدة.
لكنّ شمس الدين اجتمعت فيه كل المآسي منذ نشأة لبنان، وكان عمره 3 سنوات عندما وقعت أولى الخضّات التي طاولت كيانه، أي أحداث عام 1958، لتكرّ بعدها الأحداث من دون توقّف كل بضع سنوات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة.
شمس الدين، الذي احتشدت فيه كلّ تطورات بلاده، وعايشها حيّةً، بدقائقها وتفاصيلها، بات ينتظر ساعة فرج لا تتكرّر المأساة فيها، لكنها لا تأتي. بهكذا انطباع، ومأساوية إحساس، يقول: “الموضوع لا علاقة له بالسياسة، إنما بالانسان، الضحيّة الأولى. التهجير، حصارات الأمكنة، قمع الذكريات، الأمل المفقود ملازمة لأسلوب حياتنا، ولطريقة تفكيرنا”.
ورغم تقسيمات بلاده، وابتعاد أقسامها، لكن الفنان لا يسعه إلا تلمُّس مجرياتها عن بعد. “قد لا نكون نحن على المستوى الشخصي نعاني المأساة مباشرة، وقد يكون عندنا بيوتنا، وأوطان إقامتنا، لكننا في محيط لا نستطيع الانسلاخ عنه. عذاب الآخرين هو عذابنا، ولا يستطيع الانسان أن يكون سعيداً، ومحيطه في ماساة”، يقول.
كل ذلك سجّله شمس الدين في لوحاته، كما قال: “يحاول أبناء الشرق أن يعيشوا، يتجمعوا، يحبوا، يتزوجوا، يبنوا عائلات وبيوتا.. وفجأة، يتم اقتلاعهم، ورميهم في المجهول. لا سطح بيت، ولا مسكن، ولا كرامة، حياتهم تصبح فجأة مرهونة بخيمة، أو كيس طحين. هذا واقع الشرق الذي لم يتوقف عن الاهتزاز والتمزق”.
جاء شمس الدين على احتراف الرسم بعد تجربة غنية بالتصميم، حيث تخرّج من معهد الفنون في الجامعة اللبنانية سنة 1982، ثم عمل في العديد من مؤسسات تحتاج للتصميم الغرافيكي، مترئسا أقسام بعض منها، ومديراً لبعضها الآخر، وأبرز ما تولاه إخراج جرائد وتصميم، وتنفيذ ماكيتات، لمجلات ومؤسسات خليجية، حتى عام 2012، عندما عاد إلى بيروت مديراً لمؤسّسة “فكرة” حتى العام 2016، وحاز في مسيرته الفنية على جائزة الكتب المصوّرة من معهد اليونيسكو الثقافي لشرق آسيا في اليابان، وجائزة معرض الشارقة الدولي للكتاب عام 1996، لأفضل رسام ومخرج عن كتاب “صديقي الذي يحبني كثيراً”.
مارس الرسم بين ساعات فراغ عمله الاساسي، وبدأ حنينه للوحة يزداد ابتداء من 2011، كما قال، وبدأ يتجه للتفرغ للرسم. وجاءت أحداث الشارع اللبناني 2019، ل”تعيدني بعنف إلى حكايتنا القديمة في المنطقة”، مردفاً “2019 عام الانهيارالكبير، أثّر فيّ كثيراً، وأحداثه جعلت الحافز يكبر كثيراً”.
يربط الفنان اللبناني بين أحداث 2019، وبين نكبات الشرق كافة، حشدها في مجموعة لوحات تؤلف معرضه الحالي، ولمّا لم تكن كافية لتشبع نهمه التعبيري، لجأ إلى الشعر، أو النثر الانطباعي، يرافق لوحاته بمقطوعات، وعناوينها من نفس مناخاته الشعرية، ليتشكّل معرضه، الحاشد بالألم والانفعالات، تجربة فنيّة موحّدة للّون، واللغة، والفنون بأصنافها المختلفة.
المعرض
توزعت لوحات المعرض على طبقتي “دار المصوّر”، مُشَكِّلةً وحدة رؤيويّة، شكلاً، وفي المعاني والأبعاد وأسلوب التعبير. ساد اللوحات وجوم أكثر ميلاً للألوان القاتمة، اعتمد فيها التعبير الرمزي، بصيغة تعبيرية كافية تعكس معاناة طويلة، وتجربة مرارة لم تنتهِ، وكلّها من أكريليك على كانفا، هَمُّ الفنان فيها إيصال المعاناة، والفكرة، مستخدماً تعابير طفولية تشير إلى ارتباط بالذاكرة، وبأطفال ناسٍ تم اقتلاعهم من أماكنهم، وتوزيعهم على جهات الأرض”، كما يقول.
إنها محاولة لتخفيف تعابير المآسي البادية في العيون، والأجساد الهاربة، منها الحامل بيته على ظهره، ومنها الذي تهدّم بيته فلم يبق له ما يحمله، حتى باتت “الأمكنة ليست لنا”، بحسب إحدى اللوحات التي تظهر فيها أسماك وطيور مهاجرة عابرة أمام بيوت متراكمة.
من اللوحات “لا طائر في الأفق ولا قوس قزح”، وهي تعبير صارخ عن انسداد الأفق وانقطاع الرجاء، و”لماذا تركت الحصان وحيداً” هي لوحة معبّرة برمزية عن رحيل أصحاب الحصان في لحظة هَوْلٍ، وفزعٍ هروباً، أو قتلاً، وفوق الحصان أقلام تلوين كأنها صواريخ منهالة من طائرات حربية، أكثر ما تُذَكِّر بحروب غزة، والعراق.
لا ينتهي تعبير اللوحات عن عمق المأساة، وتواترها، ويُذكرُ منها أخيراً، وليس آخراً، “إلى طريق القوافل”، هجرة جماعية بلا حدود.
يعّرج شمس الدين في بعض لوحات على الثقافة الفرعونية واليونانية في لوحتي “إيزيس” و”أورفيوس”، دون تعليق، وكأن الفنان يبحث عن منفىً فيه استقرار وسلام في ماضٍ بعيد.
عن قتامة ألوان المعرض التي حاول كسرها ببعض ألوان، وأشكال طفولية، يختم شمس الدين: “المعرض تجسيد للمعمودية التي مررت بها، ولا أستطيع ان أرسم بأسلوب الفرح ما هو حزين”.