آخر سفير لإيران في الاتحاد السوفياتي للوفاق:

رسالة الإمام الخميني (قدس) تدعو غورباتشوف للتخلي عن الشيوعية والتوجه للإسلام

الإمام الخميني الراحل (قدس) سعى عبر رسالته بمضمونها السياسي والعقائدي تحذير الرئيس السوفياتي غورباتشوف من الإنحراف مشيراً إلى المسار الصحيح الذي عليه اتخاذه

2023-01-09

الوفاق/ خاص /عبير شمص

تصادف في مثل هذه الأيام الذكرى السنوية الثالثة والثلاثون لرسالة مفجّر الثورة الإسلامية الإمام الخميني (قدس) إلى رئيس المجلس الأعلى لإتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية “ميخائيل غورباتشوف” آخر زعيم للإتحاد السوفياتي، وذلك في عام ١٩٨٩، في وقت كان الاتحاد السوفياتي يعد ثاني أقوى دولة في العالم. وحملت دعوة إليه، للتخلي عن العقيدة الشيوعية، والتفكير في قضية وجود الله عز وجل، وعلى التعرف إلى النظام الإسلامي الذي يحمل الحلول للمشاكل البشرية كافة، ومبيناً له خطورة الانجرار إلى النظم الرأسمالية التي تعاني هي الأخرى من مشاكل لا تقل خطورة عما يعاني منه النظام الاشتراكي نفسه. لقد اعتبرت هذه الرسالة تاريخية نظراً لمضمونها وجرأة كاتبها، والتي كشفت عن أهم أزمات العصر الحديث المتأتية من الإيدولوجيات الوضعية، وما اشتملت عليه من دعوة صريحة إلى اعتماد الإسلام ليصبح بديلاً عن الأنظمة الحاكمة.

يقول الإمام الخميني (قدس) في رسالته : “حضرة السيد غورباتشوف، لقد وجه الزعيم الصيني ماو تسي تونغ الضربة الأولى للشيوعية، وها أنتم تنزلون بها الضربة الثانية، ويبدو أنها القاضية. ولكنني أطلب منكم، على نحو أكيد، أن تحذروا من الوقوع في سجن الغرب والشيطان الأكبر فيّما أنتم تحطمون جدران الماركسية”.

وتجدر الإشارة إلى أنّ غورباتشوف نفسه أعلن ندمه لعدم تنفيذ وصية الإمام الخميني (قدس)، معلناً لأحد الصحفيين بعد حوالي 12 عاماً من رسالة الإمام الراحل “إني أتأسف لعدم تفهمي لتلك الرسالة آنذاك كي لا يقع الاتحاد السوفيتي في هذا الوضع”.

في هذه المناسبة أجرت جريدة الوفاق قراءة تاريخية للرسالة مع آخر سفير لإيران في الإتحاد السوفياتي السابق الدكتور ناصر نوبري والذي كان ضمن الوفد الذي أرسله الإمام الخميني(قدس) إلى موسكو للقاء غورباتشوف بتاريخ 3 كانون الثاني 1989م، وكان هذا الحوار:

ما الذي دفع الإمام الخميني(قدس) لتوجيه رسالة إلى رئيس الإتحاد السوفياتي السابق غورباتشوف و ما هو محتوى الرسالة؟

في العالم ثنائي القطب آنذاك، كان الاتحاد السوفياتي أحدى القوتين العظيمتين في العالم، لكنه عانى من تخلف وأزمة داخلية عميقة، وسعى زعيم البلاد غورباتشوف بصفته مصلحاً لإجراء إصلاحات وإنقاذ البلاد مما هي كانت فيه، وقد بيّن غورباتشوف أنّه جاد في هذا المسار، لكن الأمور أصبحت غامضة ومُربكة بالنسبة له.

من جهته سعى الإمام الخميني الراحل (قدس) عبر رسالته بمضمونها السياسي والعقائدي تحذير الرئيس السوفياتي غورباتشوف من الإنحراف مشيراً إلى المسار الصحيح الذي عليه اتخاذه.

رسالة الإمام الخميني كان لها فحوى سياسية وايديولوجية، ففي الجانب السياسي حذر غورباتشوف من مغبة الثقة بالغرب وأنّ لا يعتمد على العلاقات مع الغرب ولا على مساعداته، مؤكداً على أن هذا الغرب يظهر نفسه كصديق الإتحاد السوفياتي الوفي لكنه في ساحة الفعل والواقع لن يتعاون ويتعاضد مع الاتحاد السوفياتي .

في الجانب الإيديولوجي، صرّح الإمام بادئ الأمر بأنّه يراقب عن كثب وبدقة الإجراءات التي يتخذها غورباتشوف وتبيّن له أنّ هذا الأخير لا يؤمن بالشيوعية، فطلب منه أن يضع نهايةَ رسميةً وعلنية للشيوعية في الإتحاد السوفياتي.

وقد بّين الإمام الراحل بالتفصيل إنّ التوجه إلى المادية ومجابهة المعتقدات الوحدانية والإيمان بالله، هي معضلة كبرى للاتحاد السوفياتي، مؤكداً على ضرورة تحرك ذلك البلد باتجاه المعتقد الروحي والإيمان بالباري تعالى، ولذا اقترح مطالعة كتب ومؤلفات الفارابي وابن سينا والسهروردي وصدر المتألهين ومحي الدين ابن عربي.

من هم الذين أوصلوا الرسالة إلى غورباتشوف ولماذا تمّ إختيارهم من قبل الإمام الراحل(قدس)؟

قام الإمام الراحل بنفسه باختيار شخصين ضمن الوفد، أي آية الله جوادي آملي والسيدة مرضية دباغ، أمّا أنا فقد شاركت بصفتي سفير إيران لدى الإتحاد السوفياتي السابق والسيد جواد لاريجاني بصفته مساعد شؤون أوروبا وأمريكا في وزارة الخارجية، لنُشكل وفداً من أربعة أعضاء.

تجدر الإشارة إلى أن الإمام الخميني(قدس)، ونظراً لأن مضامين رسالته مفصلة وذات أهمية عالية فلسفياً وعقائدياً ، فقد اختار آية الله جوادي آملي ليقدم ويعرض هذه الرسالة، كما اختار الإمام الراحل السيدة دباغ عضواً في الوفد ليُبيّن أنّ الإسلام يولي أهمية واحتراماً إستثنائياً للمرأة، وعلى الجمهورية الإسلامية بدورها أن تولي هذا الإحترام والدور الرفيع للنساء.

 ما الذي حدث في الإجتماع مع غورباتشوف وكيف كانت معاملته معكم كأعضاء للوفد؟

قبل  اللقاء مع غورباتشوف، ونظراً لتأكيد الإمام الراحل على ضرورة تخلي الرئيس الروسي عن الشيوعية والتوجه نحو الإسلام، تصور الوفد أن غورباتشوف ستُثار حفيظته وسيتعامل بحدة مع رسالة الإمام لكنني كنت مخالفاً لهذا التصور وتكهنت بأنه سيتعاطى باحترام، وكان الأمر كذلك. علماً أن غورباتشوف بيّن أنه تفاجأ للغاية من محتويات الرسالة ولم يكن يتوقعها. وكان يوجه أنظاره تارةً إلى يساره حيث جلس رئيس لجنة العلاقات الخارجية للحزب الشيوعي، وتارةً إلى يمينه حيث كان وكيل وزارة الخارجية الروسية. وقام بإغلاق ملف موضوع على الطاولة أمامه، وقد دلت نظراته على أنّ ما من أحد من أعضاء حكومته توقع مثل هذه الرسالة. لكنه قال في نهاية الأمر إنّ الرسالة مفهومة تماماً وهي جديدة عليه ويتوجب مطالعتها وسيرسل في المستقبل في أقرب فرصة سانحة وزير خارجيته لمقابلة الإمام وإطلاعه على الجواب.

 كيف تعاطى الإتحاد السوفياتي مع الرسالة ؟

لم ينشر الروس نص الرسالة، بل اكتفوا بالتأكيد على مجملها وأعربوا عن الأمل في إحلال علاقات حسن الجوار بين البلدين. لكننا قمنا بنشر هذه الرسالة في إيران، والتي قام الروس بحذف أجزاء منها في الاتحاد السوفياتي، وبهذا لم يطلع عليها عامة الناس والمسلمين في ذلك البلد. لكن السفارة بذلت الجهود لنشرها وتناقلتها الأفواه، وبعد ستة أشهر وإثر رحيل الإمام، قمنا بفتح كتاب لتقديم التعازي، وكان المطر في ذلك اليوم ينزل بغزارة، جاءت شابة روسية مبللة تماماً بمياه الأمطار، إلى السفارة ورمت بنفسها على الأرض مقابل صورة الإمام الراحل وقالت والدموع تنهمر من عينيها إنّ الإمام الخميني الراحل(قدس) رجلٌ عظيم الشأن في عالمنا والذي تحلى بالشجاعة داعياً زعمائنا الشيوعيين للإيمان بالله، في حين لم يجرؤ قادتنا المسيحيون الى مثل هذا.

تحقق ما قال الإمام الخميني(قدس) لغورباتشوف وإنهار الإتحاد السوفياتي بعد مضي سنوات قليلة من توجيه الرسالة التحذيرية لغورباتشوف. برأيكم ما هو العامل الرئيسي لإنهيار الاتحاد السوفياتي؟

ارتكب غورباتشوف خطأً استراتجياً، وتوجه إلى ممارسة السياسة الخارجية والمفاوضات وإزالة التوتر مع أمريكا والغرب. من جانبهم ضغط الإصلاحيون بشكلٍ متواصل على الرئيس وتذكيره دائماً بأنّ الخطوات التي اتخذها نحو الغرب وخفض التوتر معه غير كافية ويتوجب عليه إتخاذ خطوات أكبر. عندما يواجه بلد استياءً وأزمة داخلية فالحل لن يكون في الخارج، أمّا  ضغوط الإصلاحيين على الحكومة  للتوجه نحو الخارج أثناء الأزمة الداخلية فتُعبر عن حماقة وخيانة بحق البلاد، أي بعبارةٍ أخرى كان الإصلاحيون يقولون : إمنح الإمتيازات للخارج لكي تتغلب على المشاكل الداخلية. هذا في حين أنّ الأزمة الداخلية تُحل بإعطاء الامتيازات للشعب في الداخل والتوجه يجب أن يكون للداخل للحل، وليس التوجه وإعطاء الامتيازات للأجنبي! فمن وجهة النظر الوطنية، عند بروز أزمات داخلية فإنّ التغلب على مشاكلها يجب أن يبدأ عبر حلها اعتماداً واتكالاً على الشعب ونيل ثقته.

فأمريكا سعت لسنوات عديدة أملاً بانهيار الاتحاد السوفياتي، فكيف يمكن توقع تقديمهم المساعدة لك وإنقاذك من الانهيار والتفكك. فكما ذكّر الإمام في رسالته إلى غورباتشوف، الغرب يُمني بالأمل لكنه لا يقدم العون في ساحة العمل. جاء الأمريكان إلى طاولة المباحثات واستغلوا الفرصة وحصلوا على امتيازات، لكنهم لم يقدموا ولا حتى أقل ما يمكن من المساعدة ولم يقدموا حتى أقل مقدار من القرض، بل رفضوا طلباً بذلك من غورباتشوف.

من جهةٍ أخرى إعتقد المحافظون والمتعصبون الإيديولوجيون إنّ أي شكل من أشكال التحول والتعديل البنيوي لمصلحة الشعب أو التعاطف معهم من قبل غورباتشوف سيؤدي إلى سلسلة تحولات، كقطع الدومينو، مؤدياً إلى إنهيار النظام. هذا في حين أنّ العكس هو الصحيح، إذ أنّ عدم إحلال التحول الأساسي وفي الوقت المناسب لصالح الشعب سيحول الجماهير كالسيل العارم للقضاء على النظام بسرعة. كان المحافظون والدوغماتيون المتعصبون قد تمردوا وأقدموا على قمع الناس، منعاً منهم لأي تحول من قبل غورباتشوف.

من ناحيةٍ أخرى، فإنّ الإصلاحيين الذين اعتبروا خطوات غورباتشوف والتحولات التي قام بها غير كافية، عملوا على دعوة الشعب إلى الشوارع وأقدموا بدايةً على إنهاء التمرد ثم أسقطوا غورباتشوف وأسقطوا الاتحاد السوفياتي ونصبوا يلتسين حاكماً في روسيا المستقلة.

يُذكر أن يلتسين أبدى كل أشكال الميل نحو أمريكا والغرب، إلى حد انتشرت إشاعة بأنّ واشنطن تتدخل في شؤون روسيا إلى حدّ عينت “كوزيروف” وزيراً لخارجية لها، لكن أمريكا والغرب لم يقدموا أي عون ومساعدة فوصل الفقر والفاقة إلى أوجه وذلك خلال عقد من الزمن في روسيا، وعملت أمريكا على فصل جنوب البلاد وكذلك على انهيار روسيا الضعيفة تماماً . لكن بالنهاية استيقظ الشعب الروسي واستقال يلتسين من منصبه بعد تقديمه الاعتذار وإعرابه عن الندم لما جرى.

كما ذكرت آنفاً كانت هناك عوامل عديدة أدت لانهيار الاتحاد السوفياتي، لكن العامل الأساسي هم المحافظون المتعصبون الذين لم تسمح إيديولوجيتهم المتعصبة بإحداث تحولات واسعة وفي الوقت المناسب وإصلاحات بنيوية جدية، وأقدموا على قمع الشعب ما أدى إلى توجه الشعب بأعدادٍ هائلة إلى الشوارع وبالتالي إلى التداعي التام للنظام. علماً أنّ هذه التحولات والإصلاحات البنيوية أجرتها الصين الشيوعية، لتضحى وحزبها الشيوعي الآن إحدى القوتين العظميتين الدوليتين، في حين ذهب الإتحاد السوفياتي وحزبه الشيوعي أدراج الرياح.

ختاماً نستطيع القول لقد احتوت رسالة الإمام إلى غورباتشوف مجموعة قيمة من الدروس في السياسة والفلسفة، وحملت من التنبؤات ما جعلها فريدة في بابها. فقد حملت أفكاراً في الفلسفة ثمينة، من ذلك الصنف الذي تخلت عنه الإنسانية، التي انساقت في تيارات الثقافة الأميركية السطحية التي تخاطب الغرائز وتحارب كل ما هو أصيل لدى الإنسانية.