“إسرائيل” بعد ثمانية أشهر على “الطوفان”

الجيش الإسرائيلي، وقوات الاحتياط كعديد جنود وهيكل تنظيمي وتسليحي، لم يعد قادراً على مواجهة التحدّيات المطروحة. وأي عملية إعادة هيكلةٍ لهذه القوّات تحتاج إلى عنصرٍ بشري ليس مِن المؤكّد القدرة على تأمينه عبر تطويع المرتزقة، ويحتاج إلى دورةٍ اقتصادية مختلفة تستغني على الأقل عن قوات الاحتياط (350 ألفاً)، وبحاجة إلى وقتٍ يُقدّر بعدّة سنوات وهو الأمر غير المتاح.

2024-06-10

الحرب هي البيئة المثالية لإحداث المتغيّرات. ما زال الوقت مبكراً على إجراء جردةٍ حقيقية ورسم معالم قواعد اشتباكٍ واضحة جديدة. مِن الآن حتى وضوح الآفاق الفعليّة لهذه المواجهة، يحاول العدو ترميم ما يمكن ترميمه عبر المذابح المروّعة، لكن من الواضح أنه بسبب انفتاح المواجهة على الإقليم وعلى العالم قد يتم تعميق ما أحدثه «الطوفان» وجعله مساراً نحو إزالة الكيان.

 

 

عناصر الضرر

1- ضرب منظومة الأمن والسيطرة، أوّلاً بسبب العملية، وثانياً بسبب التصدّي المنظّم للمناورة البرّية والصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني.

2- مشاركة محور المقاومة في عملية الإسناد.

3- التدخّل الإيراني المباشر ليلة 14 نيسان.

4- الخلل الاقتصادي في ضوء مسارات الحرب واتجاهاتها المتوقّعة.

5- الخلل الديموغرافي وتنامي الهجرة المعاكسة.

6- الخلل في الجانب الأخلاقي وسقوط السردية الصهيونية وارتقاء رواية التغريبة الفلسطينية إلى سدّة الحقيقة في نظر شعوب العالم.

7- تنامي الفروقات بين نظرة الكيان إلى ذاته وإمكاناته ونظرة الراعي الأميركي إليه وإلى مصالحه وانعكاس ذلك على مستقبل الكيان ودوره.

 

بالنسبة إلى النقاط 1 و2 و3، إنّ عدم قدرة العدو على تحقيق أيّ من أهدافه المعلنة، وفشله في تحقيق ترانسفير كبديل منها، وغياب مفهومٍ واضح للمستقبل، إضافةً إلى مشهد الغرب قادماً ببوارجه وحاملات طائراته، ورؤية كمّ الدول والوسائل التي شاركت في التصدّي للضربة الجوّية الإيرانية،… تكفي لفهم ما وصل إليه الكيان.

إنّ الجيش الإسرائيلي، وقوات الاحتياط كعديد جنود وهيكل تنظيمي وتسليحي، لم يعد قادراً على مواجهة التحدّيات المطروحة. وأي عملية إعادة هيكلةٍ لهذه القوّات تحتاج إلى عنصرٍ بشري ليس مِن المؤكّد القدرة على تأمينه عبر تطويع المرتزقة، ويحتاج إلى دورةٍ اقتصادية مختلفة تستغني على الأقل عن قوات الاحتياط (350 ألفاً)، وبحاجة إلى وقتٍ يُقدّر بعدّة سنوات وهو الأمر غير المتاح.

لقد بدا واضحاً كم هو مهمٌّ تشكّل محورٍ مقاتلٍ يضمّ قوىً شعبيةً تتخطّى الكيانية وتبني منظومة أمنٍ وسيطرة مِن نوعٍ مختلف. واتضح أنّ جزّ عشبها أو إرهاقها في معارك بين الحروب لم يكن كافياً لمنعها مِن النمو، الأمر الذي أطلق عجلة رسم معالم منطقةٍ منفتحة على أفقٍ مختلف في النظرة إلى مفهوم الاستقلال والسيادة والأمن القومي.

 

 

الضرر الاقتصادي

الخسائر الاقتصادية المباشرة ليست ذات أهمّية إذا أخذنا في الاعتبار حجم الاقتصاد في دولة الكيان وحجم القوى العالمية المستعدّة لتقديم الدعم له. أمّا ما تجب متابعته حقيقةً، فهو مجموعة مِن القطاعات التي تشكّل الهوية الاقتصادية للكيان وطريقه نحو المستقبل. ويمكن عنونتها بما يلي:

1- مشروع «الفالي سيليكون» و«الهاي تك».

2- مشروع تحويل الكيان إلى مركز تجميع وتوزيع النفط والغاز إلى أوروبا بشكلٍ أساسي.

3- مشروع طريق البخور (المنافس لطريق الحرير) الممتدّ من الهند إلى شواطئ البحر المتوسّط مروراً بالمملكة السعودية والإمارات والأردن.

4- مشاريع الصناعات العسكرية.

 

إنّ مراقبةً أولية تعطينا فكرةً عن حدوث كثيرٍ مِن الضرر (التعطّل بسبب الوضع الأمني وطلب الاحتياط، هجرة رؤوس أموال، إغلاق مؤسسات وإفلاسها أو انتقالها إلى الخارج، تعطّل المرافئ…). لكنّ دراساتٍ دقيقةً لتطوّر وانكفاء هذه القطاعات والمشاريع المرتبطة بها مطلوبة بشكلٍ عاجل لمعرفة حجم الضرر الاقتصادي الذي تعرّض له الكيان.
لقد ساهم «الطوفان» في تظهير طبيعة العلاقة البنيوية المركّبة بين الغرب، وخاصةً الأميركي، وبين الكيان

 

 

الضرر الديموغرافي

يُعتبر هذا العنصرُ الأكثر حساسيةً، لذلك يتعرّض لمستوى عالٍ مِن إخفاء المعلومات وبثّ معلوماتٍ كاذبة. يعتقد الباحث المصري أحمد فؤاد أنور، أنّ الشهر الأوّل لـ«طوفان الأقصى» أبعدَ عن الكيان قرابة المليون من سكّانه بين مغادرٍ ومتخلّف عن العودة. ويقول إنه يعتقد أنّ أكثر مِن مليون شخص غادروا بنيّة عدم العودة، وذلك مِن خلال دراسة سجلّات المغادرة من مطار بن غوريون. يمكن أن نضيف إلى ذلك تعطّل وتيرة الهجرة العادية بسبب الظرف الأمني أو بسبب تغيّر آراء الرأي العام اليهودي في العالم وسعيه للتبرؤ من هذا الكيان المجرم. إنّ معركة تأكيد التنافس حول الأكثرية داخل فلسطين التاريخية بين أهل الأرض والمهاجرين الصهاينة، الناتج أساساً عن فشل المشروع الصهيوني في استقطاب قطاعات يهودية واسعة وعن وعي الأهل الحقيقيين لهذه القضية وتمسّكهم بإنتاج ما يردمُ هوّة الهجرة الصهيونية، جعل كل ذلك الكفّة الفلسطينية تبقى راجحةً بشكلٍ جزئي، وسيفاقم «طوفان الأقصى» مِن هذا المأزق ويجعل من غير الممكن حلّه إلّا عبر التهجير والتصفية العرقية وهو ما يحاول الكيان المجرم فعله إذا ما أتيحت له الفرصة.

 

 

الضرر الأخلاقي كقوّة حربٍ ناعمة

لقد خسر الكيان، وخسر الغرب بكامله، ما حاول أن يبنيه خلال سنواتٍ طويلة؛ لقد ساهم «طوفان الأقصى»، مِن ضمن عناصر أُخرى، في تنامي وعي شعوب العالم لأزمة الغرب الفكرية والثقافية وما يتعرّض له الجنوب العالمي مِن نهبٍ وحروب إبادة وحصارٍ وتجويع وترويع، انكشفت عبر الإعلام الشعبي الممثّل في تكنولوجيا الاتصالات. الأمر الذي جعل قضية غزة، وبالتالي فلسطين، مركز تحرّك قوىً شبابية واسعة تعيد الاعتبار لقضايا الحرّية والاستقلال والعدالة والسلم بين الشعوب. إنّ هذا الحراك الشبابي العالمي بإمكانه أن يتحوّل إلى تيارٍ سياسي وفكري فاعلٍ ومؤثّر في الحياة السياسية للشعوب المعنيّة. لقد استطاع «طوفان الأقصى» إعادة طرح القضية الفلسطينية كمشروعٍ نضالي مركزي يضمّ الكثير مِن البلدان بمؤسساتها الرسمية وشعوبها، وأعاد دولة الكيان الصهيوني إلى صورتها الحقيقية كمشروعٍ استعماري إرهابي يجب على العالم التخلّص منه.

 

 

العلاقة مع الراعي الأميركي

لقد ساهم «الطوفان» في تظهير طبيعة العلاقة البنيوية المركّبة بين الغرب، وخاصةً الأميركي، وبين الكيان. وكشفَ تراجعَ الكيان وظيفياً وفشله، وبالتالي التناقضَ بين زاويتي المصالح المختلفتين. فالكيان عالقٌ بين عدم القدرة على تحقيق النصر وعدم القدرة على وقف الحرب لأنها تعني نصراً مبيناً للطرف الفلسطيني. بينما الراعي الأميركي عالقٌ في مأزقٍ آخر وبين تناقضين مختلفين؛ فهو، مِن جهة، لا يريد لإسرائيل أن تتعرّض لهزيمةٍ مؤكّدة، ومِن جهة أخرى لا يريد الانزلاق إلى حربٍ واسعة لا قِبَلَ له بها وستفرض عليه القبول بهزيمةٍ إسرائيلية أكبر. إنّ هذا الوضع هو الذي عبّر عنه وزير الدفاع الأميركي علناً لنظيره الإسرائيلي قائلاً إن النجاحات التكتيكية للجيش الإسرائيلي ستؤدّي إلى هزيمة استراتيجية. إنّ هذا التناقض بين زاويتي النظر واقتناع القيادة العسكرية الإسرائيلية بأنه لم يعد بالإمكان تحقيق ما لم يتحقق خلال قتال لمدة ثمانية أشهر، قد يفضي إلى إجراء وقفٍ لإطلاق النار مؤقّت وصفقة تبادل أسرى لأن الإسرائيلي لا يمكنه تحمّل وقفٍ دائم لإطلاق النار يقدّمه إلى العالم كجيشٍ مهزوم ومنبوذ، يعزّز هذا الاحتمال التصعيد المتوقّع في الحرب الأوكرانية.

 

 

خاتمة

إنّ انهيار النظام الإقليمي المستقلّ للمنطقة بعد الحرب العالمية الأولى، فتح ديناميكية إنتاج الكيان الصهيوني. وسيُسجَّل أنّ القتال، بدءاً مِن «طوفان الأقصى»، الذي أدّى إلى تحوّل محور المقاومة من الحيّز النظري إلى الواقع الفعلي (وبالتالي الانطلاق نحو إعادة تشكيل نظامٍ أمني إقليمي مستقلّ عن النفوذ الخارجي، معزّزٍ بحركةٍ دبلوماسية ذكية)، قد فتح ديناميكيةَ تفكيك الكيان وإعادة الأرض إلى أصحابها.

المصدر: علي الشاب/ صحيفة الأخبار